مفارقة العيش كمثقّف جاد عند إراسموس

*عمل بطولي أم أشغال صيانة معرفية لا تنتهي؟

*ندى حطيط

 يُنصّب كينيث سكوت لاتوريت في تأريخه للمسيحية (1953)، كما كثير من مؤرخي الثقافة الغربيّة، ديزايريوس إراسموس روترداموس (1466-1536)، الشهير بإراسموس الرّوتردامي (نسبة إلى روتردام في هولندا)، أميراً للمثقفين الإنسانويين و«مجدهم المتوّج» في فترة بدايات النهضة الأوروبيّة بنسختها الشماليّة الغربيّة نحو عام 1500. ويعده الأوروبيّون المعاصرون أوّل نموذج للمثقّف الأوروبي العابر للحدود الوطنيّة واللغات المحليّة، فهو وإن وُلد روتردامياً هولندياً، فقد تلقى دراسته الجامعيّة الأولى بباريس، وعين أستاذاً بكامبريدج، وألقى دروساً في أكسفورد، وشارك لاحقاً بتأسيس جامعة لوفين (بلجيكا)، قبل أن يتلقى شهادة الدكتوراه من جامعة تورين الإيطاليّة، ويقضي أيّامه الأخيرة لاحقاً في بازل بسويسرا. ويقول دارسو سيرته إنّه كان قبل وفاته على تواصل دائم عبر الرّسائل البريديّة مع أكثر من 500 مثقّف وأديب عبر القارة الأوروبيّة، قبل ظهور شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت بخمسة قرون. ولذا، فإن برامج التبادلات الثقافيّة بين الدول الأوروبيّة اليوم تحمل اسمه. وقد ترك الرجل تراثاً هائلاً من النصوص والجدل الرفيع، إلى جانب أعماله الكثيرة في ترجمة الكتب المقدّسة عبر اللّغات، لا سيّما تلك النسخة ثنائيّة اللغة لاتينية-إغريقيّة التي أصبحت بمثابة معيار لحالة اللغتين في تلك اللحظة التاريخيّة السائلة.

وبعكس صورة المثقّف الرّاهب الزّاهد التي سادت في العصور الوسطى، فإن إراسموس الطالع من أصول فقيرة وحاجة شديدة إبّان صغره بذل جهوداً معظّمة لتقديم نفسه في إطار غير مألوف عند أبناء جيله: المثقّف النّجم، صاحب الحظوة والنفوذ، الرّافل في خير عميم. وقد اجتهد في تقديم تلك الصورة المرسومة لشبكة علاقاته الواسعة بالبيوتات الحاكمة والبابوات ورجال العلم، ورفض دائماً الانخراط الكلي في وظيفة دائمة عند أحد رعاة الثقافة المحسنين، مفضلاً دائماً العمل مستقلاً على مشاريع موقوتة، يتفق عليها مفردة ثم يمضي إلى غيرها، وهو فوق ذلك أنفق ثروة معتبرة على استئجار خدمات فنانين محترفين لرسم بورتريهات له ملكيّة الطابع، لعل أشهرها تلك اللوحة التي أنجزها هانز هولبين الصغير، والتي لا تقل بهاء عمّا كان ينجز في تلك الأوقات للبابوات والملوك وعلية القوم.

لكّن قراءة عريضة لمجمل التراث الأدبي للرجل بعيون عصرنا تكشف أنّ هذه المظاهر الاستعراضيّة على دقّتها وجدّيتها المُفرطة لم تُخفِ بالطبع تقاطع المفارقات الكثيرة والتناقضات الأساسية التي عاشها إراسموس كمثقف صارم جاد في سعيه للموازنة بين متطلبات العمل الثقافي المرهق الذي يستهلك الوقت والصحّة والعمر، والحاجات الماديّة الإنسانيّة اللازمة لاستمرار العيش، لا سيّما تلك المعنية بالاحتفاظ ببريق الصورة العامّة التي كان يحاول تثبيتها عن جاه المثقّف الذي كانه، ملكاً للكلمة، وحاملاً لصولجان المعارف.

وتكشف سيرة القديس جيروم، التي كتبها إراسموس عام 1516، عن هذا التوتّر بجلاء عبر إغداقه المديح لمثله الأعلى أدبياً، بوصفه «يحسن استخراج الذّهب من أكوام القمامة»، بمعنى أنّه يقرأ آلاف الصفحات، ويقلّب مئات المخطوطات، بحثاً عن كنوز المعرفة، فينظمها ويشّذبها ويترجمها أحياناً لتكون متوفرة لطالبي العلم من بعده، وهو كان الأقدر على كشف تلك القيمة الاستثنائيّة لجهود القديس جيروم، لأنّه كان من النّوع ذاته تماماً: ذلك الباحث الدؤوب الذي يقلّب بدقّة عجيبة أكواماً من الكتب والمخطوطات القديمة والشذرات المملوءة بالغثّ، والنصوص المزيّفة والمنحولة والمنحطة، ليصنّف منها قطع معارف يسهل العودة إليها، مع تعليقات عين مثقفة عالمة على محتواها (كما في كتابه عن الأمثال وغيرها)، مما قد يدفع المرء للتساؤل عن تناقض هذه الصّورة لبحث مضن متعب مغبّر أشبه بأعمال تنظيف المنزل التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، مع صورته التي رسمها هولبين وتظهره يجلس مزهواً مرتاحاً في ملابس وثيرة، وقد أسند يديه إلى كتاب رسائل القديس جيروم (جمع مادته وحققها ونشرها إراسموس)، وقد زُيّنت صفحاته من الجوانب بعبارة إغريقيّة تعني «أعمال هرقل»، تفخيماً وتعظيماً لجهوده في إخراج الكتاب على الوجه الثمين الذي ظهر به. فكيف تجتمع تلك الهرقليّة البطوليّة الطابع مع أعمال «التنقيب في القمامة» بحثاً عن القطع الكريمة المدفونة فيها؟ لا شكّ بأن إراسموس أدرك أكثر من غيره طبيعة العمل الثقافيّ، لكنّه في الوقت ذاته يعلم بأنّ الأثرياء والزّعماء الذين يمكنهم أن ينفقوا على الإنتاج الثقافي لا يقدّرون نوعيّة العمل الروتيني المتكرر في صيانة المعارف وتنظيمها وتحقيقها وترجمتها، ويميلون إلى الانتقاص من قيمته بتصوره أشبه بجهود خدم المنازل زهيدة التكاليف، ولذا فهو عندما تفاخر بإنجازه كتاب رسائل القديس جيروم، كما في البورتريه الدّعائي الطابع، صبغه بلون البطولة الهرقليّة (صيغة البطولة التامة في عصره).

ويذكر معاصرون له أنّه رغم عشقه التام للتنقيب في المخطوطات والكتب، فإنه بعدما تحسنّت أحواله الماديّة، كان يعيّن مساعدين من الطلبة والمتعلمين يدفع إليهم كفاف عيشهم ليقوموا عنه بالعمل الثقافي المتعب المنهك للبصر، كما ترتيب المكتبة والفهارس وتنظيف المنزل وقضاء الحوائج من الأسواق، بينما يتولى هو مرحلة الصيّاغة النهائيّة واكتساب الصيت، على نحو يسمح له بقضاء مزيد من الوقت يبنى نجوميته في بلاطات الأمراء، أو يخوض النقاشات السفسطائية مع كبار المثقفين، أو يلقى بفلسفته على مريديه في الجامعات، أو يقرأ ويدبّج الرّسائل الطويلة المتبادلة مع رفقاء المهنة والناشرين عبر القارة.

لا تبدو حياة المشتغلين بالعمل الثقافي هذي الأيام قد اختلفت عن طبيعتها كثيراً في زمن إراسموس. فما زالت النّظرة الدونيّة لقيمة العمل الثقافي سائدة بين علية القوم وعامتهم، فيتلقى الباحث أو المفكر أو الكاتب نقوداً معدودة مقابل نصوص تتطلب اطلاعاً وحنكة ومعرفة وقدرات لغويّة لا تتوفر لغالب الناس، وهم -في أغلبيتهم الساحقة- مضطرون لنشر كتبهم مجاناً أو مقابل مشاركة ماديّة في تكاليف الطباعة، دون توقع عائد يذكر، ويصرفون جزءاً كبيراً من دخلهم على شراء الكتب واشتراكات المجلات وحضور المناسبات الثقافيّة المختلفة والمؤتمرات واقتناء أدوات الكتابة، وهم في الوقت ذاته مطالبون بتقديم أنفسهم أمام جمهورهم كشخصيات لها حضورها المميّز، تعيش سلاماً داخلياً ولديها من سعة البال ما يكفى للانخراط في أنشطة عامة ونقاشات متخصصة، يكون أغلبها دون مقابل، مع توفير وجود مستمر أيضاً على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة كي يبقى ذكرهم سائداً بين العالمين. وهذا كلّه بينما تتضاعف تكاليف الحياة الماديّة، وتتضخم فواتير الخدمات العامّة، وتزداد الحاجة للأطباء والأدوية والنّظارات مع تقدّم الأيّام، ويتهالك الجسد ويسقط متعباً من آونة لأخرى، ناهيك بالطبع من الحاجات الاجتماعية والنفسيّة التي تُستحق عند الاحتفاظ بعلاقات إنسانيّة دائمة مع قرين – قرينة وأطفال.

تبدو هذه الدّائرة المفرغة المفزعة معاً قدراً لا فكاك منه للمتخصصين في العمل الثقافي أيّام عصر الرأسماليّة المتأخرة الذي نعيش، تماماً كما كانت عند إراسموس عام 1500: نوعاً من طبيعة الأشياء التي لا يمكن تغييرها، وقدراً ينبغي تقبله، والاكتفاء بمحاولة تجميل آثاره القاسية. ولذا، فعندما ترى مثقفاً نجماً يتنقل بين الموائد والشاشات متأنقاً متفلسفاً فهو واحد من اثنين لا ثالث لهما، إلا من رحِمَ ربي، إما وريث ثروة طائلة يتعاطى الثّقافة ترفاً ودفعاً للملل، أو هو إراسموس معاصرنا، مدّع جاه لا يملكه، بينما يقضي حياته – رغم تنطّعه في الآراء والمواقف أمام العموم – يوماً بيوم، بانتظار الرّاتب الهزيل، أو تلك الدّفعة المتأخرة دوماً من الجريدة أو دار النشر، أو ربما تَفَضُّل أحد المحسنين عليه تأليفاً للقلوب وتلويناً للضمير.

_______________________________________________

*المصدر : الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *