اللاعنف … أن تصبح إنسانا

خاص- ثقافات

*عدنان الصباح

حين تصبح إنسانا عضوا في جيش من مليارات الناس معا سيجد الطغاة ولصوص الأرض أنفسهم مهزومين بلا نار حين تخمد نارهم

لا يمكن لأنا أن تدرك ذاتها الإنسانية إن هي واصلت تجاهل حضور الآخر بذاته وان من حق هذه الذات أن تكون كما هو حق ذاتك أن تكون, والإصرار على أن الذات الأنا مطلقة الحق بالوجود والفعل وحصر الحق بالحياة بها ولها يعني بالمطلق انك شرعنت لذاتك حق التخلص من الآخرين, وان الإنسان الذي تدعيه قد حصل منك على حق مصادرة الحق بالوجود والفعل له وحده وانه قد أصبح من حقه أن يحصر الإنسانية بذاته ولذاته وهذا يعني بداية الانهيار للقيم الإنسانية لهذه الذات المغلقة على نفسها النافية للآخر ولأبسط حقوقه وهو حق الحياة, فما دمت قد اعتقدت انك الإنسان المطلق فأنت قد نفيت تلك الصفة عن ذوات الآخرين وتلك هي بداية الانهيار ليس لذاتك فقط ولا لذوات الآخرين بل للطرفين معا لأنك بفعلتك دفعت بالآخر أيضا أن يأخذ دور المدافع عن الذات وعند الضرورة المبادر للتخلص منك أن أمكنه ذلك ما دمت قد جعلته يثق بأنك تسعى لفعل ذلك قبله, وأنت قد أجبرته على التحصن داخل ذات مغلقة على نفسها قادرة على شرعنة الأشياء والأفكار والمعتقدات حسب رغبتها وإرادتها ومصلحتها المحصورة بذاتها لذاتها بعيدا عن ذاتك وكل ذات وبذا تكون قد فتحت نار جهنم فعلا وفكرا بعد أن صارت حقوقك التي تدعيها حقوقا مدعاة أيضا من طرف الآخرين.
اذهب إذن أولا لذاتك وتخلص من جنونها ووحدانيتها ومطلق حقها بأنها سيدة الحق وسيدة الحقيقة وحين تدرك ان الحقيقة خارج ذاتك وان الحق ينتمي اليها وانك كما الآخرين تسعى للوصول اليها فانك اذن ستصبح مدركا لعلاقتك بالآخرين أيا كانت الحالة التي يعيشونها وأيا كانت المعتقدات التي يعتقدونها فمن مهمتك ان تنقلهم الى طريقك لا ان تحاربهم حيث هم فأنت مضطر لحرب مختلفة حرب قادرة على تحديد هدفها بالانتقال بذاتك وذوات الآخرين من مالكين مطلقين للحق والحقيقة الى باحثين عنهما معا ومقتنعين أنهما واسطة العيش لكلا الطرفين وبذا تحدد أنت موقعك كقائد للمسيرة وقائد للغد وانك بإفساحك المجال للجميع للسير في نفس الطريق وضعت على نفسك واجب جلبهم الى هناك معك لا محاربتهم بذواتهم والتخلص منهم.
أنت تحارب للهدف وأنت مقتنع ان الهدف ذاته حق للجميع  من بني البشر فما دمت تقاوم الظلم للوصول الى العدل فأنت تحارب كل ظلم لان الظلم واحد وان كنت تسعى للوصول للعدالة فأنت إذن تسعى بها للجميع فلا عدالة لأحد على احد ولا حق لأحد بظلم احد واقتناعك بان الظلم يقع عليك لا يعطيك الحق بان تحارب من هب ودب على قاعدة انك وحدك المظلوم وان الجميع بلا استثناء ظالمين, وعلى العكس من ذلك فان اقتناعك بوقوع الظلم عليك يعطيك القدرة على اكتشاف الظلم أينما كان ومعرفة المظلوم ورفض الظلم بكل أشكاله وما دمت تحارب لرفعه عنك فمن المفروض ان تستخدم وسائل تمكن غيرك من التخلص منه أو تفتح عيني غيرك على حقيقة انه مظلوم كمثلك.
لا يوجد شرير مطلق على وجه الأرض ولا يوجد ملائكة في نفس الوقت بل هناك كائن بشري معقد التكوين فهو قادر على ان يكون شريرا وإنسانا في آن معا وكثيرة هي الأمثلة التي تدلل على إنسانية العديد من الطغاة في تاريخهم الشخصي او فيما يخص أمتهم وذواتهم المطلقة بالأنا المفرد او بالأنا الجمعي حسب رأيه ورؤيته وهتلر الأكثر دموية في التاريخ كان مولعًا بالرسم واللوحات الفنية، وأخذ دروسا في الغناء وغنى في كورال الكنيسة، وعندما انتقل إلى فيينا كان يعمل في الرسم بالألوان المائية، وقدم طلب للالتحاق بأكاديمية الفنون الجميلة في فيينا مرتين ولكن تم الرفض في المرتين ومن المعروف عنه أيضا انه كان محبا للحيوانات بشكل لافت وقد كان هتلر خصما لدودا للغالبية العظمى من دول العالم ولكنه أيضا كان صديقا للبعض وقد يتساءل المرء فيما إذا كان اللاعنف يجدي مع شخص مثل هذا وهو ما تساءل به ديفيد مكرينولدز في كتابه فلسفة اللاعنف وقد أجاب على السؤال بالقول ” لا يمكن معرفة أثر اللاعنف في مواجهة مثل هذا الخصم، فاليهود لم يكونوا لاعنفيين بل سلبيين، كما أن هناك توثيقات مهمة لانتصارات لاعنفية عديدة في أوروبا ضد النازية، ففي النرويج حصل إضراب ناجح للمعلمين ضد تدريس الإيديولوجية النازية، وفي بلغاريا حالت المقاومة المدنية العفوية دون إرسال اليهود خارج البلاد ” وبالتالي كان من الممكن إذن لحركات لاعنفية ان تنجح حتى في مواجهة الطاغية هتلر.
لكن المؤكد أن اللاعنف هو طريقة عمل وأداة فعل وليست فلسفة ولا ترتيل ولا شعوذات هو يمكن له ان يترافق مع فلسفة ما لكنه سيتحول الى فلسفة سلبية إن هي لم تترافق مع فعل على العارض واستراتيجيات وخطط عمل قادرة على تقديم صورة أكثر حيوية من غباء المفرطين في التأمل والانتظار.
ما يميز اللاعنف أيضا عن غيره انه لا يحتمل المشاركة فهو سلاح يشبه هده او يتطابق معه وبالتالي فهو سلاح بناء للذات لتحول بذاتها الى أداة تهدف لتحقيق غايات ذاتها وهي لا تسعى لتحقيق الانتصار على الادعاء بل هي قبل ذلك ملزمة بتحقيق الانتصار على الذات فقوة المثال هي الركيزة الأساسية التي يقدمها مكافح اللاعنف ضد خصومه بمعنى ان عليه ان يصل بهم حد الإعجاب به وحد عدم القبول بأوامر قمعه, فمثل سلوكه الإنساني النبيل سيوقظ الإنسان الغافي في عقول وقلوب الأدوات المستخدمة لإلحاق الهزيمة به وقتله وهو ما سيرفض الفقراء الأدوات القيام به حين يكتشفون ان بداخل خصمهم ما يحلمون به هم لذواتهم وبذا تتحقق الأرضية الأولى لقدرة مقاتل اللاعنف على الوصول الى الهدف الذي هو انتصار الذات لا هزيمة الأعداء كون تلك الهزيمة ليست غايته فقد يصبح النصر الذي يسعى إليه هدفا لأدوات خصمه وقد تمكن نيلسون مانديلا وشعبه ليس من طرد البيض من بلاده بل بتحويلهم الى مواطنيه.
حين تتمكن من بناء إنسانية ذاتك بذاتك فأنت تكون قد قطعت شوطا طويلا في رص صفوف حلفاءك وتكون قد تخلصت بشكل واضح من عديد الأعداء الذين صنفتهم كذلك خارج إنسانيتك وتكون قد جعلت من ذاتك عنوانا جامعا للآخرين ينتصرون بك وينتصرون معك كجنود يحملون حق السير في دربك والوصول الى غايتك التي هي غايتهم, أن تصبح إنسانا عضوا في جيش من مليارات الناس معا سيجد الطغاة ولصوص الأرض أنفسهم مهزومين بلا نار حين تخمد نارهم بإرادة الغالبية العظمى من البشر حين يقرروا ان يكونوا مجتمعا إنسانيا واحدا على أرض واحدة.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *