الحاجة فولا.. صباح الخير

خاص- ثقافات

* طلال حمّاد

الحاجة فولا من؟
الحاجّة فولا فيليتسيا لانجر.
فيليتسيا لانجر من أين؟
فيليتسيا لانجر من هناك؟
لا. فيليتسيا لانجر من هنا!

للعملة أيّاً كانت وجهان، وفيليتسيا لانجر، بلا شكّ، جزء حيّ من أحد الوجهين.
كنت لا زلت يُحقّق معي، في أحد أيّام شهر آذار/ مارس 1974، بعد إحضاري من سجن كفار يونا، إلى سجن المسكوبيّة، في القدس، لإعادة التحقيق معي، في بعض تفاصيل نفس القضيّة التي اعتقلت بسببها، وفي أمور تتعلّق بغيرها.

في العادة، عندما يتمّ إحضار سجين، أو معتقل خاصّ، قديم أو جديد، إلى سجن المسكوبيّة، يوضع قبل استلامه، من قبل القائمين على السجن، أو حرّاسه، في غرفة صغيرة، كي لا يتقابل مع غيره فيعرفه، إلى أن تنتهي إجراءات إدخاله ( أو إعادة إدخاله)، إلى زنزانته الانفراديّة، أو الجماعيّة، وهي نفس الغرفة التي تجري فيها، في العادة أيضاً، لقاءات الزيارة بين المعتقلين، ومحامييهم، وذويهم في حالة سماح أجهزة المخابرات بذلك. ولمن لا يعرف، فإنّ سجن المسكوبيّة، يعتبر سجناً مؤقّتاً، لا تطول فيه الإقامة، أكثر ممّا يحتاجه التحقيق مع المعتقل، أو السجين المُعاد لإعادة التحقيق معه، أو لاستكماله. والتحقيق يجري في الغالب في غرف ومكاتب، تقع على مقربة من السجن. ولمن لا يعرف أيضاً، فإنّ هذه المسكوبيّة هي في الأصل مجموعة من الأديرة، كانت تتبع الكنيسة الروسيّة في القدس، وتحوّلت ـ على ما أعتقد في زمن لاحق لقيام دولة “إسرائيل” ـ إلى ما هي عليه اليوم: المركز الأهمّ والرئيسيّ للتّحقيق، وما يتبعه من إجراءات الاتّهام، والاعتقال، والإدانة، والسلخ والجلد، أي التعذيب بكافّة أشكاله.

وهو ما حدث، في ذلك اليوم. أدخلت إلى تلك الغرفة، بعدما تمّ إرجاعي إلى السجن، إثر وجبة التحقيق لذلك اليوم. والحقيقة أنّني وضعت في تلك الغرفة، لأنّ الشرطيّ الذي تسلّمني من رجل المخابرات، الذي سلّمني إليه، موصياً إيّاه بي، كان وحيداً في تلك اللّحظة، وكان في مهمّة أخرى، أرادها أن تنتهي قبل أن يسوقني إلى غرفتي الانفراديّة، ومن المؤكّد أنّه لم يشأ أن يقول لرجل المخابرات، أو أنّه لم يجد الوقت لذلك، لمغادرة هذا الأخير، على عجل، لأمر آخر عاجل ينتظره في غرف التحقيق، بأنّه وحده، وأنّه مشغول. لم أستغرب الأمر كثيراً، وإنّما خطر ببالي أنّني أدخلت إلى هذه الغرفة، لأنّهم يُخرجون الآن “واحداً ” آخر إلى التحقيق، لا يريدونني أن أراه، أو أن يراني. استغرق الأمر منّي، لحظات لأكتشف الغرفة، التي أعرفها من زيارات سابقة، من جديد، وأن أتعرّف بالسمع، على صوت نسائيّ، كان يأتي إليّ همساً من الغرفة المجاورة، التي يفصلها عن غرفتي، شريط من الشبك، يرتفع في النصف الأعلى للجدار الفاصل، بهدف التهوية، حيث لا يوجد غير طاقة واحدة صغيرة، في أعلى الغرفة التي أنا فيها الآن، وأنتهز فرصة انشغال الشرطيّ الحارس، لأطلّ عبر الشبك، لأتأكّد من صاحبة الصوت، التي كانت تتحدّث بالإنجليزيّة، مع من لا أعرف من يكون، حتّى تبيّنت بأنّها واحدة من المعتقلات، التي بدت لي غير عربيّة الملامح والصفات. اقتربت من الشريط، رأيت فولا واقفة تتحدّث معها. همست أسألها بالعبريّة: ما هي الأخبار يا فولا؟ اقتربت بدورها من الشريط، وتطلّعت: من؟ من أنت؟ لم أقل لها، لكنّني سألتها: من هذه؟ فابتسمت، وقد تعرّفت على صوتي: أهلاً.. كيف الحال؟ ماذا تفعل هنا؟ هذه فتاة هولنديّة، يعتقلونها بتهمة العمل مع الفدائيّين. وراحت تسألني: وأنت؟ ما هي الأمور؟ قل لي بسرعة ما الذي يريدونه منك؟ ابتسمت. هل أجيبها على كلّ هذه الأسئلة، التي طرحتها عليّ دفعة واحدة؟ وما الذي أقوله اختصاراً، قبل أن يفاجئنا الشرطيّ؟ فكّرت، وقلت مازحاً وأنا أضحك: الثورة في البرتغال!

كانت البرتغال، في ذلك الوقت تغلي بالثورة، وكان الانقلاب قد نجح.
ـ كيف عرفت؟ سألتني بدهشة.

وكانت محقّة جدّاً بالسؤال، فأنا رهن الاعتقال، وممنوع أن تصلني أخبار، فكيف علمت بأحدث خبر، لم يسمع به كثيرون طليقون بعد؟
ـ سمعت المحقّقين يتحدّثون عن شيء من ذلك.

كانوا يتجمّعون حول طاولة الضابط ” روني “، بينما كنت مقيّداً إلى كرسيّ في الطرف البعيد من الغرفة الكبيرة، وقد سلّطوا عليّ، عن قرب، أضواء قويّة بهرتني، فأرى، ولا أرى إلاّ الأضواء. وفي أذنيّ تركوا حسّاً لضجيج كبير، كأنّه صوت مولّد كهربائيّ يعمل خلفي، أو إلى جانبي، أو لا أعرف أين. ولكنّني التقطت، رغم ذلك كلّه، كلمات تشبه الثورة، وتشبه البرتغال، وحتّى عندما فتح أحدهم جهاز الراديو، وهمّ يرفع الصوت، نهره أحدهم أن يغلق الراديو، خوف أن أفهم ما هنالك: إنّه بندوق! من المحتمل أنّه يفهم العبريّة، فلا داعي أن يسمع شيئاً، فينقله إلى الآخرين في المعتقل.
وسمعت روني يصرخ بباروخ: لماذا لم تنقله إلى الغرفة الأخرى؟
وباروخ يجيبه: أنت قلت أتركوه لي هنا قليلاً.

وروني يدفعه من أمامه: لنر إن كان قد سمع شيئاً، فهو يفهم العبريّة مثل أمّي.
وجاءوا ثلاثة ورابعهم روني. وروني يسأل، وثلاثتهم يوصلون السؤال إليّ عبر قنوات أيديهم وأرجلهم: هل سمعت الراديو؟ هل سمعت آخر خبر؟ هل تعرف ما الذي حدث في البرتغال؟ سالازار سحقهم. فعل بأمّهم. داس على رؤوسهم.

وختم روني المشهد الفظيع برقصة فرديّة، وقد أبعدهم عنّي وعنه، وهو يردّد: سنسحقكم. سنفعل بأمّهاتكم. وسندوس على رؤوسكم.

وقفل المسرحيّة بجملة له مشهورة، لكم ردّدها على مسامع من مرّوا من هنا مثل مروري: تريدون دولة؟ أيّة دولة؟ في البحر؟ أكثر من إدارة مدنيّة، دولة ” إسرائيل ” لن تعطيكم.
ضحكت الحاجّة فولا ساخرة. ضحكت وكتمت ضحكتها، وقالت بصوت واضح صريح، وباللغة العربيّة، التي تعرف أنّ الشرطيّ يفهمها: إنشاللّه هون بيصير زيّ البرتغال. حمرا. حمرا زي الدمّ هذا اللّي في وجهك.

فرفعت يدي إلى وجهي أتحسّسه، وأمسح عنه الدم، وأنظر إليه على يدي. بينما راحت هي تترجم للهولنديّة، ما دار بيننا، وما بلغ إلى أسماعنا، عن ثورة القرنفل في البرتغال، وعن نجاحها.
يدخل الشرطيّ إلى غرفتي، ويخرجني، وهو يسبّ ويلعن، وقد ثارت ثائرته، ليس لأنّني عرفت عن الثورة في البرتغال، ولكن لأنّني رأيت من كان في الغرفة الأخرى، وأنّه رآني، وأنّنا تحدّثنا وتبادلنا الحديث.
تخرج فولا من الغرفة التي كانت تجتمع فيها إلى الهولنديّة المعتقلة بتهمة العمل مع الفدائيّين.
يركض الشرطيّ بي. تركض كلمات فولا ورائي: مع السلامة يا صاحبي.

وتصرخ بالعبريّة الفصحى: مَحار يِكْرا بيسرائيل كْمو ببرتغال! أي: غداً سيحدث في “إسرائيل” ما حدث في البرتغال!

وطال بنا الانتظار. لم يحدث في “إسرائيل”، ما حدث في البرتغال. ولكن حدث عندنا.. ما أطال في عمر “إسرائيل”: أوسلو العظيم.. عشرون سنة (تقريباً).. بعد سقوط الطاغية ” سالازار”!

(من ألم الخاصرة/مفكرة خاصة جدّاً  http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=3807)

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *