انتحار لغوي!

*خيري منصور

الانتحار ليس جسديا فقط أو بالمعنى العضوي، فهناك انتحار عقلي تحدث عنه البير كامو في كتابيه التمرد وأسطورة سيزيف وهناك أيضا انتحار قومي كما يحدث في حروب أهلية تخرج الأطراف منها مهزومة بالتساوي، لكن ما أعنيه بالانتحار اللغوي هو إهمال أي قوم للغتهم التي هي من جذور هويتهم التاريخية والوجودية، فما انقرض حتى الآن من لغات يعد بالآلاف، مما دفع دولا كفرنسا إلى قرع أجراس النذير لإدامة وحراسة لغة كان لها تمدد امبراطوري تحت شعار الفرانكفونية، لكن اللغة العربية بكل ما تعنيه للعربي قلبا ولسانا أصبحت الآن في خطر.
وبعيدا عن الإحصاءات وما ترصده مؤسسات ذات صلة باللغة، يكفي أن نقرأ الأشرطة في أسفل الشاشات، فهي تقدم نماذج صارخة في تهشيم اللغة والعبث بقواعدها وإخضاعها للعاميات على اختلاف لهجاتها. ورغم المبادرات المتعاقبة للحفاظ على سلامة هذه اللغة التي وصفها المستشرق الفرنسي جاك بيرك بأنها ممهورة برسالة انطولوجية إلا أن استباحتها تتفاقم، وثمة من أبنائها من يرطنون بها كما لو أنها لغة أجنبية، إضافة إلى ما يمارسه مثقفون مخلوعون من جذورهم ومتماهون مع غالبهم وفق الرؤية الخلدونية من تشكيك في قدرة هذه اللغة على عبور العصور والأجيال، وذلك بالطبع بسبب جهلهم بها كما يجهل البحر الدر الكامن في محاراته على حد تعبير أحد الشعراء. وأطرف ما في هذه المسألة أن المستشرقين الذين تعلموا العربية أدركوا سعتها وقدرتها على مواكبة التطور، ومنهم من قرر أن يكتب بها لا بلغته كما فعل الشاعر الفرنسي اندريه ميكل، فالآخرون ينصفون لغة الضاد أكثر من بعض أبنائها، لأن هناك قطيعة مع منجزها التراثي، ومن يجهل شيئا قد ينفر منه أو يعاديه.
اللغة العربية ليست لسانا فقط، إنها كينونة ووجدان إضافة إلى كونها مؤتمنة على المقدس وحافظة لمرجعيات، والعرب الذين كتبوا بلغات أخرى لأسباب قسرية متعلقة بالاستعمار مثل مالك حداد ومحمد ديب وجورج شحادة، عانوا كما اعترف بعضهم من ثنائية القلب واللسان، وذهب مالك حداد الجزائري إلى ما هو أبعد من ذلك حين قال إن اللغة الفرنسية منفاي أما العربية فهي وطني. وحين زار جورج شحادة بلده لبنان ذات يوم كان يطلب ممن يتصلون به ويتكلمون الفرنسية أن يتكلموا بلغتهم الأم، لأنه يريد أن يعرف المزيد عن العربية، هذا بالرغم من أن إحدى الموسوعات الأدبية الفرنسية والتي قدمها بيكون وصفت شحادة بأنه أحد سادة التعبير باللغة الفرنسية.
وهناك تجربة تستحق الاستذكار عاشها الروائي والناقد الفرنسي ميشيل بوتور في القاهرة عندما أقام فيها فترة من الوقت، فقد توصل إلى أن اللغة العربية تنفرد بصفات وجماليات قد لا تكون متيسرة للغات أخرى أوسع منها انتشارا، فالمترادفات فيها ليست مجانية أو أسماء متعددة لمسمى واحد، وحين يكون للجمل أو الغزال عشرات الأسماء فذلك مرتبط بألوانها والبيئات التي عاشت فيها إضافة إلى صفات عضوية، فالناقة القلوص ليست كالصيعرية والغزال ليس مجرد اسم آخر للظبي أو الشادن أو الريم !
إن جهل قوم للغتهم بذريعة أن هناك ما ينوب عنها من اللغات هو شروع في انتحار لغوي لا ينفصل عن الانتحار القومي. وهناك تجربة أخرى ذات دلالات عميقة في تجلياتها عاشها الشاعر الاسباني لوركا حين ذهب إلى نيويورك وحاول أن يتعلم الانجليزية ليجرب الكتابة بها فكانت رحلته تلك كما وصفها بنفسه قصة فشل بامتياز، لأن لغته الأم اتسعت لشعرية استثنائية وفائقة، مثلما اتسعت اليونانية الحديثة لشعرية كفافي الذي عاش في الاسكندرية، وكان هذان الشاعران مثار إعجاب الناقد البروفيسور باورا في كتابه التجربة الخلاقة، لأنهما كتبا باللغة الأم أشعارا خالدة وإنسانية استضافتها عبر الترجمة معظم اللغات الحية في هذا الكوكب.
وقد يكون أحد أسباب نفور الأجيال العربية الجديدة من اللغة الأم هو أساليب تدريسها وعدم القدرة على إظهار جمالياتها خصوصا في الأدب القديم، مما يستدعي بالضرورة تحديث مناهج التدريس والإحاطة بالكامن من الممكنات في هذه اللغة. وهناك حقيقة لا بد من الجهر بها هي أن الأمم في حالات التراجع والانحسار وفقدان الثقة بالذات تنظر بشيء من الريبة لكل موروثها، وقد تصبح مفتونة حتى بمن يسطو عيها ويلحقها باسطبلاته وهذا ما أدركه ابن خلدون مبكرا حين كتب عن سايكولوجيا المغلوب، فهو يفقد ثقته بهويته ومجمل مكوناته الوجودية ويقتفي خطوات غالبه ليكتشف بعد فوات الأوان أنه اندمج وتلاشى، وهذا أيضا شكل من أشكال الانتحار القومي!
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *