زمن بورقيبة: ورقات من كتاب أبي

منصف الوهايبي

في الفترة الممتدة ما بين شهري مارس/آذار ويوليو/تموز 1950 لم يسجّل أبي في ورقاته أخبارا تذكر غير أنّي لاحظت في ما تلاها أنّه صار كثير الاستطراد في حكاياته، حيث تأخذه الذكرى إلى أحداث لا أرى لها صلة بروايته. وقد أكون مخطئا وقد أكون مصيبا، فللنفس مسالكها التي لا تسلكها نفس غيرها، وللنفس نسيجها الذي لا تنسجه نفس غيرها، لذلك أحببت ألا أقحم نفسي، ورأيت أن أنقل الحكاية كما قرأتها.

يقول أبي:«مع نهاية شهر يوليو سافرت إلى القيروان أحمل لشريكي هناك منابه من صابة القمح والشعير، وشريكي هذا «برقادي» (ضابط) في الشرطة، جمعتني به مودّة خالصة لا أتذكر حتى متى بدأت، وهل لكلّ شيء بداية؟ فهناك أشياء لا هي تبدأ ولا هي تنتهي مثل الموت والحياة.
وكنت أنتظره في بهو الكوميساريّة أتلهّى بتفحّص الإعلانات والبلاغات المعلّقة هناك، ولا أدري كيف قفزت إلى عينيّ من بين الصور، صورة ضيفي الجريدي وقد خُطّ تحتها بالخط العريض «مجرم خطير مطلوب للعدالة. جائزة بمئة ألف فرنك لمن يدلّ عليه، أو يساعد في القبض عليه». ولا أدري هل أنا الذي كتمت أنفاسي؟ أم هي أنفاسي انكتمت، حتى أيقظني صوت صديقي: «أهلا يا مختار. هل تريد أن تفوز بالجائزة؟»، فلما رأى حيرتي أضاف: «اقصد مئة ألف فرنك».
يقول أبي: علمت من شريكي أنّ الجريدي محسوب على رجال بورقيبة، وقد فرّ من سجن تونس منذ سنة، وآخر أفعاله أنّه قطع يد أحد أعيان أولاد «س» بدون أن يرفّ له جفن، ولم يسلبه ماله ولا ذهبه على كثرته، وإنّما اكتفى باليد المقطوعة غنيمة. وتقول بعض الألسن إنّ لزوجة الضحيّة يدا في يده المقطوعة، فقد الّبت عليه بعض رجال الحزب الدستوري لأسباب لا يعلمها إلاّ هي وربما الله أيضا. ولعلمك يا مختار ـ وأنا اعرف كم أنت مولع بالنساء الجميلات ـ أنّ زوجته تلك امرأة ذات قوام فارع، ما حضرت جمعا أو محفلا إلاّ انتكس لحضورها سائر النساء وتسابق لخدمتها السادة قبل الخدم. هي في الأصل من طرابلس الغرب، لجأ جدّها إلى تونس هربا من الطليان ثم استقرّ بسوسة. وكانت له تجارة رابحة ووطيان (أراض) شاسعة لا أحد يدري كيف آلت إليه، فقد جاء فقيرا معدما لولا أن آواه بعض يهود الحاضرة وقد وثقوا به، واطمأنوا إليه حتى زوّجوا ابنه الوحيد ويدعى الضاوي ابنتهم راحيل. أرايت يا مختار كيف تساق الأرزاق؟

لكن هل كان صاحب أبي يعلم كيف تساق الفاقة والفقر، وهما في الحقيقة لا يساقان، وإنما يسعيان أحيانا إلى الرجل سعيا حثيثا حتى يدهماه وهو لم يستيقظ بعد من دهشته.
ـ لا تسرح يا مختار. هذه بعض حكاية «للّا معيوفة» تعال نشرب شيئا ثم أقصّ عليك البقية. لماذا تستعجل العودة إلى دشرتك؟ أنت ضيفي هذه الليلة، وسآخذك غدا إلى مجلس زوج «للا معيوفة» حتى ترى الرجل رؤية العين، فهو ظريف صاحب نكتة وملحة.
لا أدري وإنّما خيّل إليّ أنّ أبي قد صمت، يسترجع الأحداث ويرتـّبها في ذهنه مثلما بدأت أنا أسترجع أحداث روايته وأرتـّبها في ذهني. لكن لماذا سجّل أبي في حاشية من كرّاسه نوادر تنسب إلى»جان بيدال بوكاسا» ويقول إنّ بورقيبة كان يتندّر بها؟ أهي حكاية اليد المقطوعة ذكّرته بحكاية المرحوم رئيس افريقيا الوسطى، فامبراطورها بعد أن انقلب على وليّ نعمته دافيد داكو؟ أم هواية بوكاسا في قصّ آذان الطلاّب وأكل اللحم البشري، بما في ذلك لحم بعض نسائه، وهو الذي اقتناهنّ من جميع الجنسيّات، وكانت منهنّ تونسيّة ولبنانيّة وليبيّة؟ وقد أغمضت فرنسا عيونها وآذانها عن تجاوزاته، حفاظا على مصالحها العسكريّة والاقتصاديّة، ثم انقلبت عليه وما ذلك بغريب على كثير من أهل السياسة، ويصعب، لكثرة ما ينقلبون ويتقلّبون، أن تفرّق بين إليتي أحدهم وبطنه.

فكان أن أرسل إليه جيسكار ديستان فرقة من المظلّيين، ألقت به خارج قصره في بانغي، قبل أن تدوّي فضيحة عقد الماس الذي زعم الامبراطور أنّه أهداه إلى الرّئيس الفرنسي.
ها أنذا أشرد مع تخيّلاتي مرّة أخرى، حتى لكأنّ أبي ينبّهي «يا منصف.. لا تشرد. عد إلى حكايتي أو فانفض يدك منها». ولا أدري كيف لأبي أن يلومني أو يؤاخذني على شرودي أحيانا، فهو نفسه قد خرج بحكايته عن سياقها وعرّج على أحداث قديمة سابقة، وإلاّ كيف له أن يعود بنا إلى سنوات الحرب العالمية الثانية، حين دكّت مدافع الحلفاء دشرتنا الصغيرة «عين مجّونة» دكّا، وقد نجا كلّ أهلنا بأنفسهم إلى جبل «الطويلة» القريب، ما عدا عمّ أبي «حوالة» فإنّه رفض أن يغادر كوخه البسيط، فمات مردوما تحت أنقاضه، فلما بلغ نعيه جدّي التفت إلى أبي وقال له: «أهانت عليك عزّة نفسك حتى تترك جثة عمّك نهبا للكلاب والغربان؟».
يقول أبي: «فنزلت إلى الدشرة يشدّ أزري قريب لنا، وبينما كنت أجمع أشلاء عمّي المتناثرة وأدفنها انشغل قريبي بالبحث في مخلّفات جند الحلفاء، حتى فاز بطبل فلمعت عيناه وصاح : « يا مختار هذا طبل ولا ينقصنا ألا مزمار ليكتمل العرس، ومضى يمدح متانة جلده ورجع صداه حتى خرقت الطبل رصاصة لا ندري مأتاها . ثم اشتد الطلق حولنا، ففزنا بجلدينا لا نلوي على شيء».

يقول أبي: «رحّب شيخ أولاد «س» بضيوفه بحرارة، مسلّما سائلا عن الأهالي والصّابة والمواشي، كما سألني عن أحوال شرنانة والدي وأخي السّيد وكلّ عرش «الوهايبيّة» الأحياء منهم والأموات، الذين ولدوا والذين لم يولدوا بعد، كأنّه يقرأ الغيب ويهتك الأسرار، وإلاّ كيف له أن يسأل عن أبنائي الذين لم يروا النور بعد ويسمّيهم بالاسم واحدا واحدا؟ كان أوّل ما شدّني فيه ساعة جيب ذهبية تتوهّج وتتدلّى خارج «الفرملة»، وقد أرخى جبّته عن كتفه اليسرى. فلمّا رأى انشغالي نزعها من مشبكها وناولنيها قائلا: «هذه هديّة من ناحوم غولدمان. هل سمعت بهذا الاسم من قبل؟ ما تراه منحوتا في ظهرها كتابة بالعبريّة تقول «هديّة من ناحوم غولدمان إلى صديق شهم». إسمع يا بنيّ لا أحب أن تستغرب أو تستنكر فأنا صديق الجميع من فرنسيس وألمان ويهود وعرب. ولست وحدي في ذلك، وإذا شئت سمّيت لك كثيرا، ولكنّي لست مثلهم فأنا أضع صداقاتي في واد ومبادئي في واد. ولعلّك لا تعرف أنّ أخي عمّارا قد هاجر إلى فلسطين مجاهدا ولا أدري إلى اليوم أحيّ هو أم ميت. ولعلّك لا تعرف أيضا أنّ أمّ بنتيّ يجري في شرايينها دم يهودي. هل أسمّي لك عائلات كثيرة هنا في مدينتك مازال في شرايينهم بقية من دم يهودي؟».

يقول أبي: «قال الرجل كلاما كثيرا لم أفهم مراميه حينها، وانفعل حتى سقطت جبّته عن كتفه اليسرى، وبان معصمه ملفوفا في رباط من حرير أخضر فتدارك أمره وسوى جبّته وهو يقول: «لذلك لا تصدّق يا سي مختار كلّ ما تسمع واخل إلى نفسك ثم احتكم إلى عقلك». ثم صمت برهة من الزّمن كأنّه يراجع في سرّه ما يريد أن يجهر به: «بلغني اليوم (20 يوليو 1951) نبأ مقتل ملك الأردن عبد الله بن الحسين… منذ أربع سنوات يوما بيوم، في العشرين من يوليو كنت في عمّان في تجارة لي شاركني فيها إنليز وهنود ويهود وكان بعضهم على علاقة حميمة به، فأخذوني معهم إلى قصره. والحقّ أنّه كان كريما ودودا ولكنّه لم يترك في نفسي أثرا ولا انطباعا حسنا أو سيئا. غير أنّني تذكّرت حين بلغني نعيه كلامه وهو يودعنا: «هل رأيتم كثرة الوفود التي تدخل وتخرج؟ إنّها لكثيرة حتى أنّي لا أكاد أخلو إلى نفسي، وعلى كثرة زوّاري أجد نفسي وحيدا، لذلك لا تبخلوا علينا بزيارتكم». الآن أدرك كم كان ذلك الرجل بائسا وحائرا. ولكن لماذا أقصّ عليكم هذه القصّة وأنتم أصحابي وأهلي تملؤون عليّ قلبي وبيتي؟ قد يناصبني العداء بعض رجال بورقيبة وليس بيني وبينهم عداوة، وإنّما هم يؤاخذون عليّ بعض صحبتي وأنا لا اختار أصحابي. الأصحاب كالحبّ أو كالخوف.

نحن لا نختار متى نحبّ ومتى نخاف. لقد جلس بورقيبة في مجلسكم هذا مرارا كثيرة، وكانت بيننا مودّة صادقة، ولكنّي لا أدري لماذا انقلب عليّ… أنا اقدّر الرجل المخلص الوفي حقّ قدره، ولكن ليس لي أن أكون وفيّا حين أجد من صاحبي بعضا من غدر، أو خديعة.. هل تفهمني يا سي مختار؟».

  • عن القدس العربي – لندن

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *