علامات

*ثقافات – سامر المجالي

لم يخطر ببال ستيفن هوكنغ أنه سينفق أربعين عاما من عمره إلى أن يحل مشكلته مع الثقوب السوداء. في العام ألف وتسعمائة وستة وسبعين أشار هوكنج إلى ما أسس، من بعد، للفكرة الشائعة عن تلك الثقوب؛ إذ ظُنَّ أنها تفنى في لحظة حرجة، آخذة معها كل ما مر بها من مادة وطاقة وذكريات. فكرة الفناء تلك هي الرديف التام لفكرة العدم؛ ذاك المجهول الذي يأخذ كل شيء معه إلى غير رجعة…

تداعت تلك الفكرة التي لم تنضج رغم بلوغها سن الأربعين. كان ثمة إشكال فيزيائي كبير؛ لا يوجد في الفيزياء شيء اسمه فناء، هناك تحولات فقط. عمل هوكنغ وفريقه على هذا الإشكال إلى أن اتضح لهم أن للثقوب السوداء إشعاعاتٍ تَتركُ في الحيز المكاني للثقب جسيمات ناعمة من نوعين؛ الفوتونات والجرافيتونات. في هذه الجسيمات يُودَع تاريخ المادة التي يبتلعها الثقب الأسود. إن الأشياء تترك لنا ذكرياتها قبل أن تغادر. نستطيع إذن أن نتقصى التاريخ مهما غار في غياهب الماضي. يبقى علينا في هذه الحالة  أن نعرف كيف نستل من العلامات مكنوناتها….

تذكرنا الجسيمات الناعمة بفكرة الرسالة التي توضع في زجاجة ثم تلقى في بحر عميق. هل يقصد الوجود أن يخبرنا بأنه في أعلى درجات الوعي وأنه لا يحرق متاعه قبل الرحيل؟ هناك أشياء كثيرة تؤكد هذه الفكرة. تزامنا مع المراحل النهائية لأبحاث هوكنغ، كان هناك كشف علمي آخر يربط الخيوط ببعضها. إن للوجود بصمات متشابهة في كل مكان، وما تُترَك تلك البصمات إلا عن عقل وتدبير. وهاكم القصة….

عُدَّ العالم ديفيد رايك واحدا من أهم عشر شخصيات علمية في العام ألفين وخمسة عشر. تخصص هذا العالم في دراسة الجينوم البشري واستكشاف تاريخه منذ وجد الإنسان. درس حوالي مئتين وثلاثين عينة من بقايا عظام وأسنان لأشخاص عاشوا في العالم القديم قبل ثمانية آلاف عام. هل تتخيلون صعوبة الحصول على هذه العينات؟ كانت كل زجاجة هذه المرة ملقاة في بحر مطمور. المهم، استطاع رايك نتيجة تلك الأبحاث أن يكتشف تسلسلات جينية فسرت كثيرا من ديموغرافية العالم المعاصرة. ألقت تلك التسلسلات ضوءا على الهجرات الجماعية التي تمت في الأزمنة القديمة، وكشفت فوق ذلك عن بعض أسرار اللغات، مثل اللغات الهندو-أوروبية، التي كان انتشارها في أماكن متباينة من العالم سرا غامضا، إلى أن كشفت عنه أبحاث الجينوم بعد أن نجحت في الوصول إلى العلامات وفسرتها….

مهلا؛ فقد قلنا إن العلامات تُترَك عن عقل وتدبير، فهل هذا تحيز لفكرة الخالق المهيمن المحيط بكل شيء علما؟ بصراحة هو كذلك؛ لأن انسجام الأدلة يأبى أن يخضع لعبث الثقوب السوداء التي تصرف همتها إلى العدم بعد أن زهت في الأفلاك حقبا متطاولة. إن كان هذا الضبط يجري بهذه الدقة فما من نظرية تستطيع الصمود أمام ما نراه حقيقة تفردت بكمالاتها. ثم إن العلامات لم تعبر عن نرجسية ما، وإنما كان بقاؤها دليلا من ناحية وضرورة عملية من ناحية أخرى. إن ظهورها تجلٍ معرفي من طراز رفيع. هناك حديث يربط وجود الإنسان، الذي يبدو أنه العنصر الوحيد الذي تتجلى عليه صنوف المعرفة حتى هذا اللحظة، بخطة ترمي إلى أن يُعرَف من أبدع هذا الأكوان. صُنّف هذا الحديث كحديث ضعيف من قبل علماء كثيرين، غير أن فيه إشارة وجدانية تلهب خيال المؤمن وتمنحه السكينة….

مهلا مرة ثانية. يجبرنا حديث من هذا النوع على الاستشهاد بالقرآن الكريم. غير أن من الواجب القول أن الاستشهاد بالقرآن في هذا المقام ليس محاولة لزج الآيات في مغامرة التفسير العلمي للقرآن الكريم، وإنما هي رغبة في جعل القرآن نفسه واحدا من تلك العلامات المبثوثة في مساحة الوجود. فخير للقرآن أن يكون هاديا من أن يكون منفعلا بنظريات العلم. وخير لعقل المؤمن أن يتفاعل مع شيفرات يصدرها القرآن بدلا من أن تُرسَم حدود ضابطة لإمكانيات تفسيره وتأويله. وكل العذر من الدكتور زغلول النجار في هذه النقطة، مع الابقاء على أسمى آيات التقدير والاحترام له.

يفصح القرآن الكريم عن كونه علامة كبرى حين يحض على فكرة تتبع العلامات والبحث عنها. مثلا، أن يسير الإنسان في الأرض لينظر كيف بدأ الخلق. لا بد أن ديفيد رايك واحد من أعظم الناس الذين امتثلوا لهذا الأمر. بل إن في سورة النحل ما يجمع العلامات والنجوم في آية. “وعلامات، وبالنَجْم هم يهتدون” ينفتح الأفق الدلالي في هذه الآية فيشمل جميع أنواع العلامات؛ المكانية فوق الأرض والفضائية في السماء. بل إن الزمخشري أشار في “الكشاف” إلى أن هناك من قرأ الآية هكذا “وبالنُجُم هم يهتدون” لاحظوا الفرق بين كلمة النجم المذكورة بالمفرد في القراءة المشهورة وتلك المذكورة بصيغة الجمع في القراءة التي أوردها الزمخشري، ليشمل المعنى بذلك جميع النجوم؛ ذاك الذي ما زال منها في الخدمة وذاك الذي تحول إلى ثقب أسود. علما بأن المعنى تطور منذ أيام القمي النيسابوري الذي انصرف فهمه لكلمة يهتدون نحو “أنهم كانوا يشمون التراب فيعرفون به الطرقات” وصولا إلى فتوحات الهداية الديموغرافية والألسنية التي تنزلت على ديفيد رايك في العام الماضي.

بقيت نقطة؛ ينبغي العودة باستفاضة إلى أبحاث كارل غوستاف يونغ في كتابه “جدلية الأنا واللاوعي” لاستكشاف حديثه عن مكنونات اللاوعي التي يتركها الماضي السحيق علامات قارة في نفوس الأحفاد. هذا موضوع عميق لم تتسع له عجالة هذا المقال.

 

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *