الشيخ عبد العزيز الثعالبي: طليعة نضالية تونسية أهملها التاريخ

  • د. فتحي القاسمي

يُعتبر الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي (1876 ـ 1944م) أحد أركان الكفاح الوطني والفكريّ التّونسي في العصر الحديث، وقد كان زعيم الحركة التحريريّة والفكريّة قطريّا ومغاربيًّا وعربيّا وإسلاميّا وكونيّا.

إنه زيتوني ثائر ومفكر رحّالة، جاب الشّرق والغرب وبلغ به التّرحال سنغافورة، وترك كمّا من الكتب والرّسائل المتبادلة مع علماء عصره وأقطاب النّضال الوطني والفكري في العالمين العربي والإسلامي.

اتّسمت مسيرته النّضالية المديدة بالإصرار على استنهاض الهمم واستحثاث النّفوس لتحقيق إرادة الفعل والتمرّد على إرادة العجز والسّير في ركاب السّبل المسطورة، فدفع ضريبة الغربة وكابد ظلم ذوي القربى من أبناء وطنه، ومات وبه حسرة أقضّت مضجعه وأنقضت ظهره خصوصًا عندما عاد عودته النّهائية إلى تونس بعد هجرةٍ إلى الشرق دامت زهاء خمس عشرة سنة.

كان للثّعالبي الفضل في قدح شرارة النّضال في تونس ومواجهة الاستعمار وأتباعه، وهو لم يبلغ العشرين من عمره بتأسيسه جريدة “سبيل الرّشاد” التي نبّهت الغافلين إلى خطورة ما يُحاك ضدّ البلاد التّونسية وحثتّ على الدّفاع عن الوطن والفكر، وندّدت بالتقليد والانقياد، فتمّ إيقافها فتحوّل الثّعالبي إلى الشرق وازداد ثورةً وإصرارّا على نقد واقع المسلمين، وتأثّر بالأفغاني وتلميذه محمّـد عبده. وعاد إلى تونس وشنّ الغارة على دعاة الجمود والتقليد وعُبّاد الأضرحة وقُداس الأولياء الصّالحين ومعشر المفتونين بـ”العادات القبوريّة”. 

وكان المجتمع التّونسي مع مطلع القرن العشرين محكومًا بسنّة الأوّلين، ويسيطر عليه التقليديّون الذين انتقدهم الثّعالبي نقدًا لاذعًا فتألّب عليه السّاخطون على فكره، وزُجّ به في السّجن سنة 1904م، وفي السّنة الموالية أصدر كتابه الأوّل “روح التحرّر في القرآن” (L’esprit Liberal du Coran)، وكان باللغة الفرنسيّة. وتميّز نضاله منذ مطلع القرن العشرين، رغم أنّه زيتوني بالاحتكاك بالتّنظيمات والجمعيّات النّشيطة وذات الميولات الاشتراكيّة مثل منظمة الذبّ عن حقوق الإنسان. وسرعان ما تفاعل مع حركة الشّباب التّونسي بقيادة محمد علي باش حانبة وكان لسان حالها جريدة   “Le Tunisien “، وكلّف باش حانبة رفيق دربه الثّعالبي سنة 1909م بإصدار النّسخة العربيّة من تلك الجريدة. وكان الثّعالبي يفتتح جريدة التّونسي بسانحة تنبّه الشّبيبة التّونسية إلى مسالك التّحرير والتّنوير الذي بلغ درجة عاليةً من التنديد بالهيمنة الاستعماريّة مع أحداث الجلاز (1911م) والتّرامواي (1912م)، فقرّر نظام الحماية نفي الثّعالبي ومحمد علي باش حانبة ومحمد نعمان والحيلولة دون تمدّد وعي التّونسيّين ورفضهم للاستعمار والاستبداد والهيمنة على مجتمع شرع في صياغة مشروع الإصلاح والتطوير قبل انتصاب الحماية الفرنسيّة بعقود. 

بلغت مواجهة الثّعالبي لفرنسا الاستعمارية ذروتها في نهاية العقد الثّاني من القرن العشرين (1919 ـ 1920م) وقد شد الرّحال إلى باريس حيث أصدر كتابه الحدث وبلسان فرنسي مبينLa Tunisie Martyre  “تونس الشهيدة” وضمّنه مطالب التّونسيين (Revandications)، ونبّه الفرنسيّين إلى عمق الثّقافة التّونسية وأصالة الفّكر والتّسامح في أرجائها عبر التاريخ. ثم فاجع الفرنسيّين منذ قرن بتأسيس الحزب الحرّ الدّستوري التّونسي (مع ثلة من رفاقه المدرّسيّين الزيتونيّين)، وأُعيد الثّعالبي مقيّدًا في الأغلال. وبعد المحاكمة حُكم عليه بعدم سماع الدّعوى، وفي ذلك اعتراف فرنسيّ ضمنيّ بعدالة قضيّته. ومن سُخط القدر أن يتزامن ذلك مع إصدار بعض معاصريه من التّونسيين، وعلى رأسهم الاشتراكي حسن قلاّتي مؤسس الحزب الإصلاحي للرّسالة البتراء القائمة على معاداة الثّعالبي واتّهامه باختلاس أموال الشّعب.  

عندما تعاظم وعي التّونسيين بالقضيّة الوطنيّة وعدالتها وتنامى التّعريف بها في المنابر الدّولية، بعد أن وضعت الحرب العالميّة أوزارها، سعت فرنسا إلى الضّغط على القصر في عهد الناصر باي والتّآمر على الثّعالبي وتضييق الخناق عليه، فاضطرّ إلى الهجرة إلى الشّرق سنة 1923م والحزب في أوج نشاطه، وقد استقطب عددًا هامّا من الشّبيبة التّونسية وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة. وخاض الثّعالبي في الشّرق تجربةً نضاليّة ثريّة ومفيدة منقطعة النّظير، ويمكن رصد أهم بصماتها في: 

1) المشاركة في مؤتمر الخلافة بالقاهرة (1926م) وانتقاله من المراهنة على الأمميّة الإسلاميّة (Panislamisme) إلى العروبة والقوميّة العربيّة. وقد سار على خطاه عدد من زعماء النّضال مشرقًا ومغربًا وعلى رأسهم الأمير شكيب أرسلان الذي كان صديقًا مقرّبا من باش حانبة والشيوخ المهاجرين صالح الشّريف وإسماعيل الصفايحي، ومحمد الخضر  حسين، وجعل قرة عينه الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي . 

2) الإعداد لمؤتمر القدس (1931م) وجمع كلمة وفود العالم الإسلامي من أجل نصرة القضية الفلسطينيّة والتّصدي للتمدّد الصّهيوني في القدس بعدما مهّدت له معاهدة سايكس بيكو ووعد بلـفور اللّذين تم إعدادهما بدعم منقطع النّظير من فرنسا وبريطانيا. وقد كان للثّعالبي الفضل الأكبر في استقدام وفود العالم الإسلامي ونشر مخرجات ذلك المؤتمر الهام.

3) نجح في رأب الصّدع بين اليمنيّين وتوحيد كلمتهم.

4) دافع عن المشرّدين والمنبوذين في الهند، وجمع لهم الدّعم المادّي والمعنوي.

وقد احتكّ الثّعالبي بعلماء الشّرق وحكامه، وكانت له منزلة مخصوصة عند الملك فيصل الذي قرّبه وأجلّه وبوأه الصّدارة فيمن عنده. وقد درّس هنالك وحظي بصداقة كبار الشعراء والأدباء، وتنافس على مدحه وذكر شمائله  كل من الرّصافي والزّهاوي. ورام الثّعالبي العودة إلى تونس سنة 1934م فرفض نظام الحماية ذلك. وكان الحزب الحرّ الدّستوري قد تعرض إلى حملات تشويه ومحاصرة من قبل أتباع الحزب الدّستوري التّونسي الذي أسّسه الرّاحل الحبيب بورقيبة إثر عودته من فرنسا وانسلاخه من اللجنة التّنفيذية وتأسيسه للدّيوان السّياسي. وكان الثّعالبي يتلقى بحسرةٍ كبيرةٍ الرّسائل التي تروي له تعرّض حزبه وأنصاره ومقرّات الحزب لشتّى أنواع الاعتداء. وفي فترة صعود الاشتراكيّين إلى الحكم في فرنسا (1936م) سُمح للثّعالبي بالعودة، فكان ذلك في صيف 1937م، وأقام له المصريّون حفلات توديع مشهودة (حفلتا آل عبد الرّازق وآل الزنكلوني…). 

واستقرّ الثّعالبي إثر عودته النّهائية بالمدينة العتيقة (الزاوية التكرية بباب الأقواس ـ الحلفاوين) بعد أن ألقى خطابًا مؤثرًا في ساحة قنبيطا ((Gambeta (ساحة حقوق الإنسان اليوم قبالة مدينة الثّقافة)، وغمره السّرور برؤية بورقيبة والشّبيبة التّونسية يستقبلونه استقبالاً أثلج صدره، وجنّد له بورقيبة عشرات الآلاف من أبناء الكشّافة التّونسية امتلأت بهم ساحة قنبيطا والفضاء المحيط بها، وطلب منه بورقيبة أن يكون حكمًا بين أتباعه (الدّيوان السياسي) وأتباع الحزب القديم وقياداته (اللّجنة التنفيذية). وطفق الثّعالبي يجوب كلّ الجهات التّونسية ساعيًا إلى رأب الصّدع وتوحيد كلمة أتباع الحزبيين القديم والجديد، وقصّ عليه أتباع الحزب القديم ما كابدوه من اعتداءات ومؤامرات نسج خُيوطها أتباع بورقيبة. 

وتوجّه صوب جهات السّاحل فتم الاعتداء عليه وإهانته ورميه بالمقذوفات فعاد إلى تونس، وأعلن كلمته الحاسمة في إدانة ما أسماه بحزب “بُورأسين”. وندّد بالممارسات المسيئة ولوائح الأضاليل ضدّه وضدّ حزبه، وتفاقم التـحامل عليه ليصل حد التّصفية الجسديّة في أواخر ديسمبر 1937م بجهة ماطر عندما ترأس الثّعالبي اجتماعًا شعبيّا، ودبّرت له مؤامرة اغتيال ذهب ضحيّتها أحد أنصاره على مرأى من الأمن الفرنسيّ الذي كان حاضرا بكثافة. وأبى الثّعالبي إلا أن يبيت بماطر ليصلّي الجنازة تكريمًا لروح من قتل ظلمًا بأيد آثمةٍ. 

حُوصر الثّعالبي من كلّ مكان، وتهاطلت  عليه الأمراض ومنع كثيرٌ من أنصاره من زيارته، ولم يتيسّر إلاّ للمقيم العام الفرنسي ولسفير الولايات المتحدة الأمريكية زيارته، ولم يبق من الأوفياء له إلاّ رفيق دربه وخليفته بعد رحلته إلى الشّرق الحبيب شلبي والحكيم أحمد بن ميلاد وزوجته نبيهة بن عبد الله. ورغم كلّ تلك المنغّصات أمعن الثعالبي في الكتابة والتأليف وفي الاجتماع ببعض الأوفياء من أنصاره ضد الاستعمار الفرنسي والزحف الألماني على تونس بداية الأربعينات، وكان دائم المراهنة على الثّورة البيضاء، ثورة العلم والمعرفة والحضارة والفكر، فهي خير وأبقى، وبها تتم هندسة العقول وبناء صرح الحضارات. 

  عاد الثّعالبي من الشرق حاملاً تجربةً فريدة في الإصلاح والتنوير والتّحرير ورصيدًا هائلا من العلاقات وخارطة طريق تجعل من تونس قبيل استقلالها قاعدةً لقاطرة التّحرر الشّامل من ربقة التّقليد ولوثة الاستعمار. وسُرّ بوجود شبيبة مثقّفة على رأسها بورقيبة، ولكن سرعان ما قلبوا عليه ظهر المجنّ وحاصروه وتصدّوا لأنصاره، وأضاعوا على تونس فرصة تناغم وتكامل بين الأفكار والقناعات والأطروحات بعيدًا عن الاستفراد بالسلطة ورفع العصا في وجه من خالفهم الرأي. 

ولا شك أنّ عشق الذات لدى الرّاحل بورقيبة و”شهوة الملك” كما يقول ابن خلدون ورفض المنافس له قد دفع ضريبتها أوّلا الشّيخ الثّعالبي ثم عدد من أتراب بورقيبة ممن نافسوه وخشي سطوتهم وتميّزهم من أمثال البحري ڨيڨة ومحمود الماطري والحبيب ثامر. ثم تحوّل الإقصاء والتّهميش مع هؤلاء إلى استئصال وتصفية تجلّت مع صالح بن يوسف واليوسفييّن وكلّ الذين خالفوا بورقيبة الرّأي، وكانت لهم شرعة ومنهاج لم يرض عنها بورقيبة وعِتْرته. 

مرّ على رحيل عبد العزيز الثّعالبي زهاء ثمانين سنة وهو نسيٌ منسيّ وتراثه المطبوع شاهد على رجاحة فكرٍ ورحابة عقلٍ شهد بفرادته أهل الشّرق والغرب، وله رسائل جمّة ومؤلّفات مخطوطة ما أشدّ حاجتنا إلى إخراجها من دهاليز الإهمال والنّسيان. وعسى أن تكون الذّكرى المئوية لتأسيس الحزب الحرّ الدّستوري التّونسي فرصةً لردّ الاعتبار لهذا الزّعيم الذي ظُلم حيًّا وميّتًا، وهو الذي نذر حياته وأهمل أسرته وهَتك صحّته من أجل أن تظل راية تونس خفاقةً أبد الدّهر. 

*رئيس مركز عبد العزيز الثّعالبي للدراسات الإسلامية والاستشرافيّة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *