الفن بوصفه تحريراً للوحوش

  • عبد الدائم السلامي

لا تعيش الوُحوش في الفيافي والأدغال وحسبُ، وإنما هي تعيش أيضا في الخيال الآدمي. ذلك أنه لما صعُبَ على الإنسان ترويضُها في معيشه استدعاها إلى خياله، وروضها في فنونه، فرسم بعضها على الكهوف، وحول بعضها الآخر إلى شخصيات في أساطيره ولوحاته وقصصه. فإذا الوَحْشُ، ذاك المخلوق الذي لا يَسْتَأْنِس بالناس ولا هم يستأنسون به، يتحول في الفن إلى كائن مشوه الجسد ومنحرف السلوك، ومثير للخوف والرهبة، وربما كان هو نفسه تمثيلا للجانب الخفي في الإنسان، الذي لم تقدر الثقافة على تهذيبه. وفي مدار هذا المعنى يُقام هذه الأيام معرض للرسام والنحات والكاتب ليوبول شوفو بعنوان «في بلاد الوحوش» في متحف أورسيه الفرنسي.
ليوبول شوفو (1870- 1940) فنان سيئ الحظ، فهو لم يُعرَف في حياته إلا بكونه طبيبا جراحا، ولم يعترف به مجتمع الثقافة فنانا، إلا بعد ثلاثة أرباع القرن من وفاته. والحق أن شوفو لم يكن راغبا في مهنة الطب التي أجبره والده الطبيب البيطري على دراستها وتعاطيها، لأن اهتمامَه توجه إلى مجالات فنية أخرى هي الرسم والنحت والكتابة، وكان يمارس هذه الفنون ضمن اتجاه فني غريب وأصيل في آن، هو اتجاه «الفن الوحشي».
عاش هذا الفنان محنة عائلية كبيرة تركت أثرها العميق في مجمل أعماله القصصية والتشكيلية، ذلك أنه انتُدِبَ خلال الحرب العالمية الأولى للعمل جراحا في الخطوط الأمامية للجيش الفرنسي، ولأول مرة يسعَدُ بمهنة الطب، لأنها ستُساعده على إنقاذ أرواح المصابين من الجنود الفرنسيين من براثن الموت. ولما كان في الخطوط الأمامية للحرب، مات ابنه الشاب بيير في عام 1915 وكان جنديا في الجيش الفرنسي وسباحا ماهرا، ولكنه غرق في لحظة عبور بحري، وماتت زوجته حزنا على ابنها عام 1918، ثم توفي ابنه الثالث «رينو» في وقت لاحق وفي ظروف مروعة: حيث تعرض لتسمم الدم بعد عملية إزالة الزائدة الدودية أجراها له أبوه ليوبول شوفو بشكل عاجل، وبدون توفر أدنى الظروف الصحية المناسبة لهذا النوع من العمليات. ولكن تلك المحنة جعلته يسعى إلى حفز ضمائر الشعوب على نبذ العنف وإحلال السلم بينها، من خلال كتاباته ورسوماته التي أوضح فيها أن وحشية الوحوش الحيوانية هي ليست مرعبة مقارنة بوحشية الإنسان.


عاش هذا الفنان بعيدا عن الشهرة، وظل في الوسط الفني الفرنسي نسيا منسيا، رغم أنه ترك وراءه أعمالا فنية كثيرة، تضم أكثر من 500 لوحة مائية و300 رسم و50 منحوتة من الجص والبرونز، كان تبرع بها حفيده مارك شوفو على دفعات ثلاث لمتحف أورسيه منذ عام 2000 تاريخ إقامة أول معرض له. وتكاد تتفق الصحافة الفرنسية على كون ليوبول شوفو فنانا ذا شخصية غير نمطية، حيث وجد لنفسه موضوعا فنيا غير مستهلك في العالَم، وهو نحت الوحوش ورسمها وصناعة القصص بها، وقد عالج موضوعه برؤية جديدة: رؤية تبالغ في مسخ الوحش مسخا إلى حد يصير فيه موضوعا جميلا قابلا للرؤية والتمعن، بل هو لم يكتف بالجانب الحيواني للوحش، كما هو مألوف في المرويات الشعبية القديمة، وإنما منحه ملامح بشرية، خاصة في منحوتاته، وغالبا ما تكون ملامح ساذجة وخرقاء وصريحة،. لقد ابتكر قصصا محببة ورائعة عن الحيوانات والأطفال، وأسند فيها البطولة لكائنات مشوهة، هي أنصاف بشر، وأنصاف وحوش، حتى لكأنه كان يُخرج تلك الوحوش من لاوعيه ليحتمي بها من عالَم الآدميين الأكثر تشويها من عالَم الوحوش، وهو ما عبّر عنه في إحدى مذكراته عام 1916 حيث كتب أسفل صورة ابنه بيير: «صورتك هناك إنها نظرتك، تعبيرُ نظرتك هو الذي يُخيفني، لأنني لم أعد أعرف ما تعنيه، ولأنه ربما يمكنك أن ترى في الأسفل مني، إلى الوحل، إلى الوحل الذي هو في قاع كل إنسان».
ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى، تخلى ليوبول شوفو عن مهنة الطب، وتفرغ لكتابة قصص الأطفال ورسم اللوحات، وفي هذه المرحلة أيضا لم ينجُ من الحظ السيئ والنكسات، حيث رفض الناشر «بايو» قصته الموسومة بـ«الطفل الذي يحلم» بحجة أنها قريبة جدا في موضوعها مما كتبه أناتول فرانس في إحدى قصصه. ظل ليوبول شوفو يحارب العنصرية والهمجية في كتاباته. ثم ناضل ضد صعود النازية، وانضم إلى اللاجئين الفارين من تقدم الألمان صوب باريس، وتوفي من كثرة الإرهاق في صيف عام 1940.

٭ كاتب تونسي

  • عن القدس العربي – لندن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *