أوسكار وايلد لمُحاوِره: أنت صحافي فاشل.. فلتَكتُب الشِّعر

*نزار آغري

لا يحتاج أوسكار وايلد إلى تعريف: الروائي والشاعر والكاتب المسرحي الايرلندي، الذي يعاد طبع أعماله بلا توقف، سنة بعد أخرى، منذ وفاته في باريس العام 1900، وهو الذي ولد في دبلن العام 1854. فمَن لم يقرأ “صورة دوريان غراي” و”أهمية أن يكون المرء جاداً” و”الأمير السعيد” و”سالومي” و”امرأة غير ذات شأن”…؟

لا تخلو مكتبة من كبريات مكتبات العالم، من طبعات مختلفة من أعماله الكاملة، جنباً إلى جنب أعمال شكسبير. إنه ذلك الكاتب الذي أنهكته الفضيحة المدوية عن علاقته المثلية مع ألفرد دوغلاس، ابن دوق يورك، وأدت به إلى السجن والإذلال والموت منبوذاً في فندق باريسي رخيص.

لا جديد إذاً مما يمكن أن يضاف إلى خزانة ما كتب وقيل عن أوسكار وايلد. غير أن الكتاب الجديد الذي حرره وكتب مقدمته الناقد الإنكليزي، جون وايس جونسون، يبدد هذا الانطباع. هذا الكتاب يتضمن نصوصاً غير منشورة من قبل، كان وايلد يكتبها في الصحف والمجلات الصادرة في أيامه. نصوص سطّرها وايلد في الفترة الممتدة من 1885 إلى 1889، وكان آنذاك بحاجة إلى المال لكي يتمكن من العيش بالطريقة التي أحب أن يعيش بها.

هذه مقالات، محاضرات، مراجعات كتب، تحتوي الكثير من الأفكار التي كان وايلد يؤمن بها في ما يخص الكتابة والأدب والجمال والأخلاق والحياة الاجتماعية. ثم انه كان قام برحلة إلى أميركا لإلقاء سلسلة من المحاضرات حول الإبداع والأدب والجمال. حصيلة هذه الرحلة، نص طويل عن الإبداع الإنكليزي. كان وايلد من أوائل، إن لم يكن أول مَن نادى بضرورة تحرر الأدب من الالتزامات الاجتماعية والقومية، وهو الرائد في باب تكريس مقولة الفن للفن.

نشر وايلد آراءه تلك في مجلات وصحف شعبية مثل: “بول مول غازيت” و”كوين” و”المجلة الدرامية” و”المجلة الشهرية الإيرلندية”.

وتنوعت اهتماماته بحيث شملت سائر المواضيع اليومية الملحّة في تلك الفترة، من فن الطبخ وموديلات الأزياء والديكور المنزلي والحرف المنزلية والزواج وأطباق الطعام، وصولاً إلى”الصنيع المسرحي” لشكسبير و”البلاغة الشعرية” لبن جونسون و”السيرة الذاتية” لكيتس و”الأسلوب الكتابي” لتورغينيف.

في هذه المقاربات وغيرها، يكشف وايلد جانباً مجهولاً من حياته الكتابية. انه جانب الكتابة الصحافية. ولا يصعب على القارئ أن يكتشف من فوره أن وايلد هو وايلد، أكان روائياً أم مسرحياً أم شاعراً أم صحافياً. فالنص عنده، هنا وهناك، يزخر بالذكاء الوقاد والحكمة الرصينة والفطنة البارعة والمخيلة المدهشة. وفي كل الحالات يلتحف كل شيء بمقدار كبير من السخرية اللاذعة والدعابة القارصة.

في هذه المتابعات الصحافية، يعمق وايلد نظرته في مسائل الإبداع الأدبي وعلاقة الكتابة بالناس. وهو يميل على الدوام إلى الانتصار للأدب أمام متطلبات الواقع والإعلاء من شأن النص فوق أي شأن آخر.

حين كان وايلد يسطّر مقالاته ويشذب محاضراته، كانت دعاوى الثورة والتغيير والتمرد تجول في أرجاء أوروبا. كانت الأيديولوجيات اليقينية تتشكل لتهيّء الساحة لريح الانقلابات الكونية الكبرى. غير أن ذلك كبه لم يكن ليؤثر في وايلد أو يبدل قناعاته. على العكس من هذا، فقد كان ذلك كله، في نظره، إشارة مرعبة للخطر المحيط بالناس والأدب. فالثورات والانقلابات والتمردات تقتل البشر وتفتك بأرواحهم، لكنها قبل كل شيء آخر تطيح عرش الأدب والفن والإبداع.

يقول وايلد إن رياح الثورة تطفئ شعلة الإبداع، وأن غاية الأدب ليست التمرد بل الأمان. بالنسبة إليه، الأدب لا يتأذى حين يترفع عن المشاكل الاجتماعية اليومية. بالعكس تماماً، إنه بذلك يسمو ويدنو من غايته النبيلة في الرقي بالناس إلى قمة أولمب الفن، لا النزول إلى حفرة الناس المهلكة.

بالنسبة الى الفن، هناك لحظة واحدة مهمة هي الإبداع، إذ لا يتأسس الفن استناداً إلى مقاييس النفع المادي أو الجودة الأخلاقية. ليس أدب مفيداً، وآخر ضاراً. هناك أدب جميل وحسب. الأدب الذي يستجيب لمقاييس الجمال، هو الفن الذي يسمو فوق كل شيء. الجمال المطلق، السرمدي، الخالد، هو الذي يصون شعلة الإبداع. أما القضايا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية فإنها تخنق تلك الشعلة وتهدد بإطفائها. وأخطر ما يهدد الأدب والفن يكمن في المناكفات السياسية والحزازات القومية والمعتقدات الدينية. وفي رأي وايلد، لن تقوم قيامة لفن وطني عظيم من دون حياة وطنية عظيمة.

كتب وايلد مراجعات ومتابعات ومحاضرات عن ييتس وبلزاك ودوستويفسكي وبن جونسون وبلزاك وثرفانتس وكيتس وغيرهم. غير أنه في كل هذا، لم يكن ينتقد أو يشيد أو يمدح، بل يرتب آراءه. لم تكن غايته إرضاء القراء، بل إرضاء نفسه. ولم يكن ليتردد في إطاحة أي قناعة راسخة لدى النخبة والعوام، على السواء، إذا كانت تتعارض مع رؤيته للفن والكتابة.

***

وفي كتاب جون وايس جونسون، نص مقابلة صحافية أجراها مع وايلد، صحافي ناشئ، راح يطرح عليه أسئلة معهودة عن الكاتب وعلاقته بالجمهور ورأي الناس به:

* ما رأي النخبة الثقافية بما تكتب؟

– لا أكتب كي أرضي النخبة الثقافية، بل أكتب كي أرضي نفسي.

* ما شعورك إزاء رد فعل الجمهور؟

– أي جمهور؟ كل فرد يشكل جمهوراً بحاله. أسخف أنواع الدوغما القول إن من الضروري إرضاء الجمهور. غاية الفنان هي الإبداع لمتعة الإبداع.

* ماذا تقول في شأن القضية المثيرة للجدل عن العلاقة بين الشكل والمضمون؟

– كل شيء مهم في الفن ما عدا المضمون. يمكن للكاتب أن يستفيد من كل شيء ما عدا الفكرة.

في نهاية المقابلة يقول الصحافي: تصافحنا وأومأ السيد وايلد إليّ بإشارة استحسان، وقال: أنا متأكد أن مستقبلاً كبير ينتظرك كأديب. فسألته: ما الذي يجعلك تعتقد بذلك؟ أجاب وايلد: لأنك صحافي رديء. أعتقد أنه ينبغي أن تكتب الشعر. أنا أحب لون ربطة عنقك.

ثم مضى تاركاً الصحافي المسكين مذهولاً.

وكتاب جونسون الجديد، يترك القارئ مذهولاً إزاء أوسكار وايلد الذي يبدو مثل ساحر، لا يكف عن التلاعب بكل شيء من حوله.
________
*المدن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *