لا شيء لنتحدث عنه: رعبُ عالَمٍ بلا ثرثرة

إيان ليزلي
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

أدى انتشار هذا الوباء إلى القضاء على الإثارة التي ينطوي عليها سرد الأنشطة المحرّمة. وقد جعلنا ذلك جميعًا أكثر فقراً.

  • * *

    لا أعرف كيف يبدو الأمر لكم، لكن الإغلاق بالنسبة لي كان محبطًا. تباطأ معدل نبضات قلبي إلى نقطة كسولة، وأصبح مزاجي، مع أنه ليس بالضرورة منخفضًا، مُسطّحاً. لم أكن أدرك حتى الآن إلى أي مدى كنتُ أعتمدُ على اللقاءات الاجتماعية -كما تتذكرون، تلك التي كنتم تلتقون فيها بالشخص الآخر فعلياً- لتكون بمثابة أدويتي اليومية من الدوبامين والأدرينالين. على وجه الخصوص، أجد نفسي أفتقد تلك المحادثات التي تنقل حمولة غير مشروعة ومحرمة من الأخبار حول شخص ما، يعرفه أحد معارفي وأعرفه أنا بشكل مشترك.

    الثرثرة، مثل العديد من الأنشطة الأخرى، خنقها الإغلاق. إنها تعتمد على قيام العالم بأعماله كالمعتاد. ويتم تحفيز عصائرها من خلال الاصطدامات الاجتماعية، والمصائب، والمخالفات. وعندما يفعل عدد أقل منا أي شيء كثيرًا، أو يرى أي شخص خارج دائرتنا المباشرة، يكون هناك مجال أقل للسلوك السيئ وقدر أقل مما يمكن الإبلاغ عنه. ومع إغلاق المكاتب والحانات والمطاعم بين عشية وضحاها تقريبًا، كذلك فعلت فرص اكتشاف الأزواج السريين الذين ينسلّون لتناول الغداء، أو الاستماع، عن غير قصد، لصفقات سرية تجري مناقشتها على طاولات مجاورة.

    قراءة القصص عبر الإنترنت عن تصرفات الناس الطائشة هي بديل ضعيف عن الشحنة الكهربائية التي يصنعها سماعها مباشرة، وهو ما قد يفسر السبب في أنه عندما انتهك أحد علماء الأوبئة البارزين في بريطانيا الإغلاق لمقابلة حبيبته، كان رد فعل الأمة مثل كلب جائع جداً قُدمت له شريحة لحم. كان مستشارًا للحكومة، وهو ما جعل قصته تستحق أن تصبح خبراً. ولكن، مع ذلك -عالِم في منتصف العمر زارته صديقته؟ كان لدينا ذات مرة أشياء أفضل ليسيل لعابنا عليها.

    أفتقد العنب وكرمة العنب. أفتقد الحاجب المرتفع دهشة، والصوت المنخفض، والنظرة الاحترازية المُحاذرة في أنحاء الغرفة. أنا أحب النميمة. هل هذا خطأ؟ لا بد لي من أن أسأل، لأنها كنشاط يفعل الكثير لتلوين سمعة الناس، فإنها في حد ذاتها ليست محمودة. إننا نتعلم في سن مبكرة أنه ليس من الجيد التحدث من وراء ظهر شخص ما. وليس الأمر أن هذا يوقفنا: وجد تحليل للبيانات من مصادر متعددة في العام 2019، والذي نُشر في “مجلة علم النفس الاجتماعي وعلم الشخصية” أن الأشخاص يقضون، في المتوسط ، 52 دقيقة يوميًا في الدردشة حول أشخاص ليسوا حاضرين (أعتقد أنها كانت الدقائق الأكثر إثارة للاهتمام في اليوم).

    يبدو أن الثرثرة والقيل والقال هي سمة عالمية لجنسنا البشري: فقد درس العلماء انتشارها بين رجال الأعمال، ومربّي الماشية، والفرق الرياضية؛ بين الأميركيين الأصليين، والطلاب الهولنديين، وسكان جزيرة المرجان البولينيزية. حتى أن روبن دنبار Robin Dunbar، عالم النفس التطوري، اقترح أن البشر الأوائل طوروا الكلام من أجل الثرثرة، كوسيلة للترابط الجماعي. وربما يكون هذا ادعاءً كبيرًا، لكن من الواضح أن النميمة تساعدنا على توجيه أنفسنا داخل مجموعتنا: مَن فَوق ومَن تحت، ومَن يدخل ومَن يخرج.

    كما أنها تجمعنا معًا وتشدنا إلى بعضنا بعضاً. فكلمة “ثرثرة” نفسها متجذرة في الصداقة. وهي مشتقة (في الإنجليزية) من الكلمة الإنجليزية القديمة godsibb، والتي تعني العرّاب -أي صديق العائلة. وعندما نثرثر، فإننا ننخرط في خطيئة لذيذة متبادلة. من خلال مشاركة المعلومات السرية معي، فإنك تشير إلى أنك تعرف أنني لست من النوع الذي سيصدّك أو يبلغ عنك بهذا الصدد، والعكس صحيح. وغالبًا ما تكون اللحظة التي أشعر فيها أن أحد المعارف الجدد أصبح مستعداً لتجاوز هذه العتبة هي اللحظة التي نصبح فيها أصدقاء. قد تكون النميمة غير جديرة بالثقة، لكني أجد صعوبة في الوثوق بأولئك الذين لا ينخرطون فيها أيضاً.

    الأشخاص الذين يمتنعون بنُبل عن القيل والقال يبدون وكأنهم يفتقرون إلى بعض الشعور الأساسي بالرفقة. وقد لاحظَت تيريزا ماي، رئيسة الوزراء السابقة لبريطانيا، بفخر هادئ أنها لم تكن من النوع الذي “يثرثر على الغداء”. وأكّد أي شخص تناول الغداء معها ذلك؛ كما أكدوا أنها كانت مملة بطريقة مؤلمة. إن الثرثرة متعة -متعة تخريبية. وبالإضافة إلى نبذ النميمة، اشتهرت ماي بأنها معادية للمعارضين، وهو ما ليس مفاجئًا. وقد اقترحت الفيلسوفة غلوريا أوريغي Gloria Origgi أن ازدراء النميمة يخفي نزوعاً إلى السيطرة الاستبدادية واعتبارًا مفرطًا للقواعد الرسمية. والنميمة هي وسيلة لنشر نسخة غير رسمية من الواقع، أقرب إلى المنشورات الممنوعة منها إلى الدعاية. إنها حرية التعبير مجسدة.

    وأعتقد أنها حرية يجب أن نحافظ عليها، خاصة في مكان العمل حيث تلعب دورًا أساسيًا. إنني أعمل بشكل مستقل في صناعة الإعلان، ما يعني أنها قد تكون لدي على مدار سنة عادية طاولات عدة في مكاتب مختلفة عدة. ونظرًا لأنني عادة ما أتواجد هناك لبضعة أسابيع فقط، فإنني بحاجة إلى أن أفهم بأسرع ما يمكن مَن يجب أن أصادِقه أو أتجنبه، ومن يمكنه أن يسرّع الأمور أو يبطئها. وليست هذه من نوع المعلومات التي تحصل عليها من جدول بيانات أو استقراء. إن الطريقة الوحيدة التي يمكنني بها اكتشاف ذلك هي اصطحاب فريقي إلى الحانة. وبعد الجولة الثانية من المشروبات، تبدأ الثرثرة وتنكشف المنظمة الحقيقية ويسقط عنها القناع.

    من المهم للغاية عدم وجود أي شخص من المكاتب التي في الزاوية. إن للسلطة تأثيرا مخيفا على القيل والقال. في أي تسلسل هرمي، يحب الأشخاص في القمة التحكم في تدفق المعلومات في الأسفل، وفي عصر البريد الإلكتروني وتطبيقات المراسلة، أصبح الرؤساء مجهزين بشكل أفضل من أي وقت مضى لمراقبة وتنظيم ما يقوله الموظفون لبعضهم بعضا. والثرثرة وسيلة ليستعيد العاملون قدراً من السيطرة، ويتمكنون من قول الحقيقة من وراء ظهر السلطة. بعد كل شيء، لدى الإدارة أسرار لا تريدك أن تعرفها -مَن الذي يقبض كَم ومَن سيُطرد في إعادة الهيكلة المقبلة. وإذا أراد الموظفون هذه المعلومات، فلا يمكنهم تقديم طلب للحصول عليها من الموارد البشرية أو قراءتها في البريد الإلكتروني الأسبوعي للرئيس التنفيذي. يجب أن يعتمدوا على بعضهم بعضا.

    يمكن للثرثرة أن تعطي صوتًا لمن لا صوت لهم: ليس لدى العاملين في المراتب الدنيا، حتى عندما يُقال لهم إنهم يُعاملون وفق نظام الجدارة، أي طريقة حقيقية للتحقق مما إذا كان ذلك يعمل حقاً. وليس من قبيل الصدفة أن المجموعات التي غالبًا ما ارتبطت بالنميمة عبر التاريخ كانت من النساء والخدم. قد تكون النميمة غير خاضعة للمساءلة، لكنها قد تفرض المساءلة. إنها تربط المشاهدات الخاصة والآراء التخريبية معًا في أحكام جماعية -أحكام يمكن أن تطرد، ليس عضواً في فريق الانتفاع المجاني فقط، وإنما الرئيس المتنمر والقائد الفاسد. وتصف أوريغي القيل والقال كسلاح يستخدمه الضعفاء ضد الأقوياء: “قد لا تكون قادرًا على تغيير الوضع المؤسسي لشخص ما، لكنك تستطيع، من خلال النميمة، تقويض سمعة ذلك الشخص”.

    من دون النيّة لتقديس روحها غير التقية، من الجدير ملاحظة أن النميمة يمكنها حتى أن تنقذ الأرواح. وتجد العديد من منظمات الإغاثة التي تعمل في المجتمعات الفقيرة أن الناس هناك لا يقبلون اللقاحات لأنهم لا يثقون بالغرباء. وهي لا تستطيع الاعتماد على وسائل الإعلام أو الحكومات لنشر الخبر، ولذلك تحتاج بطريقة أو بأخرى إلى حث الناس من تلك المجتمعات على فعل ذلك بأنفسهم. وفي دراسة نُشرت لأول مرة في العام 2014، حدد فريق من الاقتصاديين بقيادة الحائزين على جائزة نوبل، إستر دوفلو Esther Duflo وأبهيجيت بانيرجي Abhijit Banerjee إجابة جديدة لهذه المشكلة: اسأل الناس في كل قرية عن أكبر الثرثارين، ثم أخبر هؤلاء الثرثارين عن برنامج تحصين السكان المحليين. وعندما أجرى دوفلو وبانيرجي تجارب مضبوطة لهذه الطريقة في كارناتاكا وهاريانا، وهما منطقتان ريفيتان في الهند، وجدا أنها زادت بشكل كبير من معدلات حضور الناس إلى العيادات.

    الثرثرة هي شكل من أشكال المعلومات التي تنتشر مثل الفيروسات عبر المجتمعات. وعلى عكس بعض الفيروسات الأخرى التي يمكن أن نذكرها، فإن معدل الوفيات الناتج عن هذا الفيروس هو صفر. لكن لديه ناقلون وناشرون فائقون. وهو يميل إلى أن ينتقل ضمن مجموعات منفصلة بين الناس الطائشين الذين لا يكتمون سراً. وفي بعض الأحيان يقفز إلى الجمهور الأوسع، وعند هذه النقطة يمكن أن يتحول إلى إشاعة أو نظرية مؤامرة. وتشمل الأعراض الشماتة، المتعة في رؤية مصائب الآخرين. ولكن، حتى هذا الرضا المشكوك فيه له غاية أعمق.

    وفقًا لعالم النفس روي بوميستر Roy Baumeister، فإن الثرثرة هي شكل من أشكال “التعلم الثقافي”. إنها تساعد على ضمان أن يتصرف الجميع وفق كتاب القواعد الاجتماعية نفسه، أو أن تكون لديهم نسخة منه على الأقل. ولدى الأطفال قدر هائل من الأشياء التي ينبغي أن يخمّنوا كيف يتصرفون بشأنها، والتي يثرثرون بها وعنها مع بعضهم بعضا -لتكوين نظرة الأطفال الخاصة إلى العالم، وليس النسخة الرسمية التي يقدمها لهم الآباء والمعلمون. وكلما زاد عدد القواعد التي يتعين علينا تعلمها، وكلما زادت حاجتنا إلى تعلمها، زاد اعتمادنا على الثرثرة. يحب المراهقون النميمة والثرثرة لأنهم في الواقع يكونون بصدد تجميع البيايات للحصول على درجة الدكتوراه في قواعد العلاقات.

    علاء أبو زينة

    إذا كانت الثرثرة سلبية في الغالب أكثر من كونها إيجابية، فليس هذا بالضرورة لأن الناس أشرار. إنها كذلك لأن أسرع طريقة للتعرف على عُرف ما هي سماع كيف انتهكه شخص ما. بهذه الطريقة، نكتشف ما لا يجب فعله من دون الاضطرار إلى ارتكاب الخطأ بأنفسنا. ويشير بوميستر إلى الطريقة التي يستخدم بها الآباء قصصًا عن الأشخاص -والتي هي في جوهرها شكل من القيل والقال- لتعليم الأطفال عن مخاطر العالم. لا يمكن للوالد أن يوضح للطفل لماذا لا يجب أن يركض داخلاً إلى عُرض الشارع، ولن يكون مجرد شرح سبب عدم كون ذلك فكرة جيدة بالوضوح نفسه مثل سرد قصة عن فتاة صغيرة فعلت ذلك ذات مرة ولم يرها أحد مرة أخرى.

    ربما نشهد الآن، للأسف، على انقراض الثرثرة. لقد أدى الوباء إلى تسريع اتجاهات كانت طويلة الأجل، حيث جلب إلى المقدمة ما كان في صعود مسبقاً، مثل العمل من المنزل، وقتل ما كان في طريقه إلى الخروج، مثل الصحف والنقود الملموسة. وقد جادل دنبار، كاتباً في الأيام الأولى لظهور الإنترنت، بأن الاتصالات الإلكترونية لا يمكن أن تشكل أكثر من بديل ضعيف للثرثرة وجهاً لوجه. وأظن أنه كان على حق. قد تزدهر الإشاعات عبر الإنترنت، أما الثرثرة، وهي أكثر شخصية، فلا تزدهر. إنها مثل الفيروس الحقيقي، تعتمد على وجود غشاء لحمايتها. والخصوصية هي غلافها الدُّهني. إنها إما أن تكون بيننا فقط أو أن لا تحدث على الإطلاق. وكما نعلم، ليست الخصوصية هي نقطة القوة في الإنترنت.

    لقد لاحظت مسبقاً، قبل وقت طويل من وقوع هذه الأزمة، أن الناس -بمن فيهم أنا في نهاية المطاف- أصبحوا أقل استعدادًا للثرثرة أو النميمة عبر البريد الإلكتروني أو في الرسائل الخاصة. أصبح مجرد التلميح إلى الطيش أو طلب الثقة يعني وجوب التجاهل. ذلك لأن الناس تعلموا، من خلال الملاحظة أو التجربة، أنها لا توجد أسرار على الإنترنت. كل كتابة أصبحت الآن قابلة للنشر واسع النطاق. ويتبخر الكلام في اللحظة التي يغادر فيها أفواهنا، وتصبح لكل شيء يتصل بالنص حياة أخرى خاصة به لا يستطيع منشئه التحكم فيها. إذا رغب أحد في تبادل الثقة مع زميل، فإن عليهما أن يذهبا في نزهة، مثل الجواسيس رخيصي الأجور. وللقيام بذلك، من المفيد أن يكونا في المكتب نفسه. وبينما تصبح التفاعلات غير المتصلة بالإنترنت أكثر ندرة، فكذلك تصبح الثرثرة أيضاً.

    سواء أدركنا ذلك أم لا، أعتقد أننا سنكون أسوأ حالًا إذا اختفت الثرثرة والقيل والقال. سوف يكون المجتمع المجرد من القيل والقال مفتقرًا إلى المرح والحميمية والزمالة. وسوف يكون أقل إنصافًا وباهتاً أكثر. وأنت لم تسمع هذا مني، اتفقنا؟

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Nothing to speak of: the horror of a world without gossip

عن جريدة الغد الأردنية 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *