يؤخذ على المرآة صراحتها

بل إن بعضهم وصفها بقلة الحياء، ولئلا نفترض مسبقاً جمودية المرآة أو حيويتها، ينبغي علينا التحلي بالتريث ورحابة الصدر وعدم التسرع. فليس بيدنا نفي طبيعة الأشياء، خصوصاً إذا كانت أشياء متصلة بالفيزياء الصارمة الخارجة عن سلطة التمني الأخلاقي. حين تقف عارياً أمام المرآة فتكشف لك فضيحة صنيعك، فتلك من طبيعة المعنى المباشر للحقيقة العارية.
وبالتالي فإن المرآة لا تصدر عن عدوك أو خصمك، ولا هي مندوبة مسابقات جمال الأجسام، عندما أخبرتكَ بواقع جسدك الذي طالما خبأته عن بصر الآخرين. تلك هي جريرتك، فلم تتوهم بأن المرآة ستشهد لك بما لا تتوفر عليه.
من جهة أخرى، فأنت لا تقدر على اقتناء مرآة تشي بغير الحقيقة، ليس ثمة مرايا من هذا النوع يمكن أن يشتريها المرء، لتعكس له ما يحب أن يراه كل صباح في مرآته. تلك هي الحقيقة التي يعلن لك شخص وهو يخبرك:
«أريد منك أن تقول لي الحقيقة».
كثيرا ما نصادف الكثيرين وهم يزعمون ذلك في العديد من مواقف الحياة. حتى لتخال أنك مطالب بأن تتحول إلى صانع مرايا من أجل توزيعها على كل من يسعى إليك يطالبك بقول الحقيقة. وأحيانا تشعر بأن ثمة اندفاعا مذهلا لدى الجميع نحو البحث عن الحقيقة، حقيقتهم أو الحقيقة عما يصنعون أو حقيقة الواقع. وحالما يأخذك الحماس لمثل هذه الظاهرة، وتتهيأ لاستلام المبادرة الطيبة، وتستعد لرد التحية بأحسن منها، متفائلاً بأن ثمة أشخاصا مستعدين لتبادل الأنخاب مع مزاعمك، سعياً نحو الحقيقة، فتبدأ في نصب مراياك ومسح الغبار المتراكم عليها لفرط تعطيلها الطويل، وصقلها بالنوايا الصادقة، وصفّ أقداحك الجديدة، وسكب نبيذك القديم، وتباد الأنخاب حدّ الترنح لتشجيع المرايا للجهر بالحقائق المكبوتة. فللحقيقة طقسٌ لا يتأخر عنه المولعون بالشمس في ليل المعنى. وإذا حالفك الحظ، ومنحك الله القدرة على صياغة ما تظن أنه حقيقة رأيك، يتوجب عليك أن تتأهب لمراجعة نفسك تسعين مرة، إزاء وهمك المبالغ فيه، وأنت تجهر بما يتوجب عليك مواصلة كبته والاحتقان به وتجهيز النفس للموت عليه، قبل البوح والنوح.
فالواقع أكثر قوة من مرآتك.

2

أرخ مرآتك بين الماء والفضة،
تطلع لك الملائكة الكسلى،
ويتفتح لك الورد أبيض أبيض.
أرخِها
ترى فيها ما ينام في قلبك
وما ينتبه في عقلك.
وإذا جاءك السؤال عن المعنى
قل هي مرآتي
وهي ترى ما لا أراه
قل هو علمٌ يصدر عن زئبقٍ
ويغري بذهبٍ
ولا علاج له سوى الأصغرين فيك.
ماءٌ محبوسٌ في زجاجة الناس
لا يرى في الحقيقة غير وهم وشيك.
قدحٌ مقهورٌ
يتداوله العامة ويقصر عنه الخاصة
وليس للحديد سلطة عليه.*

3

ثمة كلمة قديمة للشاعر/ الناقد القديم (هوراس) في كتابه الشهير «فن الشعر»، أتذكر أنه قال فيه: «الرجل الأمين الحصيف يكشف عن الأشعار البليدة، وينقد الأشعار الغليظة، ويضع علامة أمام الأشعار الرديئة، ويستبعد البهرج الذي لا نفع فيه، ويطلب إليك أن تجلي العبارات الغامضة، ويشير إلى ما ينبغي تغييره. وهو لن يقول «لمَ أصدم صديقي من أجل التوافه؟».

4

كم من الأصدقاء يمكن أن يكونوا على استعداد لسماع وجهة نظر يطلبونها منك، وهم يسلمونك مخطوطة كتابهم الجديد، فيما هم ينهون مراجعة بروفات الكتاب الذي يصدر قبل نهاية الشهر؟
بل هل يمكن لامرأة قليلة الصبر على الملاحظات، تتحمل كلمة الناقد الإنكليزي الذي قال عن كاتبة طلبت منه نقداً لكتاب لها: (انها بالكاد تصلح لحلب البقر).

5

نعرف المرآة جيداً، مشحونة الزئبق الصادق الصريح.
لكن هل تزعم أنك تعرف غيرها، بما يكفي؟

٭ شاعر بحريني

( عن القدس العربي – لندن)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *