شيكاغو مدينة الغواية تتمايل بالكعب العالي

*آمال نوار

بين زيارتي الأولى لمدينة شيكاغو عام 1993، وزيارتي الثالثة التي قمت بها مؤخرًا (تموز- يوليو 2018)، ظلّت الريح على عنفوانها لا سيما بين ناطحاتها التي على رغم أنّها ما فتئت تقصر كلّ يوم أمام أبراج في شرق العالم باتت تناطحها طولًا؛ إلّا أنّها قد تعاظمت ألقًا وأوغلت أُنوثةً، وبدت لي كراقصات بتنانير قصيرة يطيّرها الهواء فتبرز سيقانها. هي ناطحات سحاب تميل إلى الزرقة أو الخضرة، إذ يعكس زجاجها لون بحيرة ميشيغن حولها أو لون نهر شيكاغو تحت أقدامها. والواقع أنّ المدينة كلّها أشبه بلوحة بألوانٍ مائية، لما تعكسه واجهات أبنيتها الزجاجية من تدرجٍ لوني خلّاب، يصل بشفافيته حدّ البياض الذي يصيبني بالإغماء. حتّى التماثيل البرونزية في حدائقها، تكتسب روحها إيقاعًا مائيًا، ويمكن الناظر أن يشعر بها خفيفة بكلّ ثقلها، كأنّها عائمة على وجه الماء وهي راسخة في مكانها.

من مدينة شيكاغو، انطلقت الحداثة المعمارية، وذلك عقب حريق المدينة الكبير عام 1871 الذي استمر ثلاثة أيام، مُهلكًا المئات، ومشرّدًا الأُلوف، ومحوّلًا المدينة الخشبية إلى رماد، باستثناء القليل من المباني الحجرية. والحكاية الأكثر شعبية، تلوم بقرة السيدة أُوليري التي زُعم أنّها ركلت فانوسًا في حظيرةٍ تقع قرب نهر المدينة؛ فشبّ الحريق في المكان، ثم انتقل إلى ماء النهر الأكثر تلوثًا في البلاد (في حينه)، فاشتعل، وامتدت نيرانه على أكتاف الرياح إلى قلب الحاضرة. على أنقاض الحظيرة تلك، يقف اليوم مبنى أكاديمية شيكاغو لمكافحة الحرائق، وتنتصب أمامه منحوتة «عمود النار» البرونزية والتي يبلغ طولها عشرة أمتار للنحّات إيغون وينر. إعادة بناء شيكاغو في ربع القرن التالي، هو العمل الأسطوري الذي ميّز هذه المدينة من بين حالات إعمار المدن الأميركية الأُخرى وازدهارها، حتّى قيل: «إنّ في شيكاغو فصلين فقط: فصل الشتاء وفصل البناء». لقد استطاعت المدينة استغلال الكارثة لخلق فرصة للابتكار؛ فروح الانتعاش التي تعزّزت فيها، في أعقاب الحريق، أدّت لاحقًا إلى أن تنشأ فيها، ناطحة السّحاب الأُولى في العالم (عام 1885)، وليس كأسلوب معماري فحسب، وإنما تعبيرًا عن القدرة في تحويل مظاهر المأساة إلى انتصارٍ بالإرادة البشرية.

عمالقة الأرض

على غرار مصممة المبنى التحفة «ون ثاوزند ميوزيوم» الذي سحرني في مدينة ميامي، وهي الراحلة المهندسة المعمارية العراقية المدهشة، زُها حديد؛ لديهم هنا في شيكاغو، المهندسة الساحرة جين غانغ، مصممة «أكوا تاور»؛ البرج المائي المتموج، صاحب الرُوح الكريستالية، والقلب الأشبه بياقوتة زرقاء، والذي يعتبر ناطحة السّحاب الأطول في العالم من تصميم امرأة.

اللمسة المعمارية الأُنثوية، لها حضورها الخفيّ والمُعلن في هذه المدينة. ومن آثارها الظاهرة، تلك اللمسات العذبة الممتدة على مسافة ثلاثة أميال على طُول «ريفرووك»؛ وهو رصيف للمشاة، من تصميم المعمارية المبدعة، كارول روس بارني، يقع على الضّفة الجنوبية للفرع الرئيسي لنهر شيكاغو وسط المدينة، ويحتوي على مطاعم، ومقاعد متنزهات، وأماكن لاستئجار القوارب، وأنشطة ترفيهية أُخرى.

لا ينفصل معمار هذه المدينة الحداثي عن جوهر الطبيعة؛ فواجهات الأبنية الشاهقة تحفظ لمعان الأحجار الكريمة، وخُضرة منحدرات المُروج، وتموجات السطوح المائية التي تتدرج ألوان الزُرقة فيها وفق العُمق. أُنوثة تفيض بها المدينة، ومنحنيات معمارية تذكّرني بطعم العِناق، وانعكاسات ضوئية كغوايةِ امرأة من الشبابيك، وجسور صغيرة ممتدة فوق نهرٍ يشقّ قلبها كقُبلةِ عِشْقٍ طويلة من حُلمٍ قديم. إنّها مدينة الريح المغناج التي تتمايل بالكعب العالي، وقد أطربها غناء فرانك سيناترا مُشيدًا بشيكاغواه، بأغنية «النوع المفضّل لديّ من المُدُن».

تسنّى لي عبر رحلة نهرية في قاربٍ صغير في أرض العمالقة، معاينة بعض ملامح أبراج شيكاغو الشهيرة التي تكشف عن تطور تصميم المباني، وتعرض التاريخ الكامل للهندسة المعمارية الحديثة. ويُمكن ملاحظة كيف تمّ الانتقال من الـ «آرت ديكو» والزخرفة المُتقنة للويس سوليفان (1856-1924)، المهندس المعماري المعروف بأب ناطحات السحاب، وصاحب شعار «الشكل يتبع الوظيفة»؛ إلى الـ «مينيماليزم» أو مبدأ «التبسيطية»، شبه الانتقامي، مع ميس فان دي روش (1886-1969)، أحد رواد العمارة الحديثة إلى جانب فرانك لويد رايت، وصاحب شِعار «الأقلّ هو الأكثر». والـ «مينيماليزم»، هو اتجاه برز بعد الحرب العالمية الثانية في كل الفنون ومنها فنّ العمارة، وتجلّى بالنُّزوع نحو اختزال البناء إلى العناصر والألوان الضرورية فقط، وتكرار الأشكال الهندسية البسيطة نفسها، من دون زخرفة؛ الأمر الذي عكس إحساسًا بالنِّظام قارب الهَوَس، وانضباطًا مُضادًا لفوضى الحروب، متمثّلًا ببعض المباني والناطحات الأشبه بصناديق طويلة سوداء أو بيضاء، سخر منها لاحقًا مُصممو ما بعد الحداثة.

من بين المباني الستة والعشرين الأشهر في شيكاغو، والتي تترواح في فنّ عمارتها بين أيقونية القرن 19، متمثلةً في «ذَا رُوكري بيلدينغ»، و «المستقبلية الجديدة» للقرن 21 التي تمزج الحداثة بالتكنولوجيا، متمثلةً في «برج وفندق ترامب الدولي» (والأخير للمهندس أدريان سميث، مصمم برج خليفة في دبي، وأيضًا برج جدة في السعودية، الذي سيكتمل تشييده في 2021، وسيكون الأطول في العالم)؛ سحرني المبنى المُسمى «333 وست واكر»، وهي ناطحة سحاب ملساء ومتقوّسة، بواجهة زجاجية خضراء، تُحاكي خضرة سطح نهر شيكاغو في الأسفل. وتبدو كأنّها الحضن الذي تتمارى على واجهته الناطحات المحيطة بها، فتقصر قاماتها الشاهقة المنعكسة على سطح جمالها الشفيف والبعيد عن العجرفة المتطاولة. لكأنّها نهر ترجّل واقفًا، وثمة في انعطاف واجهتها أُنوثة خالصة، جذّابة، تمجّد الاستدارة على الزوايا، وتجعلها تقف على مسرح المدينة كممثلة قديرة، تبلورت موهبتها عميقًا في شخصيتها، وباتت تلعب الأدوار كلّها بمقدرة مرآة عاكسة.

مدينة الكتفين الضخمتين

تعدّدت التكهّنات حول أصل اسم ثالث أكثر المدن الأميركية كثافةً سكّانية. فثمة شائعات عن أنّ المدينة حملت اسم زعيم أميركي من السُّكان الأصليين يدعى «شيكاجو»، لكن الأكثر شيوعًا أنّ كلمة شيكاغو، هي الترجمة الفرنسية المُحرّفة للكلمة الأصلية «شيكاكوا» في لغة ميامي – إلينوي (إحدى لغات قبائل هنود أميركا الشمالية) والتي تعني البصل النتن (الأدقّ، إنه اسم نبات شبيه بالبصل ولعلّه الثُّوم البريّ) كان ينمو بكثرة على حواف النهر في المنطقة باعثًا رائحة كريهة.

تستقطب هذه المدينة العالمية أكثر من 55 مليون سائح سنويًا، وهي صاحبة أكبر اقتصادات في الغرب الأوسط الأميركي. وأراها تستحق ذلك عن جدارة؛ فمعالمها السياحية الفاتنة تتدرج كقوس قزح بألوان عطاياها الحضارية والثقافية والجمالية المتنوعة. هذه الغجرية المتمدنة، تراقصها الريح فاضحةً مفاتنها: متاحف فنيّة وتاريخية وعلمية، عُمران، جامعات عريقة ومراكز أبحاث، متنزهات، مسارح، كوميديا، سينما، أوبرا، موسيقى الجاز والبلُوز والسُول والهيب هوب والغوسبل، عدا عن كشكش فستانها المائي، والمراكب المشكوكة عقدًا وسط صدرها.

يبدو ازدحام المدينة كالموج، يعلو ثم يتكسّر تاركًا رذاذًا خفيفًا في النفس، وليس كازدحام مدينة نيويورك الذي يتصبب فيه القلب ضنكًا ومُقاساةً. وحتّى الوجوه الشيكاغوية التي راقبتها راكبةً قطار CTA السريع إلى ضواحي المدينة، بدا بعضها القليل، مسرحيًا، كرنفاليًا بحيويته، وبعضها الأقلّ، مُتلاشيًا كقديس في غيبوبته، تُحيط برأسه هالة من دخان الماريجوانا، في حين بدا بعضها الأكثر، وجوهًا أكثر واقعية، ولاتزال طافحة بالأمل، وغير منكودة ومستنزفة في العمل، على غرار الوجوه النيويوركية المُكابدة، المُنطفئة، التي راقبتها ذات مرة في مترو أنفاق تلك المدينة الأُسطورية أيضًا.

الملفت أيضًا في مدينة شيكاغو، أنّ شوارعها لا تقفر ليلًا لتقتصر على السياح. فوسطها، لا سيما المنطقة المسماة الحلقة أو الدائرة، مأهولٌ أيضًا بالسكان، حيث أنّ ناطحاتها، لا تشغلها فقط مكاتب الشركات ومراكز الأعمال، بل بعضها يضمّ شققًا سكنية، وثمة مبانٍ توجد داخلها أسواقًا تجارية تُجنّب القاطنين عناء الخروج إلى الشوارع والوقوع في زحمة المرور؛ علمًا أنّ أصحاب الملايين وحدهم مَنْ يسعهم السكن على سجادة فوق الريح. حواسّي المنبهرة بهذه المدينة لم تغفل عن مُعاينة آفاتها الشبيهة بآفات معظم المدن الكبيرة. فثمة المتشردون والمتسولون والمدمنون والمجرمون. ولم يكد يخلو يوم من أيام سياحتي المعدودة من خبر إصابة مواطن أسود في ريعان الشباب برصاص شرطي أبيض في منتهى السراب!

لشيكاغو ألقاب عديدة، ولكن من بين أجمل ألقابها الشائعة، ذلك المأخوذ من قصيدة بعنوان «شيكاغو» للشاعر الأميركي من أصل سويدي كارل ساندبرغ (1878-1967): «مدينة الكتفين الضخمتين». في ليلي الفندقي قرأت للشاعر بعض ما يسمى «قصائد شيكاغو» (1916)، وحين مررت بمبنى السوق التجاري «مرشاندايز مارت» (أضخم مبنى في العالم حين شيّد عام 1930)، الممتد كما لو ناطحة سحاب بالعرض، الثقيل الوزن، الفخم والضخم، بمربعاته الحجرية البارزة التي تستلهم التكعيبية الحداثية، وبتفاصيله الهندسية الدقيقة، ومعالمه الجريئة القوية على طراز «آرت ديكو» في بداية القرن العشرين؛ عندها فقط عرفت أنّه هو بعينه الكتفان الضخمتان اللتان لقبّ بهما ساندبرغ مدينته.

بعيدًا من ألقاب الشارع، المتفاوتة المستوى في الرؤية إلى هذه المدينة، بوصفها مدينة الريح أو مدينة البيتزا! ثمة لقب آخر لها في قلبي، شديد الخصوصية وأكثر حميمية؛ إنها «مهد مجلة شعر»، وكذلك، مسقط رأس مُؤسِستها، الشاعرة والناشرة والمحررة، هاريت مونرو. إنّها أرض البركان الشعري الذي منذ انفجر عام 1912، لم يخمد أبدًا. من مجلة شعر شيكاغو، ذاع صيت تي أس إليوت، وعزرا باوند، ووالاس ستيفنز، وماريان مور، ووليم كارلوس وليامز، وروبرت فروست، ولانغستون هيوز، وآلن غينسبرغ، وجون آشبري، وغيرهم العديد من أبرز الأسماء الشعرية الأميركية وألمعها. بالنسبة إليّ، هؤلاء هم ناطحات سحاب شيكاغو الحقيقيون، الأثيريون، الكونيون. ولئن نهضت شيكاغو من حريقها كفينيق جديد؛ فبفضل جناحين: جناحها المادي الحديث الشكل، العملاق، متمثلًا بعمارة حاضرتها، وجناحها الروحي الحداثوي الشاهق، متمثلًا بالتجارب الإبداعية المبتكرة الفذّة لشعراء شهرية «شعر».

عمالقة السماء

أيّ عمالقة سيتّسع لهم رأسي الصغير: عمالقة الأرض أم عمالقة السماء؟! بغير مشية الأرنب أو السنجاب، لن أحرز من شيكاغو هذه خلال أيامي المعدودات فيها إلا أقلّ من القليل. هكذا كان عليّ أن أقفز فوق بوابة السحاب «كلاود غيت»، منحوتة البريطاني أنيش كابور في «حديقة الألفية»، وأن أمتنع عن التقاط صور «السيلفي» أمام هذا الشيء الفولاذي اللامع المسمّى «الحبة»، وأن أتأمل على عجل، منحوتة خوان ميرو في «برونزويغ بلازا»، من أجل أن أصل بسرعة إلى تمثال «شيكاغو بيكاسو» الضخم. والأخير، منحوتة تكعيبية بلا اسم، منصوبة أمام مبنى «دالي سنتر»، أنجزها بيكاسو وهو في السادسة والثمانين من العمر، والأغلب أنّها عمله الأخير، ولم يبح بالمقصود منها. ولئن تعددت التكهنات بخصوص شكل التمثال، وتراوحت بين أن يكون لطائر أو لفتاة فرنسية عشقها أو لخنزير أرضي أو لكلبه الأفغاني المفضّل أو لبابون أفريقي أو لإله الموتى المصري، أنوبيس؛ فإنّه في نظري في تلك اللحظة، كان التجسيد الحيّ لرؤيتي لهذه المدينة بوصفها طائرًا مائيًا ضخمًا مضادًا للنار، بجناحين من معدنين مختلفين؛ أحدهما سماوي والآخر أرضيّ بامتياز، والإثنان آيتان في البهاء.

في متنزه «غرانت بارك»، تسنّى لي رؤية التجهيز الضخم المسمّى «آغورا» 2004-2006 (تعني أماكن التجمع في المدن اليونانية القديمة) للنحّاتة البولندية ماجدالينا أباكانوفيتش (1930-2017)، والمكوّن من 106 تماثيل من حديد لأشخاص بلا رؤوس ولا أذرع. هذا التجمُّع للقامات الحديدية التي حوّلها الصدأ إلى ما يشبه الجذوع بلحاء الشجر، يخلق في النفس مزيجًا من الرهبة والحيرة. والملفت أنه على رغم احتشاد أشخاص التماثيل، إلّا أنّ كل واحد منهم يقف باتجاه مغاير؛ كأنما تجمّعهم جسديٌّ فقط، في حين أنّ عقولهم تفكّر فرادة؛ ولكن أين رؤوسهم؟! لعلّ العكس هو الصحيح! إذ ربما المقصود أنّ هؤلاء الأشخاص كلهم متشابهون، حتّى ولو بانوا مختلفين باتجاهاتهم، ما داموا جميعهم بلا رؤوس وثمة رأس كبير خفيّ يفكّر عنهم، وما داموا جميعهم بلا أذرع وتاليًا كلّهم قد أُسقط في أيديهم! أعتقد أنّي كنت سأخسر رأسي أيضًا لو لم أُسارع بالخروج من غابة الحديد هذه متجهة نحو متحف الفنون. ولكني هناك وجدتني أمام لغز أصعب، إذ ماذا سأفعل في متحف من ستة مبانٍ في خلال ساعتين من الوقت فقط قبل الإقفال؟! خياري الأصوب، كان العدو (بحذائي الجديد الذي اكتشفت يومها أنه ضيّق!) نحو أعمال بعينها، قافزةً في طريقي إليها فوق جسور مونيه وزنابقه المائية، وفوق جرفه الصخريّ في بورفيل. وكم ألهمتني رؤية ساقَي «الرجل السائر» (1878) لرودان! رُكْبة مستديرة ناتئة تكاد تنطق، وعضلات ملحمية قويّة، وحيوية تسري في عُروق هاتين القصيدتين البرونزيتين.

وقفت مطولًا أمام تحفة غوستاف كاييبوت «شارع باريسي؛ يوم ممطر» (1877)، لأتأمل أشخاصًا قريبين ومتباعدين، على جادة طريق واسعة، بمظلاتهم المتشابهة، وشخوصهم المتفردة، المجهولة، التي تمنح صورة واقعية عن غربة مجتمع عمال المصانع الباريسي. أفرحني أنهم برؤوس وأذرع، وأنّ كلّ واحد منهم، تحت قبعته الطويلة، بدا غارقًا في تفكيره أثناء سيره؛ ولعمري، لهذا هو خير تمثيل للحرية الفردية والديموقراطية. ثم غذّيت السير باتجاه اللوحة التي في سرّي جئت لأجلها. منذ ترجمتي بعض قصائد والاس ستيفنز، وقراءتي قصيدته الطويلة «الرجل صاحب الغيتار الأزرق» 1937، والتي استوحاها من لوحة بابلو بيكاسو، «عازف الغيتار العجوز» 1903، وأنا أتطلّع إلى الوقوف أمام هذه الزمردة الزرقاء. عازف بيكاسو بلا لحم تقريبًا، أشبه بالهيكل العظمي. كأنّه يعزف بعظامه لحنَ بُؤسه وحرمانه. وهو على كِبَره وفاقته، ضرير أيضًا. لكأنّ فقدانه البصر يكرّس انتماءه بكليته إلى عالم السمع، لا سيما موهبة الإصغاء إلى عالمه الداخلي. يجلس منحني الرأس ومتصالب الساقين، وتوشك أن تكتمل دائرة جسده كتكويرة الجنين في بطن أمه؛ هذا العجوز شبه الميّت في رَحِم الحياة، يعيش في رَحِم موسيقاه جنينًا، حتّى لتبدو يد غيتاره الطويلة هي الحبل السرّيّ الذي يتغذى عن طريقه. سمفونية الزُرقة هذه، المائلة إلى السواد، رسمها بيكاسو في مدريد بعد انتحار صديقه، وذلك بضربات أسى من ريشته فوق رسم آخر يُقال إنّه لامرأة جالسة. لم أتبيّن من ذلك الشبح الغامض الذي رُسم تحت اللوحة سوى ظلال من الوجه والقدمين. تذكّرت أبيات ستيفنز وأنا أبتعد عن اللوحة:

(قالوا: «لديكَ غيتار أزرق / أنتَ لا تعزف الأشياء كما هي». / أجاب الرجل: «الأشياء كما هي / تتغيّر وفق الغيتار الأزرق».)

من أزرق بيكاسو اتّجهتْ باصرتي وبصيرتي إلى تفجّر ألوان جورج سوراه، رائد مدرسة Pointillism «التنقيطية»، في تحفته «بعد ظهر يوم أحد في جزيرة لاغراند جات» 1884، ثم إلى ألوان أكثر جرأةً وتحدياً في مخيلة بول غوغان العملاقة، التي تجلّت أمامي في لوحة «يوم الإلهة» (هيما) 1894، وإلى جانبها تعريف مختصر يشير إلى أنّ الأنساق الثلاثة للنساء الهايتيات في اللوحة، ربما ترمز إلى الولادة والحياة والموت. وكان للجسد أيضًا حصته في فردوس متعتي البصرية الشيكاغوية، إذ تفجّر شهوةً وشبقًا من لوحة الألماني ماكس بيكمان، «مستلقية عارية» 1929، التي يظهر فيها حجم النهدين والفخذين مهيمنًا على حجم الرأس الغارق في غفوة بين الكتفين، ما يعبّر عن استسلام هذه المرأة الكليّ لرغبتها؛ تلك التي تشعّ من بطنها الذهبي، ومن مفاتن جسدها وقد أصبح الجنة الموعودة بفاكهته الدانية. ثمة عارية أُخرى كانت بانتظاري: منحوتة هنري ماتيس البرونزية؛ «الجالسة عارية» (المنجزة أيضًا في1929)، ومن بعدها استمتعت بلوحته، «مستحمات قرب نهر» (1908-1917)، وقبلها كنتُ تأملت «المستحمات» (1899-1904) لبول سيزان.

وكان لي وقفة طويلة أمام لوحة بيكاسو، «الأُم والطفل عند شاطئ البحر» 1921، وهي واحدة من مجموعة لوحات الأُم والطفل التي رسمها ما بين 1921-1923، والتي تنتمي إلى حقبته الكلاسيكية؛ تلك التي تميّزت بأجساد ضخمة، صلبة، مهيبة، تشبه التماثيل القديمة. وقد لفتني عدم التناسب في الحجم بين قدم الأُم الصغيرة ويدها الكبيرة، إضافةً إلى ذلك السكون الحجري الذي يسكن اللوحة على رغم حميمية موضوعها. وفي طريقي إلى مجموعة سيلفادور دالي، حظيت برؤية «الغابة والشمس» 1927، للألماني السريالي ماكس إرنست، وهي واحدة من ست لوحات حول الموضوع نفسه، أنجزها الرسام بتقنيتَي الحكّ Frottage (فروتاج) والكشط Grattage (غراتاج) اللتين ابتكرهما. دائرة شمس إرنست ذات مغناطيسية هائلة جذبتني إليها كأنّها ثُقب أسود. ثم بعد ذلك، انجذبت بقوة أكبر إلى داخل جوارير منحوتة دالي المسماة، «فينوس دي ميلو بالأدراج» (1936)، وهي استنساخ للتمثال الرخامي «فينوس دي ميلو» (130-120 ق.م.) أو أفروديت ميلوس، اليوناني، الموجود اليوم في متحف اللوفر. تحت تأثير فرويد ونظرياته عن عوالم النفس والأحلام، ابتدعت العبقرية «الدالية» فينوس ملساء من جِصّ، بجوارير جُعلتْ في مواضع الأسرار والإثارة في جسدها، يُمكن فتحها بمقابض مزينة بحزمات من فَرْو المِنْك. إنّها منحوتة عِشْق لإلهة الحُبّ، تكشف أسرار ألمعية دالي وقلبه المُستهام بالمستتر من متاعها، ومدى غوصه في ألغاز الرغبة الجنسية وقدرته على سبر غموضها. وأخيرًا، مسك الختام لهذه المُتَع البصرية الخاطفة كانت لوحة دالي المذهلة، «رؤى الخلود» 1937. إنّها إحدى روائع دالي التي أسرني فيها فراغها التكويني المتدرج الزُرقة وصولًا إلى البياض الخالص عند خط الأفق، حيث اللانهاية لهذا الخلود المضني. ثمة عناء ومعاناة مُدمية في فك معضلة الوجود، يتجليان في اللوحة من خلال شبحين بشريين معذبين، أحدهما جالس فوق حافة مدخل مقنطر، بجسدٍ مثقوب في صميمه، وآخر أشبه بهيكل عظمي يسير في متاهة الوجود، وعلى كتفه عصا شبكة صيد، بسلة فارغة. إنّها لوحة ممتلئة فراغًا وأسىً وقُنوطًا، وتمنح الشعور بالفراغ الداخلي. لا أمل إذًا، يؤكّد لنا دالي! لا الجالس في قمة الحكمة سيفقه سرّ الوجود، ولا سندباد الأرض ستقع في شبكته سمكة. إنّه الخلود الأشبه بالعدم! الخلود، في دوّامته وديمومته المميتة، والذي يبدو معه الموت أفضل.

مع حلول موعد إقفال المتحف، ابتعدتُ عن «حقيقة» متاهة دالي السرمدية، عائدةً إلى «حُلم» متاهتي الشيكاغوية، وفي شوارع هذه المدينة الغجرية تركت جسدي وترًا للريح، محاولةً في رأسي ألا أعزف الأشياء كما هي، بل وفق غيتارها الأزرق.
___________
*الحياة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *