صالح الشكيري.. والمكوث في الحرف العربي وتنويعاته الجمالية

* محمد العامري

تمثل تجربة الفنان صالح الشكيري (1977) في الحرف العربي مادة لافتة لتحويرات الحرف العربي كمادة جمالية، تذهب إلى مناطق اللوحة الفنية المعاصرة، دون أن تتخلى الحروفية عن مضمونها الجمالي العربي. فالحرف بليونته وانتصابه وانحناءاته، هو الثيمة الرئيسية للتحوير والانتصار لمفاهيم الإيقاع في منطومة الحروفية التي ينجزها الشكيري.

 تنطلق أعمال الشكيري، التي لاقت رواجاً في أوروبا وآسيا والوطن العربي في المعارض والمزادات الدولية، من مفاهيم الهوية العربية الإسلامية التي أصبحت مطلباً قومياً بعد الخسارات المتعاقبة للسياسي منها.

فالكتابة في العربية وحروفها المتنوعة، في الحضور الجمالي من النسخ والثلث والريحاني والكوفي والمغاربي والديواني، تشكل مساحة حرة لاجتراحات الفنان العربي المعاصر، لاشتقاقات جديدة من جواهر تلك الحروف، التي تشكل مرجعية للكتاب المقدس، بل هي جزء من العبادة، فمنذ ابن مقلة والحروفيون يحاولون أن يجدوا ملاذاً جمالياً مائزاً في ما يخص اللوحة المعاصرة، والتي تتصدر اللوحة الأوروبية صدارتها في العالم.

والفنان الشكيري كغيره من الفنانين العرب، ينطلق من فكر عربي إسلامي، عبر اعتزازه بلغة القرآن الكريم كجزء من حضارته العميقة الغائرة في الوجدان العربي، منذ نزول الرسالة المحمدية.

فهي جزء من حضارتنا وتراثنا، والخط وهو مسارها الجمالي الناطق، والذي يشكل أداة اتصال بصرية منطوقة وغير منطوقة، بكونها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنقل الأفكار، والتعابير الدّالة على معانٍ عديدة، وتمتلك حروفها ميزة جمالية، تجلّت فيها عبقرية الفنان العربي كصياغات تناكف الحضور الغربي الطاغي باللوحة المعاصرة.

يعمل الشكيري ضمن اقتراحات جديدة، من خلال المزاوجة بين السطح التصويري، والنسيج الحروفي الذي غالباً ما يكون خط الثلث هو البطل الأساسي في تشكيلاته الحروفية الرصينة، والتي تمتلك بنائية راسخة ومدروسة في العلاقة بين الكتلة الحروفية والفراغ.

ولاشك أن الخط لديه إحدى ضرورات حياته، بل جوهرها، حيث ينشغل في تطويع الحرف العربي، دون الإخلال بقواعده المعروفة، لكنه يذهب إلى تجاوزات جمالية تحمل صفات جوهر الحرف ووجوده الجديد في اللوحة.

ولا تنسلخ تجربة الفنان العُماني عن انفعاليته المغامرة في المساحة الكبيرة، وخصوصاً الفراغ الذي شكل إحدى صفات تكويناته اللافتة، ولها الدور الأهم في بلورة تفاعلاته وانفعالاته في حالة الرسم والتخطيط، من خلال الارتقاء برؤيتة الجمالية للكتابة والتنويع في إيقاعها وتشابكاتها، التي بدت في كثير من الأحيان كسجادة حروفية لها قدسيتها ومهابتها الواثقة.

فالمتأمل في مجموعة الأعمال التي خرجت من الشكيري، يدرك مباشرة طموحاته غير المحدودة في تسجيل جملة جديدة، في ما يخص الحروفية العربية، وما آلت إليه من فوضى وتعديات على طبائع الحرف نفسه، لكننا أمام فنان برز بقوة رؤيته ودفاعاته الإجرائية في ما تبثه لوحته من قيم ومناخات جمالية وازنة، تتجلى بكونها ميزة جمالية تمتلك قابلية الابتكار والإبداع بتلك اليد الواثقة للفنان، ما يمنح حروفياته شرعية من نوع ما وجمالاً وغبطة لأعمال لم تنسلخ عن تاريخها البعيد، بقيمها وتجلياتها المرموقة، والتي تمثل طبيعة الزمكانية البعيدة لحضور الجملة الحروفية واستمراريتها كسلالة تمثل أرومة، ما كان سابقاً، حيث تصور البعد الجمالي، عبر التكوين والحركة لتواكب بعدها الفلسفي، في ما يخص العلاقة العضوية بين الفنان العربي وتاريخه التليد، وتتمثل في استخدام الأدوات والمواد وأساليب المعالجة المختلفة، بدءاً من تطورات القصبة المنبثقة عن المكان، إلى جهاز التحكم في الحاسوب وبرامجه اللامحدودة، والتي سهلت على الفنان إيجاد خيارات هائلة للتكوينات الحروفية. وبرغم اختلاف الأدوات، لكننا نستطيع أن ندرك قوة الحضور للخط العربي، الذي مازال حاضراً بقدسيته ومهابته، برغم تنوع الأدوات غير التقليدية، حيث يذهب الشكيري للاستفادة من مناخات وتقنيات اللوحة الغربية، بما يتوافق وخصوصية حروفياته، دون أن يفقد مميزات الجمالية العربية في تكوينات الخط.

فقد كان استخدام الخط العربي لدى الشكيري ذا دلالة شكلية ورمزية تعبر عن حيوية الحركة والإيقاع في طبيعة بناء الكتل الحروفية، والتي عبرت عن رشاقةٍ وليونةٍ ساهمت في تبدلاتها بين حرف وآخر.

تقنيات عديدة نجدها لدى الفنان صالح الشكيري، تخصّ تضمين حروفياته جمالية بعيدة، حيث أنجز أكثر من عمل قام على الحفر والقص، ليكون مجموعة من المستويات البارزة والغائرة، معولاً على تفاعلات الضوء مع تلك البروزات، كما لو أنه أراد أن يقدم عملاً ينتج ظلاً منعكساً عن أصله.

هذا الأمر يقودنا إلى مرجعيات المساجد وما حرف على جنباتها من حروفيات في مادة الجص والخشب، لكن الشكيري الذي استفاد من هذا الموروث استطاع أن ينفذ إلى رؤيته الخاصة به عبر مقترحات طموحة حقق من خلالها إنجازاً مائزاً، محافظاً على جماليات الخط العربي ونكهته الأصيلة، عبر توافر الخصائص والجماليات الأصيلة في كل عمل له، ليطور خطوطه بما يتناسب والمساحة وطبيعة البناء الفني، وصولاً إلى اللون والفراغ وسماكة الخط ودقته، فاتسمت أعماله بالمرونة والمطاوعة وقابليتها للمد والثني والتشابك.

يقول الشكيري عن تجربته: (أحسست أني متواصل ومترابط مع الحروف العربية منذ نعومة أظفاري. كان هدفي وأملي أن أتعلم أصول الكتابة بحذافيرها وأصولها التقليدية، ودراسة الأشكال الحقيقية للحرف العربي في جميع الخطوط العربية. نظراً لمحاولاتي الجدية للحصول على أي شيء يوصلني للخط العربي، كانت قوتي تنبعث من عدم وجود المراجع المتخصصة وأحوال الخطاطين العمانيين، وذلك جعلني أبحث عن مصادر من خارج بلادي عمان، ولعله الدافع الذي جعلني أعلم نفسي بنفسي).

لذلك استطاع الشكيري، أن ينفلت باتجاه تلك التنويعات، من خلال انعكاسات الجمل الحروفية بصفات المرآة وتبادلات المساحات اللونية، بين البارد والحار، وبين الغائر والبارز، بين الفراغ والكتلة، فقد شكلت أعماله أنموذجاً لحيوية الجملة الخطوطية الطيّعة، والعمل على انقلابات الحروف بسياقات مختلفة، فهي عبارة عن أجساد خطوطية تتشابك وتتفارق لتشكل (كونشيرتو) إيقاعياً من الممكن أن نصغي إليه عبر العين.

  • عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *