الموت في لندن

* أمجد ناصر

الناسُ، أيضاً، تموتُ في لندن. مثلما هو الحالُ في أيِّ مكانٍ آخرَ. يموتونَ بعد تساقطِ أوراقِ تلك الشجرةِ الغامضةِ، على أسرَّةِ الليلِ والضحى، في الشارع الذي تتدفَّقُ فيه الحياةُ المعاد استعمالها في كل اتجاه، في المستشفيات التي يدخلونَها على أقدامهم ويخرجونَ منها محمولين. هناك، أيضاَ، مَنْ يصمِّمُ موتَه بيده، يرمي نفْسَه أمام حافلةٍ أو قطار. يبتلعُ مائةَ حبَّةِ مُنوّم. يقفزُ من جسر لندن إلى مياه التيمز الآسنة. جارتي الإنكليزيةُ العجوزُ، التي سمّيتُها مسز موريس، لأنني لم أكن أعرفُ اسمها الحقيقيَّ، ماتتْ أيضاَ. كلبُها ماتَ قبلَها. عليكَ أن تكونَ عجوزاً، وحيداً، مُهْمَلاً، في مدينةٍ تلهثُ مع عقاربِ الساعةِ، ولا أحدَ فيها يلتفِتُ الى الوراء، لتدركَ ماذا يعني أن يموتَ كلبُك. ليس ضرورياً أن تكون عجوزاً، وحيداً. نعم. مسز موريس ماتتْ من الوحدة والضجر وثقلِ السنين. ظلتْ تتذكَّرُ حتى آخرِ لحظةٍ، لا ريبَ، أيامَ الامبراطوريةِ في الهند. قالت لي مرةً، وهي تتطلعُ الى سماءِ لندنَ الرماديةِ: إنكم أفضلُ حالاً هناك! قلت لها: أين؟ فقالت: في الهند! قلت لها: في الأردن، لكنها واصلت مُنُولوغَها الداخليَّ: الحضارةُ أفسدتْ كلَّ شيءٍ! كانت هناك نجومٌ في سماء لندن، ذاتَ يومٍ، مثلَ النجومِ التي تطرّزُ سماءَكم في الهند! صحَّحتُ لها مرةً أخرى: في الأردن! غير أنها لم تكن تسمعُني. إنني جارهُا الهنديُّ حتى وإن كنتُ من الأردنّ. السيخيُّ المعمَّمُ، الذي كان يمشي كلَّ يومٍ، بخطو السلحفاةِ ولكن بقامةِ رمحٍ بنجابيٍّ، الى المكتبة العامة في “هانسلو”، ماتَ كذلك. رأيتُ، وأنا أعودُ الى بيتنا، لمَّةَ بشرٍ أمامَ بيتِه. كانوا رجالاً. الآباءُ مُعمَّمونَ، الأبناءُ يلفُّونَ رؤوسَهم بمحارمَ صفراءَ. لم يكن ثمة صوتٌ. لا صراخٌ ولا بكاءٌ ولا شيءَ من هذا القبيل. مجردُ جمهرةٍ من الرجال يقفونَ في صمتٍ أمام البيتِ وسيارةِ نقلِ الموتى السوداءِ برجال الدفّنِ الإنكليزيينَ، المُجَلَّلِينَ بالسّوادِ المهنيِّ، يتأهّبونَ لنقل الجثمان الهَشِّ إلى المحرقة.

لم أعد أرى ذلك الرمحَ البنجابيَّ المُزْمِنَ يحثُّ الخطى الى المكتبة العامّة ليقرأ صحيفةَ “هندوستان تايمز”، ولا صاحبَهَ الإنكليزيَّ السمينَ، الذي يفردُ صفحاتِ الجرائد أمامه، ويغطُّ في نوم مداريٍّ، لعله ماتَ هو أيضاً أو انتقل الى مقاطعةٍ أخرى. ومع أنَّ لندنَ مدينةٌ أفقيةٌ إلا أنَّ أناساً بالقربِ من “السيتي” يلقونَ أنفسَهم من الشرفات. بيتٌ من طابقين، مثل بيتي، لا يصلحُ حتى لكسرِ قدمٍ، لذلك لا يسجلُ الموتَ في الضواحي رقماَ قياسياَ في القفز.

 

  • نشر الشاعر الراحل أمجد ناصر هذه المقالة على صفحته في الفيس بوك في 6 نوفمبر 2014

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *