الرياضة.. أكثر من هوية

*محمد الأسعد

مع غياب شمس القرن العشرين، ومع مطلع الألفية الجديدة في عام 2000 تحديداً، جاء في مراجعة بقلم «جيفري يورس» لكتاب عنوانه «دخول الملعب: كرة القدم العالمية من منظورات جديدة»، في مجلة «الأنثروبولوجيا الاجتماعية» الصادرة عن جمعية الأنثروبولوجيين الاجتماعيين الأوروبيين، أنه حتى سنوات قليلة كان تكريس كتاب أكاديمي لموضوع أنثروبولوجيا لعبة كرة القدم سيبدو مجرد تسلية، أو ما هو أكثر قليلاً من نزوة ثقافية، على رغم أهمية انعكاساتها الاجتماعية. ويضيف الكاتب الألعاب الرياضية بعامة، وكرة القدم بخاصة، كانت تعتبر موضوعات للدراسة ثانوية بل ونافلة، ووصفتها غالبية المثقفين بصفة «مخدر الجماهير» الخادم للسلطات الشمولية أو الديمقراطية على حد سواء، ولأن الأكاديميين تخلوا عن الملعب الرياضي وتركوه لمثقفين عفويين أقل أو أكثر درجة من أمثال الصحفيين الرياضيين، وقلة من كتاب المقالات مثل «إدواردو جاليانو» و«مانويل فاسكويز» الذي نشر نصوصاً شعرية عن كرة القدم ومجازاتها. ثم يستدرك فيكتب أن جانباً واحداً لا غير من جوانب مشهد كرة القدم استرعى منذ وقت قريب انتباه الباحثين الاجتماعيين، وهذا الجانب هو العنف في الملاعب المترافق مع أحداث الشغب.
ولكن مثل هذه الافتتاحية للقرن الجديد، بتقرير أن اتخاذ كرة القدم موضوعاً، سواء كان أنثروبولوجياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو فلسفياً، لم يكن يحسب إلا تسلية أو نزوة، جانبها الصواب، وخاصة في تجاهل أن الألعاب الرياضية ومنها كرة القدم لم تغب عن اهتمامات علماء اجتماع مثل الفرنسي «بيير بورديو» (1930- 2002) الذي وضع برنامجاً لتحليل الألعاب الأولمبية في محاضرة له ألقاها خلال اللقاء السنوي للجمعية الفلسفية حول دراسة الألعاب الرياضية في برلين (1992)، وفي تجاهل ما كتبه الثوري المارتينيكي/ الجزائري «فرانز فانون» (1925- 1961) في كتابه الشهير «معذبو الأرض» عن الاختلاف في مفهوم الملعب بين المستعمرين والشعوب التي يستعمرونها. ولعل ما سرده رئيس المؤتمر الوطني الإفريقي «ألبرت لوثولي» (1898- 1967) في سيرته الذاتية عن ارتباط حماسه لكرة القدم بالنضال ضد العنصرية، يكفي للتدليل على كم هي المسافة بعيدة بين كاتب المراجعة المشار إليها ووقائع الاهتمام بهذه الرياضة وترابطها مع قضايا مثل الهوية والثقافة والتمييز العرقي على امتداد القرن الماضي.

ونظرة سريعة فقط إلى عناوين ما صدر من كتب بالانجليزية الأوسع انتشاراً من غيرها تؤكد ما كان متداولا من قضايا ذات علاقة بهذه اللعبة العالمية. في تسعينيات القرن الماضي وحدها ليس من المدهش أن تواجهنا أطروحة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه في الفلسفة في العام 1995 عنوانها «كرة القدم والهوية الثقافية» للباحث «ريموند بويل»، ومجموعة مقالات في كتاب من تحرير «جاري آرمسترونج» و«رتشارد جولياتني» يحمل عنوان «الهويات وثقافات كرة القدم» (1999) يبحث موضوع كرة القدم في 18 بلداً من جميع القارات. ويتابع باحثون السير في اتجاه البحث في كرة القدم وجوانب الثقافة المعاصرة، تحت عناوين مثل «علم اجتماع اللعبة العالمية» و«العرق والهوية الثقافية» و«قراءة رونالدو: عنصر البياض في وسائط إعلام كرة القدم»، والطبقة والعرق واللون في صناعة كرة القدم البرازيلية، و«العرق والهوية الثقافية» و«أنثروبولوجيا العرق والإثنية في الرياضة».. إلخ.
* * *
سنكتفي بتلخيص ما نرى أنه جدير بالانتباه في موضوع كرة القدم والثقافة، ونبدأ ببرنامج «بيير بورديو» للتحليل. وهو تحليل موضوعه الرياضة كما يفهمها الرأسماليون. السؤال الأول الذي ينطلق منه هذا العالم هو ما الذي ننتظره حين نتحدث تحديداً عن الألعاب الأولمبية؟ ويجيب، هنالك مرجعان، الظاهر هو التظاهرة الفعلية (عرض رياضي، ومواجهات بين اللاعبين الذين جاؤوا من مختلف أنحاء العالم يسيرون في موكب تحت رمز الأفكار العالمية، وشعائر ذات طابع وطني، ومجموعات توزع الميداليات بصحبة الأعلام والأناشيد الوطنية)، والخفي هو مجمل ما يعبر عنه هذا العرض وهو ينقل عبر القنوات التلفازية، مختارات وطنية تعمل على مادة غير متميزة قومياً في الظاهر (بما أن المنافسة عالمية) تجري على مسارات الملعب الرياضي. هدف خفي غير مرئي لا يراه أحد في كليته، وكل تلفاز وطني يخصص مساحة أكبر لمتابعة ما أو للعبة رياضية معينة، وهو ما يقدم رضى للزهو والكبرياء الوطنية. ومع أن العرض التلفازي يظهر مجرد تسجيل بسيط إلا أنه يحوّل المنافسة بين الرياضيين المنتمين إلى كل بلدان العالم إلى مواجهة بين الأبطال (بمعنى المقاتلين المفوضين شرعاً) من مختلف الأمم. ولفهم عملية التحويل الرمزي هذه يجب بداية تحليل البنية الاجتماعية للعرض الأولمبي، للمنافسات ذاتها، ولكن لكل التظاهرات التي تحيط بها أيضاً، مثل عروض الافتتاح والختام. ثم بعد ذلك يجب تحليل عملية إنتاج الصورة التلفازية هذه، التي تتحول بوصفها حاملا لمقاطع إعلانية إلى منتجات تجارية تخضع لمنطق السوق، ومن هنا يجب أن تكون مصممة بطريقة تسمح بالوصول إلى أكبر عدد من الجمهور والاحتفاظ به لأطول مدة ممكنة، بالإضافة إلى أنها تقدم في ساعات ذروة الإقبال في البلدان المهيمنة اقتصادياً.
إذاً، لتحليل ظاهرة من هذا النوع يجب أن يتخذ الباحث هدفاً له مجمل مجالات إنتاج الألعاب الأولمبية لعرض تلفازي، أي مجمل العلاقات الموضوعية بين الهيئات والمؤسسات المشاركة في المنافسة على إنتاج الصور والأحاديث الخاصة بالألعاب وتسويقها. ومن هذا المنظور يرى «بورديو» أن اللجنة الأولمبية الدولية تحولت تدريجيا إلى مؤسسة تجارية كبرى تهيمن عليها بطانة من المديرين وممثلي الشركات الكبرى (أديداس وكوكا كولا.. إلخ) الذين يتحكمون في بيع حقوق بث المباريات، بالإضافة إلى اختيار المدن الأولمبية. وفي النهاية من الواجب للباحث أن يحلل التأثيرات المختلفة لتكثيف المنافسة بين الأمم من خلال عولمة العرض الأولمبي، مثل ظهور سياسات رياضية، والاستغلال الاقتصادي والرمزي للانتصارات، وتحويل المنتج الرياضي إلى صناعة تدفع إلى استخدام المنشطات، تماماً كما يحدث في مجال الإنتاج الفني حيث تخفي أنشطة الفنان المباشرة أعمال الوكلاء والعملاء المشاركين خلف العمل ذاته (نقاد ومديرو صالات العرض وأمناء المتاحف.. إلخ) الذين يتعاونون بسبب وبواسطة منافساتهم على إنتاج مهني وقيمة للعمل الفني، ووضع قيم للفن والفنان الذي هو أساس اللعبة الفنية.
* * *
وتنقلنا مذكرات «ألبرت لوثلي» وملحوظات «فرانز فانون» إلى ثقافة التحرر مباشرة، فنرى كيف أن الأول يصف عاطفته الملزمة تجاه كرة القدم بأنها كانت بالنسبة له فرصة للقاء كل الناس بمختلف أنواعهم في سنوات النضال ضد الفصل العنصري، الأمر الذي يوضح كيف تخطى تأثير هذه الرياضة حدود الملاعب، وخلق صلات وتحالفات بين الناس. وفي مدن مثل «جوهانسبرج» و«دوربان» و«كيب تاون» أمكنت كرة القدم العمال الأفارقة وزعماء مجتمعات السود ومنظمي الأعمال من تشكيل هويات جماعية وشبكات عمل وبناء مؤسسات بديلة عن مؤسسات البيض، بالإضافة إلى توفير خلاص مؤقت من متاعب عنصرية المؤسسات وحواجز الشرطة والعمل المنخفض الأجر. ومكنت كرة القدم أفارقة جنوب إفريقيا الذين لم يكن لهم صوت سياسي على خلق ثقافة قضاء وقت فراغ وممارسة هوايات على هواهم هم، وجعلت اللعبة الحياة اليومية إنسانية بتوفير حلبة للإثارة والاختلاط الاجتماعي والاندماج في جنوب إفريقيا سابقة على الفصل العنصري.
ومن جانبه، وفي خضم نضال القارة الإفريقية التحرري في ستينيات القرن الماضي، تناول «فرانز فانون» الصراع ضد الاستعمار هناك، وحذر من التحديات القادمة ببلاغة ما تزال ذات معنى حتى اليوم، إلا أن ملحوظاته حول الرياضة، وكرة القدم بخاصة، لم تناقش إلا نادراً. جاء في هذه الملحوظات: لا يجب توجيه شبان إفريقيا إلى الملاعب الرياضية، بل نحو الحقول، الحقول والمدارس. لا يجب أن يكون ملعبهم المكان المخصص للاستعراضات في المدن، بل المكان الريفي الذي ينظف ويزرع ويقدم للأمة. إن المفهوم الرأسمالي للرياضة مختلف اختلافاً جذرياً عن المفهوم الذي يجب أن تأخذ به البلدان المتخلفة. وعلى السياسي الإفريقي ألا يعنى بتنشئة رياضيين بل بتنشئة رجال واعين يكونون من جهة أخرى رياضيين.. ويختم بالقول «إن المهمة الكبرى التي تقع على عاتقنا هي أن ندرك في كل لحظة ما يحدث في بلادنا. يجب ألا ينصرف همنا إلى إيجاد الفرد الفذ، إلى إنشاء البطل، بل أن نرفع مستوى الشعب، أن ننمي عقله، أن نجهزه، أن نوعيه، أن نجعله إنسانياً».

___________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *