ثلاثون كاتبا وثلاثون قصة عن الحب كما عاشوه

*أحمد رجب

ما الحُب؟ سؤال مازال يطرحه الفلاسفة والمبدعون عبر القرون، فلعله بلا جواب، أو لعل لكل عصر جوابه الذي لا يكون شافيا لعصور تالية فيعاودون طرحه، سأله شكسبير في مسرحيته ”خاب مسعى العشاق”، وقبله بألف وخمسمئة عام خرج علينا الشاعر الروماني أوفيد بثلاثيته الشعرية ”مراثي الحب، وعلم الحب، ودواء الحب”، والحب عنده ليس مجرد زينة الحياة كما كتب الفيلسوف أبيقور، بل هو الحياة كلها، فبالنسبة إليه ليست هناك حياة كاملة من دون حب ومن دون معاناة الحب الدائمة.

على خطى الفلاسفة والأدباء والشعراء في شتى نواحي الأرض، انشغل الشعراء والكتاب العرب بموضوع الحب، وألفوا فيه الكتب ومن أشهرها “طوق الحمامة في الأُلفَةِ والأُلَّاف” للفقيه ابن حزم، وفيه يرفض مقولة الحب من أول نظرة، فهو عنده “ليس حبا، لكنه شهوة مغلفة بغلاف الحب، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة المحبوب لي دهرا، واشتراكي معه في كل جد وهزل”.

وأخيرا أصدر الكاتب العراقي علي حسين كتابا يرصد فيه الكثير من تلك الأجوبة حول الحب بعنوان “سؤال الحب من تولستوي إلى أينشتاين”، وقد صدر الكتاب مؤخرا عن دار المدى، ويقدم فيه المؤلف عبر 324 صفحة ثلاثين فصلا يحكي كل منها قصة عاشق، ساردا تفاصيل القصة المستقاة من سيرته ومن كتبه، ومن بين ثناياها يستخرج مفهوم صاحب الحكاية للحب، ومبينا أثر تلك العاطفة في حياة المحب وفي إبداعه.

يذكر علي حسين كيف كان تولستوي صبيا في التاسعة عشرة من عمره حينما كتب ”إن صحبة النساء ضرورة كريهة من ضرورات الحياة، لهذا أتمنى أن ابتعد عنهن ما أمكنني ذلك، من يجعلنا نفقد مزايانا الطبيعية، الشجاعة، والحزم، والعقل غير النساء؟“، لكنه لما أحب سونيا كتب ”أنا أحب حبا، لم أحبه في حياتي من قبل، أنا مجنون وسأطلق الرصاص على نفسي إذا سارت الأمور على ما هي عليه، لا يمكن وقف عواطفي نحوها”، وبعد الزواج كتب ”حظ من السعادة لا يُصدَّق”، لكن سونيا وهي تقرأ رواياته كانت تعرف أنه يحاول أن يرسم صورة للمرأة التي في مخيلته، وكان تولستوي قد وجد مفهوما للحب عند شوبنهاور الذي يرى في الحب انعكاسا لإرادة عمياء في الحياة وغريزة لاعقلانية لاستمرار النوع البشري. وهو المفهوم الذي بدا واضحا في سلوك شخصيات ”الحرب والسلام”، لكنه عدل عن هذا المفهوم في ”آنا كارنينا

”.

وحكى غارثيا ماركيز لكاتب سيرته جيرالد مارتن عن ولعه بقراءة أعمال شكسبير وكيف أن عبارة شكسبير “الحب وحده، بقوته الجبارة يمكنه مجابهة الزمن” التي جاءت على لسان أوفيليا في هاملت كانت تسحره. وتحضر لماركيز من خلال مسرحيات شكسبير التي أعاد قراءتها تحولات الحب، ويؤكد في لقاء معه أن شكسبير وخصوصا في روميو وجوليت لم يكتب قصة حب مجردة، وإنما قدم الحب الذي يسعى للتغلب على الصراع الاجتماعي.

ويسأل علي حسين هل كانت ميرثيديس أول حب في حياة ماركيز؟ ثم يخبرنا أن مارتينا فونسيكا كانت هي حبه الأول، تعرف عليها عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، وكانت هي متزوجة، طاردها بالرسائل فقررت أن تضع حدا لطيشه خوفا من الفضيحة، لكنه بعد سنوات يسمع صوتها عبر الهاتف ويقابلها، ويفاجأ بملامح تقدم السن الواضحة على وجهها وتسأله إن كان لا يزال يشتاق إليها وقال ماركيز ”عندئذ فقط أخبرتها بالحقيقة وهي أنني لم أنسها قط، لكن وداعها كان قاسيا جدا غيَّر من وجودي”.

كتب طه حسين عن أوغست كونت ”لم يعرف التاريخ عاشقا مثل صاحبنا أراد أن يشرك امرأة من النساء في حبه وهيامه، وأن يختصها من هذا الحب والهيام بمثل ما اختص به آلهة الحكمة نفسها”. فقد عرف طه حسين فكرة الحب من قراءة كونت قبل أن يحسه تجاه سوزان، وكان كونت رسوله لها، فتحكي سوزان ذات يوم قال لي “أريد أن تقرئي لي شيئا من أوغست كونت، ولم تكن قد سمعت باسمه، وبعد أيام وأنا أقرأ له فصلا كتبه أوغست كونت عن الحب، سمعته يقول لي المعذرة، لا بد أن أقول لك شيئا، ثم صمت وبعد دقائق قال: أنا أحبك”. وكانت بقية القصة المعروفة لكن نذكر هنا ما قاله لابنته عن أمها: هذه المرأة جعلت من أبيك إنسانا آخر. هكذا أوجز بيان أثرها في حياته.

وعن عباس محمود العقاد المعروف بأنه كان عدوا للمرأة يقول علي حسين “أحب العقاد أربع مرات وعبر عن أحاسيسه بنظرية فلسفية متكاملة الأبعاد، فهو يؤمن بأن الحب بالنسبة إلى الرجل رياضة لسد الفراغ وسكن من جهاد”، ويذكر أيضا “الذي يتأمل ما كتبه العقاد في شعره ومقالاته وكتبه يستطيع أن يحدد تجربتين عاطفيتين ذات ملامح واضحة، وإلى جوارهما عدة تجارب تختلف قوة وضعفا”. فقد يزيد عدد محبوباته إذن عن أربعة، أما التجربتان العميقتان فهما حبه لسارة ومن قبلها مي زيادة، ويلخص العقاد فلسفته حين سئل: هل الحب أمنية تشتهيها أم هو حالة تتقيها فأجاب “إنه مصيدة فإذا أحببت من لا يحبك فهو أمنية تشتهيها وإذا أحببت من يحبك فهذه هبة سماوية فالحب هبة من الله”.

أيضا يذكر الكتاب أن نجيب محفوظ عاش أول قصة حب حقيقية في حياته ولم يكن يتجاوز الخامسة عشرة من عمره فيما كانت هي تقترب من العشرين، لذا كان حبا صامتا، قصة الحب الأولى هذه سنجد ملامحها واضحة من خلال شخصية كمال عبدالجواد في الثلاثية. كذلك كتب محفوظ مقالا عام 1934 بعنوان ”فلسفة الحب” حيث الحب في نظره ”هو تلك النسمة الحية التي تشيع في جميع الكائنات الحية، نبصرها في تآلف الخلايا وتجاذب الأطيار وتزاوج الإنسان”، ويذهب نجيب محفوظ في تفسيره للحب بأنه عاطفة معقدة فيها الميل البيولوجي والوهم الذاتي والجاذب الموضوعي والإلهام القدسي والسحر الساذج.

 ويؤكد في مقالته أن أنواع الحب المختلفة تأتي من تغلب أحد عناصره الكثيرة، فقد يغلب على النفس فيصير الحب جنونا. غير أن شكل الحب الأسمى عند نجيب محفوظ ليس الحب الجسدي، بل الحب – الشوق، لأنه لا يتعلق بانفعال الشهوة، ولا بانفعال الغيرة، ولا بالانفعالات الأخرى، فهو حب يحرر الجسد من جميع الغرائز.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *