طريق الحكمة، طريق السلام: كيف يفكّر “الدالاي لاما”؟ (8)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

    يُعدّ الدالاي لاما إحدى أكثر الشخصيات أهمية في عالما المعاصر ، وتأتي أهميته من كونه يطرح مفهوماً للدين هو أقرب إلى النسق  المجتمعي – السايكولوجي – الثقافي المغاير للمنظومة اللاهوتية الفقهية المتداولة ؛ وعليه سيكون أمراً مثمراً الإستماع إلى آرائه التي يطرحها في شتى الموضوعات المهمة على الصعيدين الفردي والعالمي .

   أقدّم في هذا القسم ( وأقسام أخرى لاحقة ) ترجمة لأجزاء منتخبة من بعض فصول الكتاب المسمّى ( طريق الحكمة ، طريق السلام ) الذي أوشك على إتمام ترجمته .

   إعتمدتُ في ترجمة هذا الكتاب على النسخة الإنكليزية التي نشرتها دار نشر ( Crossroads Publishing Company ) عام 2004 .

                                                   المترجمة

                                               

                               الذات والذات الأخرى

 

*  ثمّة إختلافات أساسية ( بين البوذية والأديان الأخرى ) لامِن حيث مفهوم الإله فحسب بل على مستوى الصورة الإنسانية أيضاً . إنّ الذات المستقلّة ، كما نعرفها ، لايبدو أنّ لها وجوداً عند البوذي ؛ فالذات لديه تنطوي على المعاناة وحسب في الوقت الذي تؤكّد فيه السايكولوجيا التحليلية بخاصة على الأهمية الفائقة لقوّة الذات . كيف يمكنك أن توضّح هذا الفروق الجوهرية في الفهم ؟

–  جسدنا يعرف ماالذي يتوق إليه : لو كان ظمآناً فسنشرب الماء حتماً . بوذا أسمى كلّ توق فينا ( عطشاً ) ، وبالنسبة إليه فإنّ هذا العطش هو القوة التي تحرّك دورة الوجود كلّها ؛ لكن برغم ذلك لولا هذا العطش الممضّ فينا لما كان بمستطاعنا التحرّر من قيودنا المعيقة ، وهذا التحرّر هو جوهر الإرتقاء الروحي في البوذية . ينبغي في كلّ الأحوال تمييز الأمور التي نتوق إليها على مستوى الوعي الجسدي لأنّ الجسد يمكن أن يتوق للأشياء المؤذية . يمكن أن يصبح الجسد واقعاً تحت سطوة إدمانية تدمّره من خلال كلّ مفردات الرفاهية الممكنة المتاحة أمامه .

   كلّ الأشياء لها – بطبيعتها – وجهان ، وتنطبق هذه القاعدة على الذات البشرية أيضاً . ثمة الذات الأنوية  التي لاتفتأ تمارس طغيانها كلّ حين إلى الحدّ الذي تغدو معه مجلبة لمعضلات كارثية ، وبالإضافة لذلك عندما يعمد المرء إلى تأكيد ذاته بطريقة غير متدبّرة بدفعٍ من الحالة الإدمانية على ( الأنا ) المتضخّمة فإنّه إنّما يؤذي الآخرين مثلما يؤذي نفسه بالقدر ذاته . هذه الذات ( الانوية المتضخّمة ) هي مايسبّب المعاناة . إلى جانب هذه الأنا المتمركزة الطاغية والمتضخمة ثمّة ذات أخرى هي ذات الإرادة – الذات التي تجعل المرء يقول : ” أستطيع أن أفعل كذا ، ينبغي أن أفعل كذا ، أريد أن أفعل كذا ….. ” .

   عندما يفتقد المرء وجود مركز هذه الانا التي تميل للفعل فلن يكون بمقدوره التعامل مع الجوانب السلبية مثل : الغضب ، الحسد ، الكراهية ،،،،، وسيكون واقعاً تحت سطوتها الطاغية والمدمّرة . إنّ إحساساتنا ومشاعرنا تبادر دوماً إلى ردّات الفعل التلقائية غير المحسوبة التي تجعلنا نميل لتملّك شيء أو رفضه ، ووحدها الإرادة القوية المدرّبة تدريباً منضبطاً هي القادرة على التعامل مع شتى أشكال هذه الإحساسات والمشاعر المتباينة .

           ثمة أعشاب تصلح علاجاً وأعشاب أخرى تقتل بالسم

 

* إذن ينبغي أن نركن إلى الإختيار الواعي دوماً ؛ غير أنّ مشاعرنا لاتنفكّ تتصارع …

–  نعم ، الأمر كذلك ، ويمكن إيراد مثال لهذا الوضع في الإعتداد الذاتي بالنفس والتفاخر الذاتي : كلا الأمرين مرتبطان بشعورنا الذاتي باحترام الذات وتوقيرها . التفاخر الذاتي يمكن أن يجعلنا متعجرفين متلبّسين بالصلافة ، سكارى منتفخين  بالغرور ، وغير آبهين لكلّ وأيّ شيء في الحياة ؛ لكن من غير ثقة مقبولة بالنفس لانستطيع إنجاز أيّ شيء يعتدُّ به . التواضع يمكن أن يصبح خجلاً مرضياً ( باثولوجياً ) ، وبالعكس قد يصبح الخذلان والشعور بانسداد الآفاق رغبة جامحة وشجاعة في إبداء المساعدة للآخرين . الغضب يمكن غالباً أن يجعلنا متّسمين بالعنف ؛ لكننا قد نصبح ساخطين بشأن مظاهر اللاعدالة السائدة وحينها سنعمل على مؤازرة العدالة وتدعيمها .

   عندما كنتُ شاباً يافعاً كان من اليسير أن أغدو غاضباً ، وقد يكون هذا الأمر سمة متوارثة سائدة في عائلتي لأنّ والدي إمتلك المزاج الغاضب ذاته ؛ لكن في يومنا هذا صار في مستطاعي السيطرة والتحكّم في نوبات غضبي من خلال التمارين الروحية – العقلية . لاينبغي أبداً أن نتوقّف يوماً عن ممارسة تمريناتنا العقلية لأنّ هذه الفعالية هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام الكائن الإنساني الحائز لملكة التفكير في للتمييز بين ماهو ذو فائدة له وماقد يأتي له بضرر ، ولأجل تعزيز هذا التوجّه في نفسي أجعل الصورة التالية مرتسمة أمامي حيناً بعد آخر : أراني واقفاً بمفردي وحيداً أواجه ذاتي بين جمع محتشد من الناس ، وأسائل نفسي : ماالمصالح الأكثر أهمية في هذه الحياة ؟ مصالحي الشخصية أم مصالح أعداد  لاتحصى من أناس آخرين ؟

   المشاعر تشبه النباتات أو الفواكه ؛ فبعضها ذات فائدة عظيمة للناس ، وبعضها الآخر سامة ويتوجّب إجتنابها . زرتُ مؤخراً متحف المحرقة ( الهولوكوست ) في واشنطن ، وبقدر مايتعلّق الأمر بي فإنّي أرى في الهولوكوست رمزاً لما يقدر الإنسان على فعله بالمعنى الخيّر والشرّير للفعل على حدّ سواء . ثمة في هذا المكان صورٌ رهيبة تعرض محنة اليهود ومصائبهم ، وكان إلى جانب تلك الصور الرهيبة صورٌ أخرى لأناسٍ فضّلوا التضحية بأنفسهم من اجل إنقاذ الآخرين .

   حتى الحبّ والكراهية يبدوان شبيهين ببعضهما ؛ لكنهما برغم ذلك يمتلكان نتائج مختلفة عظيمة التباين . التوق الشديد المكتنف بالحبّ غالباً ماينقلب لنظيره المضاد ويصبح كراهية تطحن الجسد والروح . الكراهية مؤذية دوماً وتدفع الناس لارتكاب أكثر الفظاعات شناعة ؛ لكننا نمتلك الإرادة الحرّة دوماً في اختيار ماإذا كنّا نرغب في أن نحبّ أو في أن نكره .

                                    ماهاكارونا

* هل يمكننا أن نعقد مقارنة بين الـ ( ماهاكارونا ) – أي الشفقة المُحِبّة العظمى التي يفترَضُ إبداؤها تجاه كلّ الكائنات الحسّاسة ، وهي العنصر الجوهري في تعاليم الماهايانا البوذية – مع المحبة الأخوية المسيحية التي نقرأ عنها في رسالة كورنثوس الأولى الإنجيلية : ” المحبّة لاتطلب مالنفسها ، المحبّة تتأنّى وتترفّق ….. وهي ( أي المحبّة ) تفرح بالحقّ ….. ” ؟

–  هذه مقارنة يصعب البتّ في صوابيتها ربّما لأنّ الموضوعتين مختلفتان من حيث أنّ ( ماهاكارونا ) هي تعاطف قلبيّ وليست شعوراً بالتأسّي والشفقة ، ولستُ أعلم فيما لو كان هذا الوصف للماهاكارونا البوذية يصحّ على المحبة المسيحية . إذا كان ثمّة من يشعر بالشفقة تجاه شخص آخر فيمكن أن ينزلق الأمر بسهولة شديدة ليكون بمثابة شعور مشفق تجاه حياة هذا الآخر وحظوظه في الحياة . نحن في البوذية لانريد – بالتأكيد – لهذا الأمر أن يحصل بهذه الكيفية ؛ فالشعور اللطيف المحبّ من جانب البوذية يحتّمُ أن نتعامل مع الآخر بكامل وعينا وأن نأخذه على أقصى قدر من الجدّية والإهتمام ، وفي الوقت ذاته لاينبغي إبطال الحبّ أو كبحه عندما نسعى لإبداء اقصى مظاهر الشفقة والتعاطف مع الآخرين سواء أكانوا أصدقاء لنا أو أفراداً من عائلتنا ، وينسحب الأمر ذاته على المختلفين معنا في الآراء أو طريقة العيش .

                           الحبّ الذي لايستثني أحداً

 

*  تضمّ مفردة ( الحبّ ) في لغتي الألمانية الأصلية طائفة واسعة من المشاعر ، وفي كلّ الأحوال نحن نفكّر في معنى من التعاطف القويّ والرقيق في الوقت ذاته كلّما فكّرنا في موضوعة الحبّ . إنّ شكل الحبّ الذي تتحدّث عنه في أطروحتك هذه هو شيء مؤسّسٌ على بصيرة واضحة ، وهو يضمّ الجميع تحت جناحيه بمن فيهم الأشخاص الذين نجد مشقة بالغة في التعامل معهم لكونهم يبعثون على النفور من وجهة نظرنا ؟

–  الحبّ الحقيقي المشبع بالأصالة ، كما قلت ، لايقوم على علاقة خاصة ، مثلما لايحتاج رابطة شخصية ، وهذا هو السبب الذي ينبغي أن يجعلنا نتعلّم ألّا نخلط مشاعر التعاطف الشخصية أو الوقوع في أسر الحبّ مع تلك المشاعر الخاصة بالحبّ الحقيقي . يحصل في الأعمّ الغالب من الأحيان أنّ يختفي شعور الرفقة الحقيقية تجاه نظرائنا البشريين تبعاً  لمشاعر التعاطف الشخصية  نحوهم ، وينتهي الأمر لكي نكون لطفاء ودودين مع هؤلاء الذين نحبّهم فقط .

   تمثل ( ماهاكارونا ) ، وهي الشفقة المُحِبّة العظمى تجاه كلّ الكائنات الحسّاسة ، توجهاً أساسياً في بوذية الماهايانا ، وبالنسبة لنا هي الموضوعة الأكثر قيمة من سواها . نحن نعتقد دوماً أنّ ( ماهاكارونا ) ستظلّ قائمة طالما وجِدت كائنات تعيش المشقة والمعاناة ، ويمكننا على الدوام جعل تعاطفنا المُحِبّ يتعاظم أكثر فأكثر ؛ إذ ليس ثمة حدود لما يمكن أن تبلغه روح الشفقة المحبّة العظمى . إنّ الإعتقاد بإعادة الإنبعاث أمر جوهري لهذا النوع من التفكير لأنّ عجلة إعادة الولادة هذه والتي تحصل في هيكل متتالية أبدية خالدة هي الخليقة بجعل كلّ الكائنات تصبح أماً وأباً لبعضها البعض .

_________
*المصدر: المدى

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *