بين يدي التأسيس للهياكل الانتقالية في السودان (1)

*خاص – ثقافات

* محمد الأمين

حتى لا يكون التأسيس تجريباً للمجرّب فلنؤسس تجربة إنسانية جديدة لنواقص البناء الهيكلي التي نعاني بشدة من دائها 

المطلوب استحداث سلطة رسمية رابعة وهي سلطة المواطنة

مساهمة ثرة من مؤسسة “أونيكس” عن المواطنة من منظور أخلاقي

 

حتى لا يكون البناء التأسيسي الجاري مجرد دورة أخرى للتاريخ السياسي السوداني وننغمس مرة أخرى في المماحكات والمعارك السياسة على حساب الثوابت الوطنية والحقوق الدستورية للأفراد  والجماعات، فتكون المجاهدات والتضحيات والجهد المكلّف الذي بذل تجريباً للمجرّب وإعادة إنتاج أخرى للدائرة الخبيثة منذ الاستقلال.

 

في تقديري مطلوب منا استدعاء شيء واحد من الماضي، هو لحظة الاستقلال والبدايات لأجل البناء الصحيح لمنظومات وهياكل الأمة السودانية، ووضع أسس دولة المواطنة المدنية، ومن ثم تقديم تجربة إنسانية جديدة مبتكرة من واقع معاناتنا وأمراض مجتمعنا التي ننزف بسبب غيابها حتى اليوم، لتكون ليس فقط وصفة شفاء لأهل السودان بل للبشرية جمعاء علاجاً ناجعاً يقود إلى المجتمع الفاضل الذي هو هدف كل الأنبياء والمصلحين، والذي أتت لإنجازه كل الرسالات السماوية لا سيما نحن أهل الرسالة الخاتمة الذين بعث نبينا صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله للناس كافة، ليس خبط عشواء بالتسلط والإكراه والسلطان والمتاجرة بل بالأخلاق والمعاملة الحسنة مقصد كل الرسالات السماوية، فالأفضل جاذب بطبعه ولا يحتاج للإكراه عليه، وليعلم الجميع أن راية ترفع أو جسماً يتكوّن ويتخذ الإكراه والإقصاء، الانتهازية السياسية أو المتاجرة بالمقدسات لأجل السلطان هو ليس أصيلاً ومتجاوزاً وأصاب عمله البوار منذ ميلاده حتى وإن قوي على المسير حيناً،  وعلى قدر الإصرار في الكذب والتمادي يكون حجم السقوط الداوي لاحقا.ً

 

معروف في التاريخ والعلوم والتجارب الإنسانية والمناهج والمقررات التي درسناها وتقوم عليها كل النظم في العالم أن السلطات الرسمية الثلاث التي تستطيع أن تنفذ أمرها بقوة القانون، هي السلطة التشريعية، السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، ومعلوم حدود كل منها وكيفية التنسيق بينها لإدارة شؤون المجتمع والدولة، كما تعارف الناس على التسمية المجازية للصحافة كسلطة رابعة لأهميتها الرقابية للأداء الكلي في كشف المثالب والانحرافات.. ومن هنا كانت تسميتها كسلطة رابعة ليس بقوة القانون بل خوفاً من أدوارها. ولقد كتبت من قبل سلسلة عن “سلطة المعرفة” وهي تأشير ممتد لهذه التسميات المجازية، وأركز هنا على تجربة السلطات الرسمية الثلاث التي تعمل بنجاح مكّنها من أن تستمر لفترة طويلة في المجتمعات التي عرفت دروب المدنية والحقوق ودولة القانون، الذي كان للخوف من عواقبه دور كبير في استقرارها، وكذلك الكلفة العالية التي تحمّلتها هذه المجتمعات في فترات الحرب وأسباب أخرى، ومكّن كل ذلك من تطبّع المجتمعات على هذه الحقوق لتصير سلوكاً حضارياً لأفرادها وثقافة أخلاقية مجتمعية.

 

الاستفادة من هذه التجارب الإنسانية لا تكون فقط بتطبيقها بحذافيرها، بل في استصحاب ظروفنا الخاصة وأمراضنا المزمنة  وآفاتنا، وما نعاني منه فعلاً في جانب المواطنة كمواطنين في هذه الجغرافيا الوطن في عدم احترام العقد الاجتماعي لمكونات المجتمع المختلفة بالتعدي على حقوقها الأساسية، وعدم المساواة والعدل بينها، بل حالة اللّا مبالاة العامة تجاه الآخر وعدم الاعتراف به وإنسانيته واستسهال خرق الدساتير والقوانين والعبث بها، ودكتاتورية الأكثرية من النخب والأحزاب بتقييد الحقوق الدستورية المكفولة بمواد تشرّع على عجل تصبح قانوناً يقيدها، استباحةً لحقوقهم، واستسهال التعدي على الآخر والحرمات واسترخاص دماء الإنسان المكرم من عند الله، وهو التجبّر بالسلطة التنفيذية ليس فقط على الحقوق بل كذلك على السلطات المستقلة الأخرى التشريعية والقضائية لتصبح ظلالاً لها تأتمر بأمرها، فتغيب حياديتها واستقلاليتها حتى تقوقعنا في كهف ظلامي بمثل ما شهدنا في نظام تابعنا جميعاً تسوّره بليل تسنده نخبة متعلمة ومستنيرة، ثم عبر المسير لينكفئ على دكتاتورية يسبّح أهل الفكرة باسمها ليل نهار، يتسابقون لإنفاذ خواطر الدكتاتور قبل أوامره!!

 

لحظتنا الآنية وظروف مجتمعاتنا مع المهددات والتداخلات الداخلية والخارجية المختلفة تؤشر بوضوح إلى أولوية العمل في التطور الشخصي للمواطن على هدي شمولية القيم في الرسالة الخاتمة لتتماهى مع التطوّر الإنساني لهياكل الحكم المعروفة في هذه اللحظة التاريخية، وذلك بتعلية قدر “المواطنة” ومناهجها  الأخلاقية والتربوية والحقوقية في أدائنا السياسي والتشريعي والتنفيذي ومعاملاتنا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، واستحداثها  “كسلطة رسمية رابعة” تنفذ أمرها “بقوة الحق وسلطان المعرفة” لحراسة الحقوق الدستورية للفرد والمجتمع والبيئة، والسهر عليها بـ”فيتو” واضح على السلطتين التنفيذية والتشريعية في حالات المخالفات الواضحة في الحقوق والنظم والقوانين لصون قدر الإنسان، مجاراةً للتكريم الإلهي له الذي يعاقب الإنسان على ظلمه لنفسه.

 

قد يثير هذا المقترح عدم وضوح مفاهيمي وعملي باعتبار أن المواطنة مقابلة للدولة، وعلى المجتمع أن يعمل على حماية المواطنة من الدولة، وهذا ما قصدته باستصحاب ظروفنا الخاصة في أن المنظومات المجتمعية يشوبها الضعف بسبب عبث النظم السياسية المختلفة بها ولا تقوى على ممارسة هذا الدور الأساس في المجتمع لغياب الوعي بهذه الثقافة وأدوارها وأدواتها، لذا يحتاج الأمر في مرحلة أولى إلى هذا الوضع المسنود بقوة القانون لبسط مناهجها ومنظوماتها. وقد يقول قائل أيضاً لماذا نحتاج إلى ذلك ولدينا السلطة القضائية والمحكمة الدستورية وهو سؤال قائم؟  فأقول إن أدوار السلطة القضائية قائمة لا تتأثر ولن يتماسّ معها أحد فهي معقل الحكم المذكور مراراً وتكراراً في القرآن، وهو ليس الحكم السلطاني الذي فهمه أهل بعض التيارات خطأ عن قصد أو جهل، فالحكم هو التحاكم، أي القضاء بين الناس في حالات الاختلاف كلٌّ بما يدين ويعتقد، مسلمون ومسيحيون ويهود، وكلّ أهل المعتقدات، وقد ذكر في آيات كثيرة وبتدبُّر بسيط يُفهم، وهو المذكور في آيات مثل:

 (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)..

 (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ)..

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ)

لذا، فالذين ينادون باسم الدين في سوح مجتمع المواطنة يجب أن يعلموا بأن الحكم بما أنزل الله هو القضاء به والذي سوحه السلطة القضائية وليس السلطة التنفيذية، وفيه يتحاكم الناس بالشريعة بل وبكل الشرائع في رسالات الله السماوية الأخرى لمن يطلب ذلك ويؤمن به، لذا يكفي متاجرة باسم الشريعة.

 

فالسلطة القضائية تقوم أدوارها على إقامة العدل والسهر عليه، وأن تنهض بسلطانها القضائي ولا ينتقص منها أو تنازعها فيه سلطة أخرى لاختلاف المضمون ودقة تنوعه وارتباطه بمعتقدات الناس، بينما سلطة المواطنة جهة رقابية تمنع التعدي الحادث على حقوق المواطنة فوراً، فإذا كانت المجتمعات التي سبقتنا في دروب المدنية تتحرى العدل حتى في مناشطها الترفيهية ككرة القدم مثلاً فما بالك بالحقوق الدستورية للأفراد، وهو مثال مناسب لهذا المقترح ويساعد في فهم الفكرة (كتقنية الفار) التي استحدثت وطبّقها الـ(فيفا) تطويراً للعدالة في مباريات كرة القدم وتكون فاعلة ومؤثرة (أثناء سير المباراة) وتختلف عن الشكاوى التي تنظر فيها المؤسسات القضائية لاحقاً بعد انتهاء المباريات، فإذا كان الـ(فيفا) يطوّر منظوماته الهيكلية في اللعبة بحثاً عن العدالة فما بالك بكمية العنف والحرب والقتل في مجتمعاتنا، التي أثرت سلباً على رصيد المواطنة والمواطن وإحساسه بانعدام حقوقه أو التهميش. فاحتياجنا إلى مناهج وحقوق وواجبات وقوانين وهياكل ومنظومات المواطنة أمر عاجل وحيوي، والأهم لوقف عبث النخب في حالات التمكن من السلطة التنفيذية أو التشريعية حفاظاً على النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية حتى تصير مطلوبات المواطنة ثقافة وعرف ووجدان أهل السودان.

 

وأختم بأهم وأحدث مساهمة عالمية في هذه السنة عن المواطنة  والتي كانت بين يدي مؤتمر ويلز الثاني لحوار اهل المعتقدات الذي انعقد في 1 مايو  في مدينة نيوبورت من  البروفسور عبد الله يسن رئيس مؤسسة الاونيكس البريطانية التي تعنى بقضايا الفكر من منظور اخلاقي والتي هي وصفة تمثل خلاصة بحثية معرفية مفيدة في هذا الجانب ركز فيها على إمكانية صياغة مفهوم المواطنة من منظور أخلاقي عبر ثلاثة مفاهيم أساسية هي الحرية والعدالة والديموقراطية، حيث يرى أن مطلق الحرية قد تقود إلى الفوضى لهذا لا بد من النظر إليها من منطلق أخلاق الفرد والتزامه الأسري والاجتماعي باحترام الآخر، بحيث لا يؤدي ذلك إلى التعدي على الآخرين في معتقداتهم وأفكارهم وممتلكاتهم، أما فيما يتعلق بالعدالة، فهو يرى أنه من السهل الاعتماد على القانون في توفير قدر من السلامة لأفراد المجتمع لكن الأخلاق تضمن كامل السلامة عبر الوازع الداخلي من دون إهدار للمجهود المادي أو البشري، والأمثلة كثيرة في المجتمعات التي تقوم على احترم أسس وأخلاقيات الحياة الاجتماعية والتعايش السلمي عبر بنيتها الدينية أو الاعتقادية، أما الديموقراطية وخصوصا في المجتمعات التي تتغنى بها فيرى الباحث أنها ربما تنطوي على شيء من القسوة على الآخر في الجدل من أجل الكسب السياسي وإهمال الصالح العام بسبب النظرة الضيقة للمنفعة الفردية أو الحزبية، ولكن إذا قامت هذه الديموقراطية على إلتزام الأحزاب السياسية وجميع أطياف المجتمع بمراعاة الصالح العام والتعاون لتحقيقه فإن التطور والتنمية المستدامة ستشمل كل الوطن بمواطنيه ومؤسساته الحكومية والمدنية وموارده البيئية.

 

نحن أحوج ما نكون للتعلية من مطلوبات حقوق المواطنة المدنية كسلطة حتى تتعلّمها الأجيال حفاظاً على وطن كبير متنوع لا يزال يراوح مكانه منذ الاستقلال، لم يغادر فيها محطة إنجاز دستور  يحترم حتى اليوم وتتجاذبنا روح الإثنية والجهوية والأمية، وحديثاً رياح التكفير والغُلو والصراع المسلح، يقف فيها اليوم في أحرج لحظاته التاريخية منفتحاً على خيارات في غاية الصعوبة.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *