جمال القيسي

عمّان..مساء الأحد

( ثقافات )

*جمال القيسي

أي مساء يضمني خارج عمان مهما يكن جميلا لا يعوّل عليه.

من هنا.. من قاعةِ عمان في المركز الثقافي العربي في جبل اللويبدة سأحدثكم قليلا عن قريتي الكبيرة عمّان:

قبل خمسين عاما جئت للدنيا حرفا عاديا جدا •• أضافني أبي وأمي في لحظة عشق، لكتاب الحياة فكنت. جئت حرفا لا رقما؛ أعشق الحروف التي يتشكل منها الكلام، ولا أفهم طلاسم الأرقام؛ فلا غرابة إذن أني في الصف الأول الابتدائي (ج) عشقت كتاب اللعة العربية ونسيت في الدرج كتاب الحساب.

ما أزال أذكر اليوم الأول في المدرسة، وهذه ليست ميزة أو تفوق في الذاكرة بالطبع، لكني أحب التباهي بذاكرتي ولا أعرف السبب!

وهي ذاكرة بصرية وجدانية.

في يومي الأول في المدرسة، أديت صلاة الفجر رفقة والدي، رحمه الله، في مسجد السوق المركزي، ثم بعد درس أحكام التجويد عدت إلى البيت فاحتضنتني أمي وقبّلتْ وجنتيّ وحثتني على الإسراع إلى المدرسة؛ فمن غير المعقول أن تتأخر في أول يوم دوام!

وكذلك أوصت شقيقتي وزميلتي نوال!

لعل هذا ما جعلني دقيقا في الالتزام بمواعيدي طيلة حياتي، رغم أني لست منظما إلى هذا الحد في أشياء أخرى كثيرة!

تقول الحقيقة، ويشي الواقع أني لست منظما، وفي الوقت ذاته، لست فوضويا مطلقا، وأدركُ كنْه أفعالي وأقوالي، ويستطيع قلبي الأبيض أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، رغم ما يرجف المرجفون في المدينة. الخيط الأسود روايتي الأولى بالمناسبة. تلك الرواية التي تبِعَتْ الطفلَ منذ خروجه من درس التجويد. منذ رحل جسدا من حارة الدبايبة في الخامس عشر من تموز من العام 1985.. تلك الحارة حارتي، ومسقط رأسي وقلبي في العام 1970 .. تلك الجنة التي تنام آمنة مطمئنة على يمين شارع مادبا؛ فيما على يسار الشارع يحلم بالعيد وبالعودة قلبُ مخيمِ الوحدات.     

في خريف العام 1976 سرت رفقة نوال، ممسِكَين بأيدي بعضِنا فمشينا وضحكنا ضحك طفلين معا  وعدونا فسبقنا الطلبة كلهم في مدرسة عبد الرحمن بن عوف الابتدائية.

كنا خرجنا قبيل شروق الشمس. وقفنا بباب المدرسة قبل أن تفتح أبوابها. وصلناها ضاحكَين لكننا غادرناها ببكاء مكتوم.      عمان قرية كبيرة فيها ولدتُ، وفيها أحيا، وفيها تلك اللحظات قبيل ولادتي صباح التاسع عشر من آب من العام 1970 حيث هناك رجل نبيل. طيب. أب حنون حقيقي، ينتظر (ذكرا) بعد ستِ إناث، ويؤمّل النفس أن تبشّره الداية بالولد!

فيهتف داخل نفسه، وهو يغالب دموعه: أخيرا! هل سيأتي من يقف إلى جانب شقيقيه في تحمل أعباء شقيقاته! يا للحِمل الثقيل!

  يا رب ولد!

كأني به يموسق الخبر، ويتردد في باله المثل الدارج الذي تردده أمي بلا انقطاع: (يومـــ (ن) قالوا لي ولد.. اشتدّ ظهري وانسند)! 

أمي قالت إن شقيقتي الكبرى (فِضّة) هي التي هرعت بل انطلقت بأقصى فرحة وسرعة لإحضار  الداية من أم الحيران؛ حين أزفت الآزفة التي أعلنت قرب ميلادي!

فضة.  كأني أراها الآن•• فتاة في السابعة عشرة تركض طويلا ببراءة مضحكة محزنة حتى تبلغ بيت الداية• متلجلجة كانت ومسرورة، ترجو الداية الحضور بأقصى سرعة لأن أمها ستلد في أية لحظة. أخبرتني فضة أنها ظلت تدعو الله سرا وجهرا في ذلك اليوم:

يا رب ولد!  يا رب ولد!  كرمى لعين أمي وكرمى لعين أبي، وكرمى لعيون البنات!

ثم ترجو الداية في الطريق: يا خالة ادعي لأمي ..قولي يا رب ولد. وفي نفسها لربما كانت تحدث نفسها فضة: ولد لست أخوات يكبر سريعا يصير رجلا من رجال البيت ..نستظل بظله هو وفهد وناصر. ما أجمل أن يكون للبنات ظِل ثلاثة رجال!  أما أنا فكنت مستعجلا جدا للخروج وطال تلكؤي في نظر أبي كثيرا• خرجت سريعا قبل وصول الداية لأني كنت أخشى مزاجه العصبي وغضبه قبل أن أولد! 

عرامة رغبتي في الخروج  كانت كي يعلن الرجل الطيب عن فرحته لرفاق السلاح في كتيبة خالد بن الوليد في ماركا حين يصله على المعسكر (تلفون) تبشره فيه فضة بالولد!

لم يكن في بيتنا هاتف ولا كهرباء في تلك الأعوام، لكنها فضة ركضت سريعا ومشت كثيرا كي يفرح (أبو البنات) ويضحك ملء قلبه، ويشعر بالفخر كأن له أي يد أو لي أو لأحد، في بطولة عظيمة مفادها أني (ذكر)!

نكتفي بهذا القدر لكي أعلن بسبب هذا كله أو بعضه تصلبت حقا وبما يكفي لأن أقول:

حاربيني يا نائبات الليالي

 عن يميني تارةً وعن شمالي

إنّ لي همِّة أشدّ من الصخرِ

 وأقوى من راسيات الجبالِ

وبما يكفي لأن أقول كل مساء: مساء الخير يا عمان

وبقلب لا يهاب: لا رايات بيضاء!

* كلمتي في حفل إشهار وتوقيع كتابي “لا رايات بيضاء” في المركز الثقافي العربي مساء 18/10/2020

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *