جمالية الماورائيات في ثلاث روايات عربية

خاص-ثقافات

 د. علياء الداية

 

 احتفت روايات عربية عديدة على مدى سنوات وعقود بظاهرة العجائبي، ونقلتها من حيّز المفهوم الشعبي والمتخيّل والتصور المستقبلي العلمي أحياناً إلى الحيّز الأدبي، وتتنوع اهتمامات هذا النوع من الروايات وتتدرج بين الواقعية السحرية والتصوف والفانتازيا والرعب، ومنها ما يقترب من المتلقي من خلال بناء الرواية المتين المتماسك، ومنها ما يبتعد عنه بسبب تفكك روابط العناصر الأدبية نفسها داخل الرواية.

وتسعى هذه الدراسة إلى تركيز البحث في جانب الماورائيات الذي ينضوي روائياً في عباءة العجائبي، ويحتفظ في الوقت نفسه بسمات تصنيفية تجعله خاصية متفردة جمالياً نجدها في روايات ذات طابع عجائبي ولا نجدها في روايات أخرى، وتتناول الدراسة في هذا المجال ثلاث روايات من عقود متتالية، هي كل من: “مدينة الرياح” للموريتاني موسى ولد ابنو-1996، و”البعد الخامس” للسوري طالب عمران-2000، و”بعد الحياة بخطوة” للأردني يحيى القيسي-2018.

 إنّ “العجائبي يقتضي أن تكون شروط ثلاثة منجزة. أولاً لا بد أن يحمل النص القارئ على اعتبار عالم الشخصيات كعالم أشخاص أحياء وعلى التردد بين تفسير طبيعي وتفسير فوق-طبيعي للأحداث المروية. ثم، قد يكون هذا التردد محسوساً بالتساوي من طرف شخصية؛ على ذلك يكون دور القارئ مفوضاً إلى شخصية وفي نفس الوقت يوجد التردد ممثلاً، حيث يصير واحداً من موضوعات الأثر؛ ويتوحد القارئ مع الشخصية، في حالة قراءة ساذجة. أخيراً ينبغي أن يختار القارئ موقفاً معيناً تجاه النص”(1)، و”لا يدوم العجائبي إلا زمن تردد: تردد مشترك بين القارئ والشخصية، اللذين لا بد أن يقررا ما إذا كان الذي يدركانه راجعاً إلى “الواقع” كما هو موجود في نظر الرأي العام، أم لا”.(2)

أما الماورائيات فهي تلمس أبعاداً فلسفية وجودية لا يتطرق إليها العجائبي النمطي: فـ”المعرفة التي تقع في الماوراء… عرفت باسم “الترنسندنتالية” أو الفلسفة المتسامية، وعندما نلصق صفة التسامي أو التعالي بفلسفة ما، فإن ذلك يكون في العادة بسبب قولها بدعاوى ميتافيزيقية لمعرفة أعلى وأكثر صدقاً تُجاوز بطريقة ما التجربة الحسية البشرية المألوفة، ومن ثم لا يمكن بلوغها إلا عن طريق العقل أو الحدس”(3)، وقد “صارت الميتافيزيقا تعني المبحث الخاص بالمبادئ “المتعالية”، أي المتعالية على الحس والتجربة، على العالم المرئي”.(4)

ولعل الماورائيات ستتجلى في الروايات المدروسة بتفردها عن غيرها من التصنيفات، فهي مرتبطة بالمعتقدات المضمرة في نفوس الشخصيات أبطال الروايات، قلما تطفو إلى الخارج حيث المجتمع، بسبب كونها تَصوراً لعلاقة الشخصية بالكون أو الوجود المحيط بها، وهذا الوجود يصبح ذا مستويات متعددة، وليس مستوى مدركاً واحداً. هناك مستويات زمنية كما في “مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو، ومستويات من القدرات الخارقة في تنقّل الذات والمعلومات والقدرات عبر الأزمنة والأمكنة كما في “البعد الخامس” لطالب عمران، ومستويات من مُشاهدات العالم الآخر في حالة البطل بين الحياة والموت، كما في “بعد الحياة بخطوة” ليحيى القيسي. إن التباين الشديد جداً بين الخبرة الروحانية للشخصيات الروائية أو الواقعية، والخبرة العلمية القابلة للقياس والتجربة في المجتمعات الروائية والواقعية، هو تباين شديد كفيل بنشوب الصراع بين الطرفين.

ومن القدرات الخارقة العجيبة المتكررة في الروايات الثلاث هذه المصطلحات: “التخاطر: تبادل المعلومات بين عقلين أو أكثر دون استخدام الحواس العادية. الكشف البصري أو الاستبصار: إدراك معلومات موجودة على مسافة بعيدة خارج نطاق الحواس الخمس… وتسمى هذه الظاهرة أيضاً: الرؤية عن بُعد… تجربة الخروج من الجسد: تجربة شعورية بالانفصال عن الجسم، عادة ما تكون مصحوبة بتصورات بصرية تشبه الكشف البصري. تجربة بداية الموت: تجارب يرويها أحياناً أشخاص انتعشوا من حالة دخلوا فيها في بداية مراحل الموت، وفي الغالب تعود هذه التجارب إلى تجربة رئيسية موحدة تتضمن إحساساً بالسلام أو شعوراً بالانفصال عن الجسم والتواجد خارجه، ورؤية أنوار”.(5) وهي جميعها تحتوي خبرة إضافية على مستوى الوعي الجمالي لدى أبطال الروايات، إذ يرون أبعاد الحياة بعين جديدة، ويكون إدراكهم وشعورهم في حالة قصوى من الحماسة أو المعاناة أو التعجب، في الميل إلى أسباب الجمال والسعي إليها، والانسحاب من القبح والانفصال عنه. إن “الفن لا يكتفي بأن يكون موجوداً، لأنه… طريقة في تقديم العالم، في إظهار عالم رمزي موصول بحساسيتنا، وحدسنا، ومخيلتنا، واستيهاماتنا… يتنزل الفن، في الإجمال، في الواقع، من دون أن يكون واقعاً بالكامل، ناشراً عالماً متوهماً يحلو لنا العيش فيه أحياناً -لا في صورة دائمة- بدلاً من الحياة اليومية”.(6)

وهناك علاقة وثيقة تربط بين أبطال الروايات الثلاث والسماء، ترقـّباً وصعوداً ورحلة وتجوالاً وحركة، وبعضهم في الرواية يقترب إلى حد ما من مفهوم الشامان أو ما يشابهه من المعلمين الروحيين، وآخرون تكتفي الرواية بخوضهم تجربة استثنائية، “إن التحليق في الأجواء يعبـّر تعبيراً جميلاً عن أهلية أفراد من أصحاب الامتياز في هجر أجسادهم، عندما يحلو لهم أن يفعلوا، وفي الارتحال بـ”الروح” إلى المناطق الكونية الثلاث: السماء والأرض والجحيم… ومن الواضح أن طيران الشامان يعادل “موتاً” طقسياً، لأن روحه تهجر الجسد بصورة رمزية، وتحلّق إلى أبعاد يتعذر على سائر الناس، إدراكها”.(7)

وقد تميزت هذه الروايات بكونها جسدت الصراع بأشكال مختلفة ولكنها متكاملة كثيراً ما تنحو لأن تكون صراعاً بين الجميل والقبيح، بين الإيجابي والسلبي، بين الصراع ذي الطابع الذاتي في “مدينة الرياح”، والصراع ذي طابع التحدي لربط الماورائي الروحاني بالواقعي المباشر في “البعد الخامس”، والصراع ذي الطابع الاجتماعي في مواجهات البطل مع محيطه في “بعد الحياة بخطوة”. إذ “هناك نوعان من الأفعال، النوع الأول هوالأفعال الجسدية التي يقوم فيها البطل بعمل شجاع في المعركة أو في إنقاذ حياة. أما النوع الثاني فهو العمل الروحي الذي يتعلم فيه البطل أن يمارس حياة روحية إنسانية خارقة تتجاوز المستوى الطبيعي، ثم يعود بعد ذلك حاملاً رسالة”.(8) والرواية بوصفها فناً توصل للمتلقي رسائل وتتيح له التواصل مع تجارب شخصياتها عبر مكونات السرد، إذ “إن مضمون الفن يحوي كل مضمون النفس والروح، وإن هدفه يكمن في الكشف للنفس عن كل ما هو جوهري وعظيم وسامٍ وجليل وحقيقي كامن فيها. إنه يزودنا، من جهة أولى، بتجربة الحياة الواقعية، وينقلنا إلى مواقف لا نعرف شبيهاً لها في تجربتنا الشخصية وقد لا نعرفه أبداً، كما ينقل إلينا تجارب الأشخاص الذين يمثلهم؛ وبفضل مشاركتنا في ما يقع لهؤلاء الأشخاص نصبح، من الجهة الأخرى، قادرين على أن نحس إحساساً أعمق بما يجري في داخلنا”.(9)

إن جزءاً من تفسير سبب اختلافات الصراع هو انتماء الروايات إلى عقود مختلفة، فـ”مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو تنتمي إلى عقد التسعينات من القرن الماضي، و”البعد الخامس” لطالب عمران تنتمي إلى العقد الأول من الألفية الثالثة، و”بعد الحياة بخطوة” ليحيى القيسي جاءت في العقد الثاني من الألفية الثالثة، وجاءت الأدوات الروائية ومؤثرات المجتمع وتفاعل الفرد معه متباينة بحسب معطيات العصر الذي تمثله وتندرج فيه، من حيث الشواغل النفسية للمبدعين، ومجمل الثقل الاقتصادي والثقافي والأحداث العالمية المتضمنة في زمنهم. فالحال بالنسبة إلى المبدعين عموماً وأبطال الروايات الماورائية خصوصاً تكمن في أن “البديل عن السعي وراء أسلوب عيش مشترك مع الإدارة هو بالانغماس في الروحانيات. قد يختارون بين الإدارات البديلة التي تنشد أهدافاً مختلفة… هذه هي الحال لأن المفارقة محل الدراسة تنبثق من حقيقة أن مبدعي الثقافة والمديرين… ملزمون باقتسام الفضاء نفسه والتشارك في المسعى نفسه، وتزاحمهم هو تزاحم الأشقاء، فهم يسعون خلف الهدف نفسه، ويقتسمون الغاية نفسها أي أن يجعلوا العالم مختلفاً عما سيكون عليه أو عما سيؤول إليه لو ترك وشأنه”.(10)

وستمضي هذه الدراسة إلى تتبع الماورائيات في الروايات الثلاث من خلال كل من: المُسبّب الفيزيائي، والانفصال عن الواقع المادي، والتقنيات الماورائية، والمصطلح الصريح.

1 ـ المسبب الفيزيائي :

لا تخلو رواية من مسبب فيزيائي أدى إلى خروج الشخصيات على بيئتها، وكان حافزها إلى رحلة تغيير ما بها، فكان الألم وشظف العيش ومعاناة العبودية السبب الأول في “مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو، وكان تكرار الألم والحسرة والشعور بالاغتراب السبب الثاني في الرواية نفسها. لقد اعتقد البطل بأنه سيلغي الألم الفيزيائي من حياته، وبأنه قد يدخل حالة سحرية  حين يبدل زمنه، وأنه سيحصل على الجمال والكرامة والراحة، غير أنه لقي الخذلان مرتين.

وكان الفضول هو الدافع الأول في رواية “البعد الخامس” لطالب عمران، والشوق للقاء الجدّ الغائب منذ سنوات، ومما لا شك فيه أن هذه الدوافع نفسية ووجدانية وليست فيزيائية، غير أن دافع الحفاظ على الوجود والرغبة في المعرفة من أجل الحصول على كنز الخلود هو الدافع الفيزيائي الذي برز مع نهايات الرواية، فالدكتور ماهر لم يتمكن من تخطي شروط الزمن مثل بطل “مدينة الرياح”، ولكنه يسعى إلى الحصول على الطريقة التي تكفل له ذلك ومن أجل التمتع الروحي بوجود صافٍ، وإن يكن المجهول يكتنف قدراً كبيراً منه.

وفي “بعد الحياة بخطوة” ليحيى القيسي، يختلف الأمر عن الروايتين السابقتين، فالبطل فعلياً حزين لأنه قد عايش حالة الطمأنينة والرفاهية والسعادة المطلقة في عالم آخر، ثم حُرم من التمتع بها، واكتشف أن ما مرّ به يكتسي شكل الحلم، فهو لم ينفصل عن واقعه إلا بشكل موجز ومختصر، فكان المسبب الفيزيائي هو المرض والعجز والضعف، مما أدخل جسمه في حالة من السكون الظاهري القريب من الموت. أما المسبب الفيزيائي الثاني الذي كان يدعو البطل إلى تمني الموت طمعاً في العودة إلى السماء حيث الشعور المريح الجميل الذي عايشه سابقاً، فهو معاناته الفقر والفاقة في واقعه، إنه نموذج من أشخاص كثيرين من أهل وجيران وأقرباء لا يمتلكون ما يكفي لتحقيق طموحاتهم المادية الدنيوية، والحلمُ بعالم آخر يمكن أن يخفف الكثير مما يحسون به، ويدفعهم إلى الرضا كي يسموا بأرواحهم بدرجة كفيلة بدخولهم مكاناً كالفردوس.

 إن هذا المسبب الفيزيائي سوف يَظهر وجهٌ آخر له يكتشفه البطل داخل العالم السماوي نفسه، فهناك شخصيات صادفها هناك، وقيل له بأنها لم تكن ذات سلوك إيجابي في حياتها، فمُنحت فرصة أو فرصتين، فهم “لم يكونوا جهلة بل جاؤوا بمعارفهم الأرضية، لكن بأرواح تائهة. بَدَوا مثل قافلة من الدواب العطشى كانت تحمل الماء على ظهورها طيلة حياتها السابقة دون أن تستطيع الشرب منه، حتى إذا وصلوا هنا أخيراً، ظل الجدل بينهم لا ينتهي، وأصبح السخط زادهم اليومي! الاقتراب من أي واحد منهم، وسماع ذلك الحوار المشحون بالشتائم بينهم يجعل المرء يتفطن إلى تلك الحياة السابقة التي عاشها هؤلاء”.(11)

2 ـ الانفصال عن الواقع المادي :

تتميز الروايات الثلاث بانفصال كلّي لأبطالها عن الواقع المادي المباشر الملموس بالخبرة والتجربة، وذلك خلال فترات محورية زمنياً، وفي أمكنة خاصة تتسم بتوفير عزلة كاملة بدنياً ونفسياً، الأمر الذي يقرّب الشخصيات من الحالة الروحية لاتصالها بعالم ماورائي تكمن فيه رغبات الأبطال في تحسين حياتهم وحياة من حولهم.

إن الجبل أو التلة المرتفعة أو الصحراء والعزلة هي المكان الذي يقصده بطل “مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو، كي يغوص داخل نفسه، ويحاول التطهر من آلامه، والقبح الذي يعاني منه، والتعرض لأكبر قدر من التفجع على واقعه المؤلم “مع الصبح سيكون أثري الخفيف قد مسحته الرياح نهائياً.. سيثبط ذلك عزيمة من يفكر في ملاحقتي، وسيكون بوسعي أن أبدأ خلوتي على قمة الكدية دون تشويش من أحد”(12)، وهناك يحظى بنوع من الكشف فيتجلى له “الخضير” الذي يملك مفاتيح تحقيق رغبة البطل. وكأن الرواية تعطي إشارات بأن البطل لا يمكنه أن ينفصل عن الواقع المعيش لزمن طويل، أو يقيم كالخضير في مكان وزمان غير متناهيين، ولكن البطل يعوّض ذلك بالحلم بأن يكون إنساناً من نوع آخر، إنساناً خارقاً لقوانين الزمان والمكان، يطوي الزمن لعله يحسّن من حاله، أو يستطيع أن يقدّم أفضل ما لديه لمن حوله؛ “وكنت أنا هابطاً من قمة جبلي، أفتش عن بشرية أفضل، عن أمة أعدل، كنت عارفاً أنها فرصتي الأخيرة، وأن السعي والتوق إلى الكمال على وشك أن يصل إلى نهايته، طبقاً لميثاقي مع الخضير”.(13) وكأن الرواية أيضاً تلتزم قوانين الفيزياء المعروفة لدينا حتى الآن، في أن الماضي قد مضى ولا رجعة إليه، ليس في وسع البطل الرحيل إلى الماضي الذي قد يكون أجمل لأننا نعرفه ويمكننا اختيار الجميل منه، فالممكن هو الذهاب إلى المستقبل فحسب: “انتهت رغبتي في الوقوف على أطلال أوداقوست، لا بد أن أهرب من هذا الشيطان الذي يطارد الأشباح، في أول فرصة، ألم يقل لي الخضير: إذا لم ترغب في البقاء في المحطة المقبلة، افعل كما فعلت الآن، اعتزل البشر، انفرد في الصحراء، وانتظر أمر ربك”. لكني إن فعلت سأفقد إمكانية السفر خارج الزمن، وماذا لو فقدت؟ هل من الممكن أن تكون أي محطة قادمة أسوأ من هذه التي أنا فيها الآن؟”(14)

أما رواية “البعد الخامس” لطالب عمران ففيها عدة أمكنة يتم فيها انفصالُ أكثر من شخصية عن واقعها المادي الخارجي، ويمكن النظر إلى الهند على أنها المكان الأوسع الحاضن لهذه الإمكانية، أما دمشق فهي المكان الأضيق الذي اكتَشَفت شخصياتُ الرواية بأن الدكتور حامد طبّق فيها تجارب لاكتساب سرعة الحركة الخارقة وطي المكان والزمن. في الهند عاشت شخصيات عدة في الرواية تجارب متكررة لاختراق شروط الفيزياء، أي لتحقيق دخول في الماورائيات، ولكن هذه التجارب جمعتها أماكن اتسمت بالخصوصية، فهي إما غرف في دور قديمة شعبية في قلب المدينة، أو زوايا في حدائق مليئة بالأشجار وذات طابع تراثي، فهناك تركيز على صفة القِدم في المكان والبعد عن المظاهر المعاصرة من تكنولوجيا أو أثاث فخم حديث، وهناك تركيز على الطبيعة الجميلة التي يعد القرب منها والتفاعل النفسي معها والارتياح إليها من معززات الدخول في حالة الطمأنينة الروحية الممهدة لبناء علاقة مع الماورائيات الغريبة.

 ففي الغرف القديمة شاهدت شخصياتُ الرواية الظواهرَ الخارقة كارتفاع “غورديب سينغ” عن الأرض، “تمدد الشيخ على ملاءة، ووضع فوق صدره غطاءً رقيقاً مع قضبان من الخشب، غطّاها بغطاء آخر، ثم بدأ يرتفع عن الأرض طائراً بهدوء. نظرت إليه لينا مدهوشة، وبعد دقائق انخفض بهدوء. همسَت: شيء لا يصدق إنه متقدم في السن، كيف يقوى على ذلك؟

ـ لا علاقة للتقدم في السن بهذا العمل. إنها الخبرة والمعرفة والقدرة على التحكم بالجسد. أراها الشيخ كيف تنخفض ضربات القلب إلى نبضتين في الدقيقة، وكيف يدخل في مرحلة الليتارجيا ـ السبات”(15)، وفي الحديقة التقى الدكتور ماهر بجده الدكتور حامد للمرة الأخيرة.

وتحفل رواية “بعد الحياة بخطوة” ليحيى القيسي بالأجواء الغريبة في مكان مركزي واحد هو السماء، حيث يجد البطل كل ما يدهشه من لقاء الراحلين من أحبابه وأفراد أسرته المقربين، وصولاً إلى جدّه الذي يشغل مكانة مهمة هناك. وكما في الروايتين السابقتين، فإن البطل يشعر بأنه واعٍ تماماً في المكان الذي هو فيه، وكأنه في حالة من الوعي الكامل الذي يفيض فيشمل كل ما حوله، لتدخل البيانات إلى ذهنه بشكل تلقائي وسريع ومنساب، فهناك حجم كبير من المعلومات يتعرض له البطل في لحظات قليلة، وهو كذلك يقارن بين ما يراه الآن، وما يراه بعد برهة قصيرة، حيث إنه يرى مصائر مختلفة للناس، وحيوات عديدة يحياها الشخص الواحد، وفرصاً متعددة لمن لم يتمكن من الوصول بجدارة للسكن في “المستقر” أي السماء: “أخبرته أمه حين هدأ من اضطرابه، أن كل من يصل هنا يتعرض لهذه المراجعة الذاتية لحياته السابقة، وما عمل فيها، ويحسّ بما جرى هناك بكل تفاصيله الدقيقة. يأكله الندم أحياناً على ما فرّط من وقته الثمين، وعليه أن يعرف أين أخفق وأين أصاب في هذه الرحلة، وفي حالة فشله الذريع في مهمته، قد يتم منحه فرصة ثانية للعيش على الأرض في ظروف أكثر صعوبة كنوع من القصاص، وعليه أن يثبت نجاحه فيها، أما في حال فشله مجدداً، فإنه يتم إرساله إلى أرض أخرى تدعى “الحضيض” سيحدّثه عنها جده حين يأتي أوان ذلك!”(16)

 إن مهمة البطل تشبه نسبياً ما في الروايتين السابقتين، من الحلم بحياة أفضل، غير أن البطل هنا كان يرغب في البقاء داخل الحالة الجميلة في السماء بين الغيوم وبين أحبابه، ولكنه علم بأن قرار انتقاله للسكن في السماء لم يحن بعد، وبأن رحلته وزيارته كانت بهدف نقل ما شاهد وخَبِر إلى الناس على الأرض، في عالمه المادي المباشر الذي اكتشف مدى مشقّته مقارنة بالعالم الآخر.

3 ـ التقنيات الماورائية :

تنوعت التقنيات المستخدمة في الروايات الثلاث سردياً في سبيل الوصول إلى حالة الماورائيات، وربط الشخصية بها في إطار مقرب ووطيد، فكان الدعاء هو التقنية الساطعة في “مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو، “كنت على رأس الكدية أُصلـّي الليل والنهار، جوعان، عطشان، تطمع في الذئاب والنسور، وكنت أرى أسفل الكدية مدينة جميلة الدور، تحيط بعماراتها الحدائق الكارعة في المياه، وكلما نزلتُ تجاه هذه المدينة، يستقبلني الرجل الدميم ذو الهامة، يسد الطريق أمامي ويمنعني من النزول، ويكرر علي بلا انقطاع نفس العبارة: “اعتزل البشرية، انفرد في الصحراء، وانتظر أمر ربك”. أرجع إلى مكاني، وأنهمك في صلاتي تحت أعين النسور”(17). لقد بدا البطل في حالة روحانية فاضت عن البؤس والأسى اللذين يشعر بهما، فكان الوصول إلى الحالة القصوى من توهج الأحاسيس الداخلية، وسيلة للتواصل مع الإيقاع الكوني الواسع الذي أدى إلى اختراق فيزياء الزمن والجغرافيا والمكان، وأسهم في ظهور شخصية الخضير التي اعتمدتها الرواية ممثلة لتقنية الخلود. كما أن التقنية الروائية تمثلت في تقسيم الزمن إلى أربعة أقسام متتابعة غير متوازية، شغل البطل فيها حيزاً من الزمن التاريخي، والمكان الجغرافي، وصفحات متلاحقة من الرواية، متفاعلاً مع الأشخاص بمشاعرهم المُحبة والمتمردة والوحشية والمندهشة.

وقد اختارت رواية “البعد الخامس” لطالب عمران التركيز على تقنيات ذات منطلق فيزيائي مادي، وسلوك نفسي روحاني، فالمُعلِّم الهندي صاحب الغرائب “غورديب سينغ” يخضع لحمية غذائية وعزلة روحية وتدريبات متواصلة حتى يتمكن من ممارسة الخوارق كالارتفاع والطيران وصولاً إلى تجارب الخروج عن الجسد: “ونوّع عروضه كثيراً، بالدخول إلى فرن متوهج بالنار ثم الخروج بعد لحظات دون أن تؤثر به النار شيئاً، مشاهد غريبة غير مألوفة شاهدناها، جرت مناقشات حولها مع “آمار” الذي ركّز على قوى الإنسان الخفية، وقدراته الخارقة، التي يستطيع تفجيرها بالبعد عما يفسد البدن من طعام به دهون ولحم حيواني، ومن شراب مسكر ودخان وحقد وحسد وشرّ متراكم في النفس. صيام طويل على الماء فقط، ثم البدء بالتركيز الذي يكبر حتى يفجـّر الطاقات الحبيسة، والممارسة المستمرة تجعل الإنسان يصبح خارقاً باستخدامه لطاقات الدماغ”.(18) كما أن الدكتور حامد والدكتور زيدي عملا معاً على اختبار المواد والخلطات وإجراء التجارب للوصول إلى مكونات تساعدهما في تحقيق أهدافهما في الوصول إلى عالم ماوراء المادة، والحصول على العمر الطويل وتخطي حاجز حساب السنوات والزمن البشري.

وقد سعت رواية “بعد الحياة بخطوة” ليحيى القيسي إلى تمويه دخول البطل إلى عالم من الماورائيات من خلال إيحاء الحلم، إذ كانت رحلته أشبه بحلم بدا للآخرين كأنه استيقظ منه بعد سبات طويل عقب عملية أجريت له في المستشفى، أما البطل نفسه فكان المتلقي يعايش دهشته خطوة بخطوة في العالم الآخر الغريب، منذ أن غادر وعيُه المستشفى وحلّق في فضاء المدينة وصولاً إلى المكان البعيد في الأعلى. لقد تبنت الرواية وشرحت في بعض فقراتها مصطلح الجسد الأثيري، الذي قيل للبطل بأنه مختلف عن الروح ومختلف عن الجسد المادي الفيزيائي الذي يتنفس ويتصف بالحياة المألوفة: “انتبه إلى أنه داخل هالة ضوئية مفعمة باللطف، تغلّفه بالكامل، ويرتفع بخفـّته نحو الأعالي، فيما تهبّ عليه أحاسيس ودودة تغمره بالطمأنينة. بدا له أنه ليس وحيداً في هذا العروج، وأن ثمة من يرافقه، أدرك بأن عليه أن يتخلص أولاً من توجّه خواطره نحو الأرض”(19).

 كما أن أحداث الرواية في العالم الآخر في السماء فصّلت في أحوال الناس هناك، وقسمتهم إلى مستويات فاتخذت من مصطلحي الطاقة الإيجابية والطاقة السلبية معياراً لتقييم أفعال الناس ودورهم في إسعاد من حولهم والعيش بشكل صحي وسليم، “ولكن هل ثمة مجال لبعض هؤلاء أن ينتقل إلى حال أرقى قليلاً فيما بعد أو يدخل أرض “المستقر”؟ قال له جده إن ذلك ممكن، إذا اجتهد الشخص في تغيير بوصلة طاقته السلبية في أعماقه أولاً نحو النور ولو قليلاً، فالتغيير لا يتم فرضه من الأعلى، بل يجب أن يكون نابعاً من داخل الفرد نفسه دون أي إجبار. التغيير يبدأ هنا في هذا الدرك بأن يحاول الشخص مساعدة الآخرين من حوله، وبث الأمل في نفوسهم أن هناك حياة أجمل عليهم السعي للوصول إليها. أما الانتقال فيكون في تغيير وضع هذا الشخص على أرض “الحضيض” نفسها أولاً نحو مكان أفضل قليلاً، فهي على طبقات”(20)، ولم تفصّل الرواية فيما بعد على الأرض في ماهية هذه الطاقة وقياسها أو أنواعها وتدرجاتها، ولكنها في رحلة البطل ربطتها بالأخلاق ومفهومي الخير والشر ومفارقة السلوك بين الجمال والقبح.

4 ـ المصطلح الصريح :

يتفاوت حضور المصطلحات الماورائية في الروايات الثلاث، فهو يزداد طرداً مع تقدم السنوات، في رواية “مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو تسود نتائج الحالة الروحانية والقدرة الخارقة لشخصية “الخضير” أكثر من تكرار مصطلحات بعينها، فالإيحاء والجو العام المحيط وحالة ذهول البطل هي الغالبة. ومع ذلك فإن الرواية تبث في بعض السطور شروحاً أو تهيئ بممارسات كفيلة بتجلي الحالة الروحانية المطلوبة. إن البطل يصرح في بداية الرواية بأنه ينتمي إلى مفهوم مختلف جداً للزمن: “بحيرة وعيي التي ليس لها قاع، انفلقت في جميع الاتجاهات، كأنما ارتطمت بكوكب ساقط من علو ملايين السنين الضوئية، الوعي يتم من خارج منطقة الوعي. إنني من منطقة ما بعد الحياة، وما قبل الموت من منطقة التخوم، أستعيد شريط حياتي.. أسمعه، وأراه، أدركه بالتفاصيل. ليس فيه قبل ولا بعد..”(21)، كما أنه يعتلي التلة في أوقات يأسه منتظراً السحب والأمطار والخلاص الروحي. إن مصطلحي الأرواح الخيرة والشريرة يبرزان على السطح في نهايات الرواية، حيث يكون مصير الإنسانية برمته مهدداً بما فيه من قبح، على مستوى الكون لا الأرض فحسب، فقد أصبح الناس عبارة عن أجساد ذاوية وأفكار مستلبة، وشخصياتهم يغلب عليها الشر والتوحش أو القنوط والاستسلام، وكلتا الحالتين بعيدتان عن مفهوم الأرواح الخيرة: “منذ آلاف السنين وأنا مسافرة في ثقب أسود من نقطة لأخرى في برج التبانة، الأرواح الخيرة قليلة”.(22)

في رواية “البعد الخامس” لطالب عمران نجد الأجواء أقرب إلى الألفة، فتظهر الهند حاضناً للاحتمالات العالية للتجليات الروحانية، والأحداث كلها تسير في اتجاه الكشف عن غموض يكتنف أجداد الشخصيات، وكأن الرواية ذات أحداث مسيّرة عن بعد من خلال الروائي كي تُحدث النتائج المطلوبة بشكل يشوّق المتلقي ويحمل إحساس الأقدار المتشابكة. إن الرواية تصرح منذ افتتاحيتها: “لا شيء يتكرر في حياة الإنسان، ما ذهب لن يعود، اللحظات التي يعيشها تنقضي ولا رجعة إلى الماضي. للزمن اتجاهه الإيجابي، نحو الأمام، وهو اتجاه واحد ليس له إياب. نحن في هذه اللحظة نختلف عما سنكون بعد ساعة لأنه سيمر علينا ساعة سيتغير فيها مكاننا الفيزيائي، يتغير فيها موضع الأرض في الفضاء، وموضع المجموعة الشمسية أيضاً وموضع المجرة”(23)، ويصرح الدكتور زيدي:

“أنا في البعد الخامس يا ماهر، لن تراني رغم أنني أراك جيداً.

ـ البعد الخامس؟ لا أفهم شيئاً، أعلم أن في الكون أربعة أبعاد، أبعاد المكان الثلاثة، زائد البعد الرابع وهو الزمن، ما هو البعد الخامس الذي تقصده؟

ـ إنه مكان المكان وزمان الزمان.

ـ أرجوك أوضح لي ما تقصد، كأن الأمر يبدو لغزاً؟

ـ البعد الخامس هو مكان وزمان أيضاً، مكان لأني أتواجد فيه ضمن حيز محدود، وزمان لأن الوقت يمر فيه بسرعة أيضاً”.(24)

كما أن الأجواء كلها كالأنهار التي تجري لتصب في مكان واحد، بما يختلف عن رواية “مدينة الرياح” ففيها كانت الأحداث تتشظى عبر الأزمنة، أما هنا في “البعد الخامس” فالأحداث والشخصيات تتكامل وتسعى إلى اللقاء وتتقارب رغم كل الصعوبات بهدف نقل التجربة، فليس ثمة هرب من الحياة وتفجّع على مصير الإنسان، بل رغبة في التسامي والحصول على نوع من الخلود في تطوير إمكانية السكن في البعد الخامس، الذي لا يقدر على تحمل مشاقه ومعرفة أسراره إلا أشخاص قلائل من مثل الدكتور حامد والدكتور زيدي.

 ثمة مصطلحات ترد في الرواية من قبيل تجربة الخروج من الجسد:

“ثم دخلت صومعتي…

ـ لتنزوي محاولاً أن تتمرن بهدوء على الليتارجيا؟

ـ نعم، وتمكنت من الخروج من جسدي والدوران والتجول في أماكن عديدة من العالم، لمدة تسعة أيام كاملة قبل أن أعود وقد قرعت عليّ ابنتي الباب، نهضت بصعوبة من هذا الجسد المتهالك، وعدت إلى وعيي سريعاً حيث فتحت الباب وكنت متعباً أحس بدوار شديد… كنت سعيداً حال خروجي من جسدي، كنت سعيداً وأنا أبصر جسدي أمامي ممدداً على السرير. وسرعان ما اخترقت الجدران وخرجت من بيتي، إنني أطير في حلم جميل دون أن أحس بالحرارة والضوء المنتشر حولي. آه، ها هم المنبوذون ينتشرون على أرصفة محطات السكك الحديدية يطاردون الناس من أجل لقمة تسد أودهم… ها هو نسر ضخم ينقض على أرنب يحمله بمخالبه والأرنب يتخبط…”(25)

 هذه التجربة قام بها “أوم باركاش سينغ” حيث يتبع نظاماً غذائياً نباتياً خالياً من اللحوم ويتحكم بقدرات جسده حتى يعيش حالة روحية يغادر فيها جسده ليشاهد أماكن بعيدة يرتحل إليها لزمن قصير وشاق.

وكذلك نجد “التخاطر” حيث إمكانية نقل الأفكار من ذهن شخص مرسل إلى آخر مستقبل، “أيقنتم أن السائق عاد بإيحاء من الدكتور ماهر، وصله الأمر تخاطرياً، ولم يكن السائق سوى رجل بسيط من السهل استدعاؤه تخاطرياً، هكذا فكرت بينك وبين نفسك”.(26) وثمة طرق تخاطرية أخرى فأحياناً يتم استخدام شخص يسمّى الوسيط الروحي لنقل الأفكار: “بعد خروجها قال آمار: سوشما هي أمينة سري، إنها وسيط ممتاز أحياناً في نقل الأفكار والتخاطرات المديدة، البعيدة. سأبدأ الآن في التركيز بالوعاء البلوري”(27)، وكلما زادت بساطة المستقبِل سهلت المهمة. وثمة فقرة تشرح الفارق بين الروح والجسم الموجي على لسان الجدّ؛ “بدأت منذ ذلك الحين البحث في سر الحياة، حضرت الكثير من جلسات ما يسمى بتحضير الأرواح، وهي ليست أرواحاً وإنما أجساماً موجية التموجات… أما الطريقة الثالثة وهي مستنبطة أو مطورة من طريقة الوسيط، فيظهر فيها الجسم الموجي متجسماً للحظات يمكن أحياناً لمسه والإحساس بمادته وليست له علاقة بالروح”.(28)

إن الرواية تقدم الكثير من المصطلحات والتجارب الروحانية على لسان شخصيات الرواية التي خبرت هذه الأمور وتدربت عليها خلال حياتها بأكملها، كما أن الرواية لا تتوسع في الجانب التاريخي الهندي في مجال تأصيل المصطلح، ولكنها توفيه جزءاً من حقه في مقدمة الرواية في البهو الذي وقف فيه الزوار أول وصولهم إلى الهند، “ليس الموت هو نهاية الإنسان المطلقة، ربما كانت نهاية جسد وليست نهاية كائن عاقل تغلفه الأسرار ويغلفه الغموض”(29)، ولعل  حالة البعد الخامس التي وصلت إليها شخصيتا الجدين حامد وزيدي قريبة من المصطلح البوذي “نيرفانا” Nirvana الذي يعني الاستنارة الروحية، والمصطلح الهندوسي “موكشا” Moksha الذي يعني التحرر أو الانعتاق، فكل منهما “هدف الحياة الروحية في الأديان الهندية… ويتفق الجميع على أنه من الممكن أن يصبح الإنسان متحرراً بينما لا يزال على قيد الحياة”(30)، والرواية هنا تحاول تأطير مختلف مصطلحات الخلود الروحانية بمصطلح ذي واجهة علمية يمكن الطموح إلى قياسها وتطبيقها مستقبلاً هو “البعد الخامس” الذي تقول الرواية بأن مختبرات الجد حامد تحتوي على سر دخوله.

تحدد رواية “بعد الحياة بخطوة” ليحيى القيسي نموذجها الماورائي في مصطلح “بعد الحياة” فوجود الخطوة بعدها يوحي باستمرارية من نوع ما، ومع المضي في الرواية إلى منتصفها، سيتضح بأن هذه الخطوة قابلة للعودة إلى الوراء، فثمة إقدام وتراجع، وبينهما تتوالى المصطلحات ذات الطابع الماورائي والروحاني أثناء رحلة البطل داخل العالم الآخر المختلف الذي وجد نفسه قد ارتفع إليه. ثمة مصطلحات من قبيل: الخروج من الجسد، والخيط من ضوء فضي “وسط كل هذه الأجواء، التي تحيل إلى حلم قَصِي وغامض، أحس بخيط من الضوء الفضي، يمتد من جسده الأثيري الخفيف هذا إلى جسده الأرضي المتروك على سرير المستشفى مثل خرقة بالية، تحت رحمة الأطباء وأجهزة الرقابة، وكلما كان يركّز فكره على ذلك الجسد تعود إليه قدرات السمع الحاد، والرؤية المبهرة، والشعور بكل التفاصيل من حوله، كما لو أنه هناك قربه، رغم كل هذه المسافات المذهلة التي قطعها في عروجه!”(31) والتلقّي بالأفكار والخواطر، “كم من الزمن مرّ عليهما في هذا العناق، وهي تخاطبه ويخاطبها دون كلام حتى هدأ وجيب قلبه، واستوعب أن الأمر حقيقة! لا علم له بذلك، إذ إن التلقي هنا يتم بالخواطر والأفكار التي تنبثق من أعماق كل واحد منهم فتصل الآخر كاملة، وبالغة الوضوح دون حاجة إلى الأحرف المتعثرة، وتصاريف الألسن، وصدى الأصوات، وتبلبل اللغات”(32)، مما يحيل إلى مصطلح “التخاطر” الوارد سابقاً، وكذلك مصطلحات: الكائنات النورانية، “جاءت أمه ومريم لمرافقته إضافة لجده حين أزف الرحيل، فيما جُهزت لهم عربة لنقلهم. أدهشه منظرها، وذلك الجمال النادر في تكوينها، إذ رُصعت بالأحجار الكريمة شديدة السطوع، والفرش النفيسة. لها هيكل ذهبي، ونوافذ من البلور، وأمامها أربعة كائنات نورانية على شكل غزلان مجنّحة مخصصة لجرّها، أو ربما الطيران بها”(33)، والأرض العلوية “مثل هذه الأسئلة بقيت تتناسل من أعماقه، ويبدو أن صورها لم تكن خافية على الأرواح المتقدمة التي تعيش هنا، وتحس بكل ما يتلجلج في داخله من تساؤلات، إضافة إلى رغبته الملحة في فهم هذه الأرض العلوية، وطريقة عيش أهلها”(34)، والطاقات الإيجابية والسلبية “المقصد الأسمى هو الرقي الأخلاقي، وإعمار الأرض بالخير والمحبة والسلام، وهي طاقات تخرج من الإنسان، وتعود إليه بقوة حسب طبيعتها سلباً أو إيجاباً”(35).

وهناك مصطلحات مكمّلة ترد على لسان شخصيات الخصوم، بعد عودة السارد إلى بيئته ومجتمعه، من قبيل: تناسخ الأرواح “هل نحن في زمن المعجزات حتى نصدّق حكايتك؟ ألا يمكن أن يكون الأمر كله مجرد هلوسات بعد مثل هذه الغيبوبة؟ كيف يكون جدك هو الذي يحاسبك وما هو العقاب لأفعالك؟ ما فائدة الموت إذن في حال استمرت الحياة من بعده بهذه الطريقة؟ لماذا لا تقول صراحة إنك متأثر بعقيدة تناسخ الأرواح الباطلة؟ هل تحاول أن تقنعنا أن حكايتك صحيحة وليست خيالاً أدبياً؟”(36)، وتوجد مصطلحات من قبيل فكرة الوساطة: “المسألة الأخرى لإيصال هذه المعلومات، كما شرحها له تكون عبر الوسطاء من الأرواح الراقية، الذين يمكنهم أحياناً التجسد بين الناس بشكل بشري، دون أن ينتبه إليهم أحد، وهذه الإمكانية ليست متاحة للجميع وصعبة. بالطبع فإنّ الحياة نفسها على هذه الأرض، أي “المستقر” تحتاج أيضاً إلى تطوير، لجعلها أكثر جمالاً لساكنيها رغم تقدمهم، فالعلوم غير متناهية، والارتقاء متواصل! بدا له الأمر مدهشاً، وأعجبته فكرة أن يواصل كل شخص حياته بعد انتقاله”.(37) إن الرواية تترك العديد من المصطلحات من دون شرح اعتماداً على أن المتلقي قد سمع بها سابقاً أو أنه سيستنتجها من سياق الأحداث وتصرفات الشخصيات، أو أنه سيقوم بالبحث عنها أو يكتفي بما قد تناهى إلى سمعه مما يقال ويتداول حولها.

ومن اللافت أن الرواية “بعد الحياة بخطوة” تعرض رحلة البطل وعودته من وجهة نظر البطل وبشكل مركزي، يؤدي فيه الآخرون دور الهامش مهما بلغت أهميتهم، فالفتاة مايا كادت تستأثر بجزء يخطف الأضواء من السارد البطل ولكن موتها يعيد إليه التألق روائياً. كما أن الرواية لا تتوقف طويلاً عند المصطلح أو تنشغل بأعماقه وتاريخه أو استخدامه المباشر، فهي توظفه كإشارة أو أداة إيحائية، وتتركه لتمضي إلى جانبٍ سردي آخر كالحوار مثلاً، ومن ذلك وصف الكائنات النورانية والرقيّ الروحي والمستقـَر، والخيط الضوئي الذي تكتفي الرواية بأحد تجلياته وفق خبرة البطل فحسب، من دون الإشارة إلى تقاطعاته مع ممارسات روحانية أخرى مشابهة، ربما يكون السبب هو الرغبة في الحفاظ على محورية البطل لتماسك أحداث الرواية وعدم خروجها وتشظي الأدوار وانتباه القارئ، وربما بسبب التشابكات بين حالتي الدخول غير المقصود إلى هذه العوالم كما حصل مع البطل، وحالة الدخول المقصود الذي تتعدد الآراء والانطباعات حوله، ويحتاج إلى ضوابط تحكم جودته وآثاره كما حصل مع “أوم باركاش سينغ” في رواية “البعد الخامس” لطالب عمران.

*

إن الروايات الثلاث تتفنن في الجانب السردي، وتتخذ من المصطلحات والإيحاءات الماورائية وسيلة لتصوير الحالة الروحانية لشخصياتها، تتجول في أعجوبة الحياة لتحاول تخطي قوانينها الفيزيائية، وطرح بدائل أخرى تُشكـّل مقاربات للوعي الإنساني في أزمنة وأمكنة مدركة كثيرة. ومن الملحوظ بأن هذه الروايات لا تقترب من الجانب الفلسفي بشكله التقليدي، فلا تطرح نظريات أو تتبنى هياكل فكرية محددة، فالرواية تشير إلى أفق واسع لانهائي ليس الخيال إلا الخطوة الأولى فيه نحو اختبار إمكاناته والتطلع إلى ماوراءه.

____________________

الهوامش:

1 ـ مدخل إلى الأدب العجائبي، تزفتان تودوروف، ترجمة: الصديق بوعلام، دار الكلام، الرباط، ط1، 1993، ص54

2 ـ المرجع السابق، ص65

3 ـ أقدم لك الفلسفة، ديف روبنسون و جودي جروفز، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة،  القاهرة، 2001، ص109

4 ـ المعجم الفلسفي المختصر، مجموعة من المؤلفين، ترجمة: توفيق سلوم، دار التقدم، موسكو، 1986، ص497

5 ـ الإثبات العلمي لحقيقة الظواهر الروحية الخارقة، د. دين رادين، تعريب وحواشي: سعد رستم، دار الجسور الثقافية، حلب، 2006، ص29- 30

6 ـ ما الجمالية؟ مارك جيمينيز، ترجمة: د.شربل داغر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، نيسان 2009، ص20

7 ـ الأساطير والأحلام والأسرار، ميرسيا إيلياد، ترجمة: حسيب كاسوحة، وزارة الثقافة، دمشق، 2004، ص162-163

8 ـ سلطان الأسطورة، جوزيف كامبل، ترجمة: بدر الديب، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2002، ص169

9 ـ المدخل إلى علم الجمال ـ فكرة الجمال، هيغل، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط3، 1988، ص45، 46

10 ـ الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، زيغمونت باومان، ترجمة: سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، مشروع كلمة، أبوظبي، 2016، ص260-261

11 ـ بعد الحياة بخطوة، يحيى القيسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2018، ص83-84

12 ـ مدينة الرياح، موسى ولد ابنو، دار الآداب، بيروت، ط1، 1996 (صدرت الطبعة الأولى عن دار L’Harmattan في فرنسا، عام 1994) ، ص77

13 ـ المصدر السابق، ص146

14 ـ المصدر السابق، ص132

15 ـ البعد الخامس، طالب عمران، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص25-26

16 ـ بعد الحياة بخطوة، يحيى القيسي، ص57

17 ـ مدينة الرياح، موسى ولد ابنو، ص133

18 ـ البعد الخامس، طالب عمران، ص78

19 ـ بعد الحياة بخطوة، يحيى القيسي، ص25

20 ـ المصدر السابق، ص85-86

21 ـ مدينة الرياح، موسى ولد ابنو، ص9

22 ـ المصدر السابق، ص167

23 ـ البعد الخامس، طالب عمران، ص7

24 ـ المصدر السابق، ص43-44

25 ـ المصدر السابق، ص33

26 ـ المصدر السابق، ص46

27 ـ المصدر السابق، ص74

28 ـ المصدر السابق، ص48

29 ـ المصدر السابق، ص7

30 ـ معجم الأديان – الدليل الكامل للأديان العالمية، تحرير: جون ر.هينليس، ترجمة: هاشم أحمد محمد، مراجعة وتقديم: عبد الرحمن الشيخ، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2010، ص459

31 ـ بعد الحياة بخطوة، يحيى القيسي، ص26-27

32 ـ المصدر السابق، ص30

33 ـ المصدر السابق، ص37

34 ـ المصدر السابق، ص62

35 ـ المصدر السابق، ص133

36 ـ المصدر السابق، ص153

37 ـ المصدر السابق، ص 64-65

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

تعليق واحد

  1. كيف أراسل د علياء الداية
    محمود سعيد
    روائي عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *