إنما الفلسفة أنا

*خاص – ثقافات

*د.عزيز الحدادي

 

 

 بهذه العبارة الرائعة انطلقت الفلسفة العربية منذ الفارابي إلى ابن رشد مرورا بابن سينا و ابن باجة ، وبما أن هؤلاء الفلاسفة قد امتزج قدرهم بقدر الفلسفة ، فإنهم كانوا يسمعون نداء روح الأمة يقول : إنما محبة الحكمة و العلم نحن ، لأن أثر الروح أساسي في بناء الحضارة ، و لذلك فإن الروح لا تكون روحا إلا إذا صارت عالمة ومتفلسفة : ” ففي أعماق الفلسفة تصاغ للشعب مفاهيم جوهره ، أي طريقة  إنتمائه إلى التاريخ و العالم ” ، لكن الفلسفة اصطدمت بالتيار العدمي .

فكان قدرها حزينا ,اي التيه في الاغتراب “لقد فقدنا الفلسفة في الغربة ” ومع ذلك احتفظنا بكل الأسئلة الانطولوجية والايبستيمولوجية ,ومن خلالها نسعى الى صياغة إشكالية العقل العربي والفلسفة ,وبعبارة أخرى ما طبيعة العلاقة بين هذا العقل المريض والفلسفة ؟ ولماذا يخاف الفلسفة ؟ ألا يكون عشقه للأسطورة سببا في ذلك ؟

  ثمة حقيقة فاتنة للارواح العلمية تتوارثها الاجيال  المحبة للحكمة , وهي ان الفلسفة هبة ونعمة وعطاء , ولذلك فانها تمثل أسمى بريق للحقيقة ووميضها , بواستطها يتم انتماء الانسان الى الفكر , واذا كان ما نبحث عنه في الفكر هو الحقيقة , فان الانسان بما هو انسان لا يشعر بالابتهاج والسعادة الا اذا غلف بالفكر جميع ابداعته التي تولد من الروح ,وبما ان الروح وحده الحقيقي , فان الحقيقة تصدر عن الروح ,فالامة التي غربت الفلسفة تكون بالضرورة غريبة عن الروح , وحكمت على نفسها بالاقامة في مرتبة الجمهور , وضاع منها امل الوصول الى مرتبة السعداء عندما تم تحريضها من قبل النظار هؤلاء الين نشروا الجهل المقدس , وكفروا الفلاسفة وحكموا عليهم بالنفي او الموت ,واضحى قدر هذه الامة بين ايديهم الى الان ,لكن الا يكون الانسان كامل الفطرة هو من تكلمت الروح باسمه ؟ وهل تتوجه الفلسفة صوب ذلك الانسان الذي ضاع في الضياع ؟ ام انها تسعى الى السمو نحو صاحب الفطرة الفئقة ؟ وهل معنى ذلك انه بغياب الفطرة الفائقة  في الامة تتوجه الفلسفة نحو الغروب في شفق العدمية ؟ وبعبارة ابن باجة اين هم اصحاب الفطر الفائقة  اي العقلاء في هذه الارض الجرداء ؟

   تضعنا هذه الاسئلة  في قلب الغموض ,باعتباره كيفية متضمنة بذاتها في روح تلك الامم التي تهاب الفكر بحجة انه يلوث الشعور الديني , الذي يتم استثماره من اجل تحديد مصير الامة , حيث يغدو ” اسمى شكل يمكن فيه للشعب ان يتصور العالم ويعي الحقيقة ” 1 هيجل المدخل الى علم الجمال , الطليعة ,ص178

  هكذا يجرد الانسان من العقل المفكر ويتحول الى حيوان , الى درجة انه يصبح عاجزا عن ادراك الحقيقة بواسطة مواضيع طبيعية منعزلة نظير الشمس . والقمر والارض والنجوم . فجميع هذه المواضيع يتم تحديدها انطلاقا من الخيال الديني الذي يرفض مبادىء العلم الحديث نظريا ويستثمرها عمليا ,,لأنه بقدر ما أنطفا نور العقل النظري في هذه الامة  , استيقظ فيها العقل العملي من شدة الطاعة والعبودية .

  مهما يكون هذا النور الغسقي مسؤولا  عن التباس الروح التي لم تعد تنظر الى الفكر بأنه الرؤية الى أبعد حد للرؤيا , ولا  الى الفلسفة كدائرة تؤتثها العلوم , لكنها مرتدة على نفسها , فأنه سيكون مضطرا لجعل معيار الحقيقة غايته والا اضحى لا يميز الخطأ عن الصواب , لأنه بمجرد ما تستيقظ ملكة التمييز من سباتها الدوغمائي , يمكن للفلسفة ان تفتح حوارا مع هذه الآمة اذا كانت ترغب في اللقاء بذاتها من جديد ” ففي الفلسفة يلتقي الروح بذاته ” كما قال هيجل .

   أنه لاحساس ممتع هدا الذي عبر عنه الفيلسوف , بأعتباره ظميرا  لشعبه , حين قال ” نحن الالمان  مفهوم الفلسفة مالوف  عندنا , لكن الشعوب الاخرى تجهله ” 1هيجل المصدر نفسه . اذ لدى كل شعب ادرك درجة متقدمة من الحضارة قدرة خارقة على التفلسف ,وابداع المفاهيم العلمية  للكينونة والوجود والزمان , مما يحكم على الرؤية بالأنتقال من الغسق الى النور المبهر . وبخاصة وانه في الفلسفة لا يجوز القبول باي شيء , لآن الفلسفة هي علم الموجود بما هو موجود .

  يخطىء أذن من يحسب انه بأبعاد الفلسفة عن الشعب  , سيصبح سيدا مستبدا بالأرواح , مروجا للأساطير والخرافات  بواسطة التدين الشعبي . ولكنه سيحول الحقيقة الى سلطة تراقب وتعاقب  كل معارض لها , وينسى  ان  الحقيقة هي كشف الموجود بما هو موجود , مادام انها حقيقة الوجود , وعلى هذا النحو سينهج الفكر نهجا معاديا لنور العقل , وسيصبح شغفه منصهرا في التمثل الديني , رافضا كل اجتهاد فلسفي او علمي  فبدلا من ان  يثبت الشعب وجوده بواسطة الفكر .يعود الى الآساطير ,ويدفن نفسه فيها , ولذلك كان هيجل على صواب حين تهكم من البدائية  واعتز بأمته , فاهتمامات  الروح هي التي تتحكم في قدر الأمم ,فبأي معيار يصبح الفكر الفلسقي مقياسا للتقدم الحضاري ؟ وعلى اي وجه يتم تحديد مصيره أذا كانت الماهية مختبئة وراء حجاب الجهل ؟ وما الذي تحكم في هذا القدر الحزين  الذي ادار ظهره لنمو الروح في الفلسقة والعلم ؟ ,بل ولماذا ا نال الفكر اضحى يتحرك في دائرة لبست بدائرته ؟

 نحن اذن امام فكر مغلوط تأسس انطلاقا من الوعي الشقي , كما جاء في جدلية العبد والسيد لهيجل , ذلك أن الذين أعطوا أمتهم .

تصورا مغلوطا لمفهوم الروح  وعلاقته بالوعي والبدعة ,  هم انفسهم من حكموا على الفكر بالضلال , وجعلوه يدمر ذاته بذاته , حين توجه الى محبة الحكمة  وقام بتخريبها , فتحولت ام العلوم الى منبع للكفر , مما حكم على  الحقيقة بهجران كل هذه المدن  الجاهلة , وتحول الحوار الى  حرب للهدم الذاتي .

  هكذا كبر الخوف من الفلسفة , وصار في صيرورة الكينونة العربية التي انصهرت في الخوف , وتحول مع مرور الأيام الى  جوهرها , لا ترى الحقيقة ألا  من خلاله , فالخوف من الفلسفة , معناه الخوف من اكتشاف  حقيقة الأمة في الوجود . تلك كانت هي المغامرة التي خاضتها الحركة السلفية مدعمة بالاستبداد   السياسي ولا زالت مستمرة الى يومنا هذا ,  ولذلك انتقلت   الفلسفة من علم مرغوب فيه  الى علم مرعب  للأرواح  الميكا نيكية, وحل السخط بالفلاسفة وصارت كتبهم  ترمى قي النار .

  ويعلق المستشرق رينان  على بؤس الفلسفة والفلاسفة  قائلا ” هذا العلم  ممقوت بالمغرب الأندلسي لا يستطيع الفيلسوف  اظهاره … وكان ابن رشد قد أشتغل بهذا العلم , ألا ان  أهل بلده كانوا ينسبونه الى الزندقة ” 1رينان  , ابن رشد والرشدية , ترجمة , عادل زعيتر  بل اكثر من ذلك لقد أستطاع التيار العدمي ان يمنحنا صورة مغلوطة عن هذا المستشرق الذي حكم على الفلسفة بالموت , بمجرد موت ابن رشد , حيث يقول ” ولذلك يجب ان لا يبحث عن الرشدية لدى المسلمين , وذلك لأنه لم تكن لابن رشد مدرسة فلسفية , ولأن الفلسفة بعده فقدت بريقها تماما ” 2رينان , المصدر نفسه

  عندما تفقد الفلسفة بريقها تضطر الحقيقة  الى  فقدان وميضها , هكذا تتوجه الروح نحو الغروب في غسق العدمية , وربما يكون هذا العصر اكبر شاهد على ما قاله رينان  , اذ ان الدين ظل يستخدم ضد الفلسفة , على الرغم من احتجاج ابن رشد على التيار الديني الذي تزعمه الغزالي , من خلال كتابه فصل المقال , باعتباره بيانا من اجل الفلسفة شعاره ” ان الحق لا يضاد الحق , بل يوافقه ويشهد له ” . فثمة صراع عنيف بين الحزب الديني والحزب الفلسفي سيعلن عنه ابن رشد في تهافت التهافت  الذي تناول اشكالية التكفير من منظور فقهي وفلسفي  , ليبرز الجهل المقدس للغزالي .

  مهما يكن هذا الدفاع عن الحقيقة ممتعا , فانه يضعنا في قلب الخطر الذي اضحى يهدد الفلسفة  مع نمو احركة التطرف الديني ,نظرا لأعتقادها  بامتلاك الحقيقة المطلقة , ولذلك ينبغي على العقل الاستسلام  لها . والصحيح ان الحقيقة جدلية مع التاريخ ومع العلم والفلسفة  , ولهذا نجدها معشوقة لذاتها ترغم العقل على قبولها مبتهجا  , يتوجه  نحوها شغوفا كما يتوجه العاشق الى معشوقته , ولذلك نجد ان جدل العقل والحقيقة كان هو المرشد الى الفلسفة  منذ طاليس الذي قال  بأن اصل  الوجود ماء , ومعه تحولت الحقيقة الى هدف والفلسفة الى وسيلة , ومادام ان الغاية تبرر الوسيلة , فينبغي ان نستمر في هذا الطريق الذي رسمته لنا الفلسفة منذ نشأتها ألى يومنا هذا .لكن بأي معنى يمكن للحقيقة ان تقبل التدرج  المتعلق بعمومية الغايات التي تخدمها والعقول التي تشارك فيها ؟ , وبعبارة أخرى , لماذا ان قدر الحقيقة  يشبه قدر الفلسفة  في المدن الجاهلة ؟ , وأين  يمكن للفيلسوف ان يستقر من أجل ان اختراق حميمية الفكر والحقيقة  , بل وما الحقيقة فلسفيا ؟ .

    الفلسفة لا تكون رائعة الا بقدر ما تصدر عن الحقيقة  التي تختفي وراء قناع  يصعب تمزيقه بدون ألاعتماد على الفطرة الفائقة , لأن الحقيقة  بمعناها الفلسفي تظل مجردة , على الرغم من انتمائها لجدلية الفكر والروح , إنها بلغة هيجل , ما يشكل ماهية الفكر , فمن خلال صورتها يكتسب الإنسان نور العقل , لآن تصور الحقيقة ينطلق من الجهل  إلى المعرفة , ولعل عمل الفلسفة  يقوم  بإزالة ما بينهما من تناقر , إنها تمهد إلينا السبيل من اجل معرفة أنفسنا  والحفر فيها بواسطة أداة الحقيقة .

   لقد حكم علينا هذا العصر المضطرب بالصمت , واستطاع ان يجردنا من كل الحقوق إلا الحق في الفلسفة  التي تحتمي وراء إرادة المعرفة  , باعتبارها الحق الطبيعي الذي يولد مع الإنسان  كالحرية , ولذلك يقول اسبينوزا ” إن الحق يحمل في نفسه دليل حقيقته وإنك إنما تستبين وجوه الخطأ بنوره ” , بيد إن هذا النور قد خفث في عالم جاهل قام بهدم كل المثل  ووضع مكانها لعبة الحرب والموت , وحول الفلاسفة  إلى مجرد آثار فنية تعرض في المتاحف للسياح . مما حكم على الجيل الجديد بالاعتقاد في الحقيقة القديمة التي ورثها عن أجداده  ومعنى ذلك  أن نفس المسافة التي كانت تفصل القدماء عن المعرفة هي نفسها التي ظلت إلى يومنا هذا .

 وبإمكان  هذا السكون في الزمان ان يحول هذه الكائنات البشرية  إلى أثار   أركيولوجية  تنقل إلى العالم الحديث  الأسمال الرمزي للحضارات البدائية والوسطوية  , وربما يكون  هذا الحكم مستمدا مصداقيته من الواقع الذي مزقته الحروب الطائفية والعقائدية التي حكمت على الفكر والحرية  والحوار بالإعدام  ولم تكن الفلسفة سوى تلك الضحية  التي استمرت مأساتها منذ القرون الوسطى  , عندما كانت  تواجه شراسة تجار الحقيقة , وبخاصة  السوفسطائيين الذين كانوا يضعونها  أمام أسئلة مستحيلة , منها على سبيل المثال  سؤال الحقيقة كمساواة بين العقل والأشياء            , وبعبارة أخرى , فكيف نستطيع  ان نعرف ما الحقيقة  إذا كانت مجرد مساواة بين العقل والأشياء ؟ بل ما هو المقياس الذي نعتمده من غجل الحصول على هذه المساواة ؟ إلا يكون الصراع بين الحقائق الطبيعية والهندسية والفلسفية برهانا على إستحالة الحقيقة ؟

   من العبث ان نواجه الحجج السوفسطائية بالأدلة الفلسفية البرهانية  لكونها تستمد قوتها من من التمويه على الحقيقة , ولذلك  سنعتمد على السخرية والتهكم كما فعل كل الفلاسفة منذ المعلم سقراط  الذي كان يردد بإن كل ما يعرفه إنه لا يعرف شيئا , وحين يسأله أحد السوفسطائيين  هل لا زلت تعلم الشباب ان ماهية الأشياء واحدة لأن لها نفس الحقيقة , يجيبه بنعم ويسأله قائلا وأنت أيها العالم الكبير اما زلت تعلم الشباب أن للأشياء حقائق مختلفة , وأنه من العبث أن نبحث عن الحقيقة في ذاتها , ثم ينسحب .

  والحال أن ديكارت كان يسير على خطى سقراط  , ولذلك قال بأن الحقيقة لا تكون إلا بالمقارنة بين الأصل والصورة لأن ” سلاسل التفكير الطويلة التي اعتاد علماء الهندسة أن يستخدموها في التدليل على أصعب ما يفرضونه …وأن الانسان إذا كف عن أن يتقبل الباطل  على أنه الحق , واحتفظ  دائما بالنظام الواجب  لاستنتاج    بعضها من بعض لا يجد منها هدفا لا يستطيع الوصول اليه ولا خفيا لا يمكنه الوقوف عليه ” فالحقيقة لا توجد إلا في أعماق الفكر , ومن خلاله يبرهن الإنسان العاقل  على وجوده في الوجود .ويتمتع بسعادته .

  ولو كانت الفلسفة مجرد علم باطل , لكانت الحقيقة  مجرد اوهام وزيف , وتحول الفكر إلى مخادع وماكر , بيد أن التجربة تتبث عكس ذلك , لأننا نشاهد تلك الأمم التي وضعت ثقتها في الفلسفة , واستطاعت أن تحقق تطورها في التاريخ , عندما انتقلت من العصور الوسطى إلى عصر الحداثة , وأضحى التقدم العلمي شعارها والاختراعات التقنية هدفها , هكذا حققت للإنسان السعادة انطلاقا من مبادىء فلسفة التنوير بمعنى ” الحرية المساواة الكرامة  إنه الأسس التي جاءت من أجله الثورة الفكرية للعصر الحديث , لكن إلى أي مدى سيظل قدر الفلسفة حزينا عندنا ومبتهجا عندهم ؟ وما أهمية هذا الدفاع عن الفلسفة وكأنها مذنبة؟ وما هي التهمى التي تلاحقها ؟ ولماذا أن هذه الأمة تهاب الفلسفة ولا تهاب  الإنحطاط  والاستبداد التىوقراطي ؟

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *