نشأة الروائي العالمي (2)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

   أقدّمُ  أدناه القسم الثاني ( وهو الأخير ) من ترجمة لمقالة بعنوان ( نشأة الروائي العالمي The Rise of the Global Novelist ) كتبها ( سيدهارتا ديب ) وظهرت في مطبوعة ( The New Republic ) الأمريكية بتأريخ 25 أبريل ( نيسان ) 2017 ، وتتناول في عمومها كيفية قراءة المشهد الروائي العالمي في عصر بات محكوماً بنزعة شعبوية متمحورة على الخوف من الآخرين ، وكذلك دور الروائي في ديناميكية العولمة القيمية والإنسانية .

   سيدهارتا ديب Siddhartha Deb  : كاتب هندي نال تعليمه في الهند ثم أكمل دراسته العالية في جامعة كولومبيا الأمريكية المرموقة ، وقد نشر العديد من الكتب أذكر منها روايته الأولى ( نقطة العودة The Point of Return ) عام 1998 وهي رواية شبيهة بسيرة ذاتية .

                                                      المترجمة

 

   يمكن أن نشهد ميلاً لتجاوز العلاقة التفاعلية الفوضوية المشتبكة بين السياسة ورأس المال والثقافة في العديد من قراءات كيرش الروائية المتباينة التي تنحو أحياناً للتركيز على الخصائص الأدبية العتيدة مثل السخرية والغموض . رواية الكاتب التشيلي روبرتو بولانيو الموسومة ( 2666 ) هي ، على سبيل المثال فحسب ، رواية ضخمة بشأن كاتب ألماني غامض وجماعة من النقّاد الأدبيين المكرّسين لدراسة أعماله ، وكذلك عن العالم بوصفه ” مكاناً يعشعش فيه الشرّ ” . ثمة جزء يتوسّط الرواية يحيل إلى عوالم مسكونة بالأرواح ويصف حالات قتل عديدة تجتاح نساء مدينة تخييلية تدعى ( سانتا تيريزا ) على الحدود المكسيكية المتاخمة للولايات المتحدة ، ولاتفوت كيرش ملاحظة أنّ هذه الحكاية تتأسّس على قضايا قتل حقيقية طالت على الأقلّ ثلاثمائة وسبعين امرأة في بلدة سيوداد خواريز بين عامي 1993 و 2005 . القرّاء في العادة يعيرون من جانبهم إهتماماً أكبر بحالات القتل هذه عندما تأتي في سياق تخييل روائي بأكثر ممّا يفعلون عند سماعهم لها وهي تظهر في نشرات الأخبار ، ويعلّق كيرش في هذا الشأن : ” يضيف هذا الأمر المزيد من السخرية الفظيعة إلى مشروع بولانيو الروائي . ” ؛ لكن برغم ذلك فإنّ كيرش يبدو أكثر ولعاً بفحص أسلوب بولانيو النثري بالمقارنة مع التماهي الأخلاقياتي والإنساني مع الواقعيات الإنسانية ( التي تحفّزها وقائع القتل البشعة ) ، ويمضي كيرش بالقول أنّ التأثير الطاغي لهذا الجزء من الرواية يتأتى من ” الكيفية التي يتحاشى بها الأسلوب … الذي يطغى على كلّ الأجزاء الباقية من رواية 2666 ” بل على العكس منها فقد كُتِب بطريقة مباشرة كم لو كان ” أطروحة تقريرية أو إعادة سرد لوقائع محدّدة ” .

   المعضلة الأكثر وضوحاً من سواها مع هذا النهج الروائي يتاتّى من حقيقة أنّ رواية بولانيو تكرّس إهتماماً أعظم بموضوعات لاتقتصر على المؤثرات الأدبية ، ويلاحظ كيرش هنا أنّ مصانع سانتا تيريزا باتت أمكنة ” لتخليق الإقتصاد المعولم مع كلّ التناقضات الأخلاقية التي ينطوي عليها ، وبقوله هذا يبدو أنّ كيرش يقصد التصريح بأنّ العاملين يطرقون أبواب هذه المصانع بغية كسب المال ؛ غير أنّ البلدات المسكونة بالجريمة والتي تدير هذه المصانع تغدو في الحقيقة عامل تهديد لسلامة هؤلاء العمّال ، وليس ثمة من تناقض في وصف بولانيو لهذه المصانع ؛ فهو يصفها بأنها ( مكبّ نفايات قذرة ) للرأسمالية العالمية التي تجعل النساء ضحايا مكرّسات لقبول نتائج العنف والجريمة المنظّمة بعد أن يُدفعن دفعاً للهجرة إلى الحواضر المدينية الكبيرة بفعل اليأس المقيم وتهاوي الإقتصادات القروية في أمريكا اللاتينية – تحت ضغط العولمة المتجبّرة – وعلى خلاف ماتشيعه بعض الأفكار الغربية بأنّ هذه الإنتقالة نحو الحواضر المدينية إنّما هي حركة طبيعية نحو الشمال* .

   إنّ هذه السمة في رواية 2666 تقلّل من شأن قناعة كيرش بأن الحركة المستديمة هي خصيصة جوهرية في الرواية العالمية : نرى  في الروايات التي انتخبها كيرش للدراسة والتمحيص حركة مفعمة بالديناميكية والبهجة للأفكار ، والناس ، والكتب ، ورأس المال وعلى نحوٍ يشي بعالمٍ أكثر تنوّعاً وترتسم فيه ” صورة عن عصرٍ بات فيه الناس أكثر قدرة على عبور الحدود في كلا الإتجاهين** ” . ثمة نوع من العمى الإراديّ المقصود بشأن هذه القناعة في عصر تتنامى فيه الحدود المحاطة بمظاهر التسلّح ، وكذلك عمليات الترحيل القسري وبخاصة عندما لاتُبدي روايات أخرى يتناولها كيرش الكثير من الإهتمام بمثل تلك القناعة  الموهومة ، وهو مانشهده في رواية ( أمريكانا ) للروائية تشيماماندا نغوزي أديتشي .

                                 *  *  *  *  *

  

إفيميلو بطلة رواية ( أمريكانا ) هي إمرأة نايجيرية ترتحل للولايات المتحدة بقصد الدراسة الجامعية ، وتكافح على صعيد الحياة العاطفية الحميمية والعمل قبل ان تعتزم العودة إلى لاغوس ، وفي المقابل يحاول صديقها البقاء في بريطانيا كلاجئ غير موثّق في السجلات الرسمية ، ثمّ يتمّ ترحيله بغتة . يجادل كيرش بأنّ ” النوع الأدبي لرواية أمريكانا يذكّرنا بذلك النوع الذي تنامى وشاع في الروايات التي لاتنفكّ تسجّل حركة الساعين نحو مراكز الإستقطاب الثرية العليا ، وقلّما تكون بواعث تلك الحركة نقية من غير شوائب – تفكّر فحسب في بلزاك أو هنري جيمس . ” . إنّه لأمر باعث على الغرابة أن نحاول مع رواية أمريكانا  تلقّي درس مستفاد من حركة الناس تجاه مراكز الثراء ( في الشمال ) ، ويتحقق هذا الأمر عندما تلتقي الشخصيتان الرئيسيتان ثانية في نهاية الرواية وتُختتم حكايتهما حيث يبتدئان حياتهما ثانية – وإن بمشقّة بالغة – بعد إدراكهما للإمكانيات التي ضاعت هباءً .

                                   *  *  *  *  *

   في مقابل معاينة الرواية العالمية بعدسات غربية سيكون أمراً ذا أهمية بالغة أن نتساءل : ماالذي يجعل – في المقام الأول – مؤلفات محدّدة بعينها خليقة بنيل القبول المجمع عليه باعتبارها عالمية ؟ وماهي الآليات المعتمدة في القبول والرفض ، وفي النشر والترويج لها ؟ وماالقدر الذي يعمل فيه ظهور أقلية نخبوية أنغلوفونية عالمية – بأذواقها الأدبية المتناغمة إلى حدّ كبير مع أذواق المجتمعات الأدبية في لندن ونيويورك – على التأثير في هذه العملية ؟

   وجد الروائيون الذين تناولهم كيرش في دراسته المسحية مقروئية غربية لأنهم كانوا مدفوعين بحسّ لاينفك يلحّ عليهم بهواجس تعمّقت خلال فترة زمنية طويلة ، وكان على معظمهم ( باموك ، موراكامي ، بولانيو ، أديتشي ، فيرانتي ) كتابة العديد من الكتب قبل أن تأتي اللحظة التي شكّل فيها أحد تلك الكتب إنعطافة كبرى لسبب يعود في جزئه الأعظم لكون ذلك الكتاب يتناول موضوعات غابت عن التيارات الرئيسية في الرواية الغربية ومنها : التعقيدات المرتبطة بالمسائل العرقية ، الإمبريالية ، الهجرة ، الإمكانيات الكاسرة للقيود التي تتيحها الحركة النسوية ، النزعات الفوضوية ، الإسلاموية الصاعدة ، الوحدة المتفاقمة التي تصاعدت حدّتها  في حيواتنا مع الرأسمالية المتأخرة ، وكذلك التدمير الذي ينشأ عن الإنتقال نحو المراكز الثرية . إنبثق إسم بولانيو ، عللى سبيل المثال ، كنتيجة لتفاقم الهواجس بشأن اللامساواة والتطرّف السائد بين أوساط الشباب والذي تمظهر في حركة ( إحتلّوا )*** ، ولمع إسم أديتشي على خلفية تصاعد أسهم حركة مايسمّى ( حيوات السود لها شأن ) ، وبرز إسم فيرانتي خلال لحظة إعادة ترسيخ الحركة النسوية وهو مايمكن أن نلمحه في الإضرابات النسائية العالمية . الكاتبان  الوحيدان اللذان يبدوان يبدون غير مناسبين حقاً للإنضمام في إطار هذا النموذج هما كلّ من الفرنسي ويليبيك والكندية آتوود ؛ فكلّ من رواية ( أوركس و كريك ) لمارغريت آتوود ورواية ( إمكانية جزيرة ) لميشيل ويليبيك هي رواية ديستوبية يتخيّل فيها الكاتب مستقبلاً تكون فيه البشرية ” عرضة للإنقراض لابفعل الغباوة البشرية التي عوملت بها البيئة فحسب بل أيضاً بفعل إستبدال الكائنات البشرية بكائنات جديدة مهندسة وراثياً تشبه البشر في بعض صفاتها ” على حدّ تعليق كيرش . في الوقت الذي تبدو فيه هذه السرديات عالمية في مدياتها فإنّ كلاً من ويليبيك و آتوود يرسمان مساراً لإنكفاء البشرية يصحّ وصفه بأنّه ( سردية تهاوي الغرب ) – تلك السردية التي لايتشاركها بقيّة الكتّاب العالميين الذين يتناولهم كيرش في تمحيصاته النقدية ؛ إذ تركّز الرواية العالمية التي يكتبها كلّ من أديتشي وباموك وبولانيو على هؤلاء الذين لم يكونوا يوماً عنصر إرتقاء للغرب وعانوا في الغالب من هيمنته .

   بعيداً عن كلّ الإعتبارات يثير وجود ويليبيك و آتوود في كتاب كيرش هذا سؤالاً مشروعاً بشأن عدم تضمين الكتاب أية أسماء لكتّاب أمريكان .  هل حصل هذا الأمر لأنّ سمة ( العالمية ) باتت تُعرّف في نهاية المطاف بكلّ مالايختصّ بالولايات المتحدة في قليل أو كثير ؟ في واقع الحال إنّ كاتباً مثل ( ريتشارد كوشنر ) في روايته ( مُطلقو اللهب ) يستحقّ الإشادة الممتازة بأنّه كتب رواية عالمية : تبدو الرواية في سطحها سيرة استحالة فكرية لشابة يافعة أمريكية تُدعى ( رينو ) تحاول جهدها أن تصنع لها إسماً مميزاً في عالم الفن في نيويورك خلال سبعينيات القرن الماضي ، وتصوّر رواية كوشنر ماهو أكثر من محض الإشارة إلى الإنتقالة البشرية الفردية .  يحصل في إحدى البرهات التي تمضي فيها رينو في جولة على دراجة نارية صنعتها عائلة صديقها ساندرو أن تكشف رواية ( مطلقو اللهب ) عن سمات المراوغة والإستغلال والتواطؤ التي تقوم عليها حياة تلك العائلة .

   يرينا كوشنر العمّال المضربين في المصنع الإيطالي الذي يصنع تلك الدراجات النارية ، وظروف العمل الشبيهة بعلاقات السيد – العبد في المزارع البرازيلية التي تنتج المطاط اللازم لصناعة إطارات تلك الدراجات النارية ، وتكشف الرواية النقاب عن إمكانية التضامن بين رينو المتحدّرة من أصول تنتمي للطبقة العاملة وبين العمّال الإيطاليين في المصنع الذين يكنّون البغضاء لعائلة صديقها . تعرّف الشخوص الأوربية والأمريكية في سياق علاقتها المباشرة بالعالم الثالث ، وعلاقات الشخوص البرجوازية بما يخصّ الطبقة العاملة ، وعلاقة الرجال بالنساء ،،، تلك الروابط التي تبدو – في سياق سمتها الإنسانية وقدرتها الرؤيوية على النفاذ بين تخوم الثقافات – قادرة على توفير تربة خصبة لنموّ الروائي ذي الخصائص العالمية ، وإذا ماوضعنا رواية ( مطلقو اللهب ) قبالة رواية ( ثلج ) أو ( 2666 ) فسيكون هذا الأمر بمثابة تحدٍّ للفكرة القائلة إنّ الرواية إنّما لا تكون عالمية  إلّا عندما تتناول أناساً في أماكن قصية يؤكّدون الإيمان الغربي في الصعود نحو الثراء والرفاهية  – ذلك الإيمان الذي ماعاد اليوم يُعتبر سوى مزحة ظريفة حتى قي الغرب ذاته .

 *  الشمال هنا إشارة إلى البحث عن الرفاهية والمال . ( المترجمة )

 **  إشارة إلى الشمال والجنوب الشائعين في أدبيات التنمية والإقتصاد العالمي . ( المترجمة )

 ***  ربما المقصود هو حركة ( إحتلّوا وول ستريت ) المعروفة . ( المترجمة )
___________
*المصدر: المدى

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *