كورونا والحرب

ثقافات – سامر المجالي

ما زلتُ أتذكر عبارة، شاعت بين عدد من المفكرين السياسيين في تسعينيات القرن العشـرين، تقول: “ليس للتاريخ ليبرتو”؛ أي أنه ليس هناك إيقاع مضبوط يضمن أن يسير التاريخ على الوتيرة نفسها وأن يتحرك حركات متوقعة.. دائما هناك مفاجآت تأخذ البشر إلى حيث لا يحتسبون، فتنشأ ظروف جديدة تعاكس كل تنبؤات ممكنة.

شاع هذا الرأي في الغرب تحديدا، ممثِّلا ردة فعل، عند طائفة من هؤلاء المفكرين، تجاه النظريات السياسية “القَدَرية” التي راجت في ذاك الوقت؛ مثل “نهاية التاريخ” و”صراع الحضارات”. هذه النظريات القدرية هي أفكار ليبرالية بحتة، تشابه الحتميات الماركسية، من حيث هي حتم وجبرية، فتوهَّمت في وقت ما أنه يمكنها السيطرة على التاريخ، وتوجيهه الوجهة التي تريد.

بعد ذلك مباشرة جاءت أحداث وتطورات كادت أن ترسخ النظريات القدرية الليبرالية، مثلا: الإرهاب ممثلا بحدثه الأكبر الحادي عشـر من سبتمبر، احتلال العراق، التراكم التكنولوجي، ثورة الاتصالات، انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها.. هذه كلها أوهمت البشـر أنهم يسيرون في الاتجاه الذي يرسّخ نهاية التاريخ، ويُخرج إلى العلن ذاك الصدام الحضاري الذي لا بد منه بين غرب ليبرالي متفوق، وحضارات بائدة تحاول العودة إلى التاريخ، كالإسلام والكونفوشية.

غير أن التاريخ عاد بعد ذلك ليثبت حصافة الرأي الذي يقول إنه ليس هناك للتاريخ ليبرتو. ولعلَّ حدثين مهمين شهدتهما هذه العشرية، سيكونان كافيين لقلب التوقعات وإعادة التفكير في شكل النظام العالمي الذي تتجه إليه البشرية..

الحدث الأول هو الربيع العربي بكل ما فيه من انقلاب على القوى السائدة. هذا الربيع أكد أن هناك قوى تأتي بالفعل من “اللامكان”، وتجسّد ثلاث ثورات لا يمكن التنبؤ بمآلاتها:

  1. ثورة الزيادة؛ أي ذلك الرصيد البشـري المتراكم على صعيد العدد، الذي لا يمكن تجييشه ولا السيطرة عليه.

  2. ثورة الحركة؛ أي قدرة الناس الفائقة على التنقل والتواصل، ما يجعل السيطرة على الولاءات والأفكار أمرا مستحيلا.

  3. الثورة العقلية التي تقلص المسافات بين الطبقات، رافعة الطبقة الوسطى إلى مستوى أعلى من الطموح، يشكل عند نقطة معينة خطرا يهدد آليات السيطرة والنفوذ القائمة.

جاء الربيع العربي ليكون ثورة على الهشاشة، وعلى ما أمكن تسميته “لاعبين عبر دوليين” يتمركزون على رأس الهرم في هذه الدول الهشة، ليكونوا خدما يستفيدون من نظام دولي مهيمن، نخبوي، أحادي الوجه، بارد القلب، ينذر بكارثة أخلاقية تتجه البشرية نحوها

لذا جوبه الربيع العربي بالثورات المضادة، وهي ثورات فوق-وطنية، تخوضها نخب مصطنعة، تنتمي إلى مراكز السيطرة نفسها؛ إلى تلك الغيلان العالمية، من شركات كبرى عابرة للقارات، وعلاقات مصالح هرمية، تجثم على صدر العالم، وتحرمه حقه في الحياة. لذلك كان الربيع صعبا، ولم تكن المواجهة سهلة؛ فالعدو الظاهر من أنظمة مستبدة وذئاب وسدنة طغاة، هؤلاء هم قشة يستتر وراءها عدو حقيقي، هو الذي يسير الأحداث ويحرك هذه الإمعات المستذئبة.

أما الحدث الثاني فلعله يكون فيروس كورونا؛ لأ، هذا الفيروس هو في الحقيقة ضربة قاصمة للمظام الرأسمالي من جهتين:

أولا: هو ضربة للسمة الأساسية للنظام الرأسمالي؛ أي تراكم فائض رأس المال؛ فالأرقام تحدثنا عن خسائر بالمليارات عُرِّض لها الاقتصاد العالمي. مجمل الخسائر قد يصل إلى حوالي 5000 مليار دولار، منها مثلا 800 مليار داخل الولايات المتحدة، 200 مليار في دول آسيا والمحيط الهادئ، 103 مليار في الناتج المحلي الصيني، 50 مليار في قطاع التصدير العالمي خلال الشهر الأول من الجائحة، 200 مليار في قطاع الطيران العالمي، 17 مليارا في قطاع السينما.. إلى آخر هذا النوع من الأرقام التي تؤكد أن فائض رأس المال سيتبخر، ما يحرم النظام من أهم مزاياه أو مثالبه، أي أن هذا التبخر هو مصيبة من ناحية، وخطوة تصحيحية من ناحية أخرى لأنه يحجّم نظاماً يتجه كل يوم  نحو مزيد من المراكمة والاحتكار والجشع.

ثانيا: أن التنافس الكامل يعود إلى الواجهة، ليكون ضابطا لآليات ارتفاع الأسهار، وكابحا للتضخم. والأهم من ذلك أن التنافس يعني عودة الدولة الوطنية إلى لعب دورها في الاقتصاد العالمي، تلك الدولة التي قررت أن لا يبتلعها النظام المهيمن ضد مصلحة شعبها. تتحرك الأولويات بعيدا عن الاستهلاك والإنفاق الكمالي، يحدد البشـر أولوياتهم بمنتهى الدقة. أسواق الغذاء تلبي احتياجاتها الداخلية وتغلق باب التصدير(حدث هذا في الأردن وفي أكثر من دولة) أطعم شعبك كي لا يأكلك، وأنقذ نفسك من الوباء فتلك أولوية لا يمكن تأجيلها. يتفوق رغيف الخبز المنتج بيتيا على وجبة ماكدونالدز، تتقدم أهمية البرتقالة على المشـروب الغازي. تطهو النساء داخل البيوت، لا مكان للكماليات الزائفة، ولا للإنفاق الإدماني، ولا للنصب الإعلامي، ولا لمنصات تحقيق الثراء السريع.

والأهم أن الدولة القومية تخوض صراع بقاء يتعلق بوجودها ووجود شعبها. إيطاليا كانت الحالة الأولى، فقد بدأت تراجع بجدية موقفها من الاتحاد الأوروبي، وستبرز حالات أخرى، بل ربما تظهر هذه الحالات داخل الدول العملاقة المجمعة تجميعا كالولايات المتحدة الأمريكية. وصراع البقاء خطير، إنه يعيد إلى الأذهان سيناريوهات الحروب.

لمَ لا؟ قد تعود الحروب إلى النظام العالمي، وتختفي الدول الفاشلة.. أما آليات القوة فهي حتماً إلى تغير جوهري.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *