تزوير التاريخ في مؤتمر الرواية والتاريخ!

*إبراهيم نصر الله

كتب إليّ بعض الأصدقاء يطالبونني أن أكتب عما حصل في مدينة نابولي، وعن مقاطعتي لبرنامج مؤتمر الرواية والتاريخ الذي عقد هناك مؤخراً. كثير منهم يريدون معرفة الطريقة التي يمكن أن نتجنب فيها الوقوع في مستنقع التطبيع، الذي قد يكون فخّاً مدبّراً، أو مصادفة مدبَّرة، أو سعياً مُعلناً لذلك، أو بين هذا وذاك!
تجربتي في مجال الاصطدام مع فعاليات يعمل بعضها في الخفاء وبعضها في العلن بكل الوسائل من أجل التطبيع، طويلة، وقد علّمتني التجارب أن أسأل دائماً عن أسماء المشاركين في هذا المؤتمر أو ذاك. وفي بعض الأحيان جاء بعض منظّمي هذه المهرجانات إلى عمّان خصيصاً، لإقناعي بالعدول عن موقفي، للمشاركة. بعض المهرجانات الأوروبية، لم تعد تدعوني إليها، أبداً، منذ أكثر من عشرين عاماً، وكذلك بعض البلدان، إلا إذا جاءت الدعوة من جهة عربية، أو مُناصرة للقضايا العربية.
قبل أكثر من عشر سنوات، في مهرجان فوندامنتا في مدينة فينيسيا سألني أحد الحضور خلال أمسيتي الشعرية: ما وجه الشبه بين الشعر الفلسطيني والشعر الإسرائيلي؟!
لست أدري ما هي الإجابة التي كان يتوقّعها منّي في ذلك اللقاء الكبير.
التفتُّ إلى الصديق الراحل جمال الغيطاني في الصف الأول، وجدته متحفّزاً لسماع الإجابة. وأخيراً أجبت باختصار: الشاعر الإسرائيلي يكتب شعره عن البيت الذي أخذه مني وأنا أكتب شعري عن بيتي الذي سأعود إليه.
لا أريد مواصلة سرد حكايات المهرجانات التي تحرص على أن تدعو كتّاباً وأكاديميين إسرائيليين للمشاركة في نشاطاتها، لأنها كثيرة فعلاً، وقد ثبت لي أن المقاطعة أمر ضروري ومُجْدٍ أيضاً، وفي بعض حالات صحوة الضمير، اعتذر منظمو مهرجان أو مؤتمر ما، لأنهم لم يدركوا، من قبل، وجهة نظرنا، كما حدث في معرض تورينو للكتاب، حينما دعاني، وتبين لي في ما بعد أن ضيف (الشرف!) هو الكيان الصهيوني بمناسبة مرور ستين عاماً على قيامه!
رسالة الاعتذار عن المشاركة، التي كتبتها ونُشرت مترجمة في الصحف الإيطالية وصحف أخرى، منها العربية، وكذلك النشاطات المضادة للمعرض، تصاعدت لتغدو مقاطعات عربية ودولية من قبل الكتّاب المدعوين، وتُوِّجتْ بمظاهرات دفعت، أولمرت، رئيس الوزراء الصهيوني حينها إلى التسلل من الأبواب الخلفية للمعرض هرباً من سخط الناس.
توقعتُ أيامها أنني لن أُدعى للمعرض ثانية، لكن المفاجأة أن دعوة وصلتني في العام التالي، وكانت مصر هي ضيفة الشرف. أما المفاجأة الأكبر بالنسبة لي، فهي أن مدير المعرض حضر أمسيتي، وأعلن قبل بدايتها أنه يعتذر لي، لأنني كنت على حق في موقفي المُقاطع! وبالطبع كانت الحرب التي شنّها الجيش الصهيوني على غزة، مباشرة بعد دورة المعرض تلك، هي السبب، والبرهان الجديد على كيان فاشي يحرص باستمرار على تغذية رصيده في مجال المذابح والقتل المستمر.
في مؤتمر نابولي، لم يخطر ببالي، أن تكون هناك مشاركات إسرائيلية، فالجهة الداعية لا غبار عليها أبداً، والأسماء التي جاءت في كتاب الدعوة المكوّن من صفحتين، من أفضل الأسماء وأرقاها.
هكذا ذهبتُ بفرح للمهرجان الذي سأتحدّث فيه عن تجربتي في كتابة الرواية التاريخية كما احتضنتها روايات الملهاة الفلسطينية، وكان اللقاء خارج مبنى الجامعة، الذي تعقد فيه الجلسات البحثية.
اقتربتْ مني، بعد الافتتاح، إحدى المشاركات وحدثتْني بالعربية عن تدريسها لرواياتي في الجامعة، ومحبة طلبتها لرواياتي، والأبحاث التي قدموها حولها.
كان من الطبيعي أن يكون سؤالي: أي جامعة؟
أجابت: بار إيلان! (هي جامعة تضمّ، إلى جانب برنامج دراسات الأدب العربي، برنامجاً خاصاً للجنود والضباط الصهاينة، ولتأهيل المهاجرين الجدد عقائدياً، وتساهم، مثل سواها من الجامعات الصهيونية، في تطوير الأدوات العسكرية ووسائل قمع المتظاهرين والسجناء الفلسطينيين، وغير ذلك.)
ابتعدتُ مصعوقاً.
أحد الأصدقاء المشاركين طلب مني في تلك اللحظة أن التقط صورة معه. لم أستطع أن أقول له: لا، رغم حنقي بسبب المفاجأة غير المتوقّعة.
حين رأتنا المشاركة الإسرائيلية نلتقط صورة، تبعتني مع إسرائيلي آخر يرافقها: هل يمكن أن نلتقط معاً صورة مشتركة!
– طبعاً لا. أجبت.
– إنها صورة شخصية!
– ليس بيننا شيء شخصي، أجبت.
فوجئتُ في ما بعد، وكما جاء في رسالتي لإدارة المؤتمر أن كثيراً من المشاركين لا يعرفون بوجودها، وحين جاء المشرفون لإقناعي بالعدول عن موقفي، بحجة أن مشاركتي هي المشاركة الأدبية الوحيدة، خارج إطار الدراسات، رفضتُ.
وهنا يمكن أن نصل إلى مسألة تتعلق بآراء بعض الناس الذين يرون أن من واجب الكاتب العربي ألا ينسحب، وأن يواجه، لكن الحقيقة التي بتّ أعرفها أن ليس هنالك من يعترض على أن تواجه، وتناقِش، وأن تقول كل ما في قلبك! ففي واقع أوروبي يكون ذلك في إطار حقّ (حرية التعبير!) المهم أن تكون قابلاً بالوجود، مع هذا العدوّ، تحت سقف واحد، في مؤتمر واحد، وفي موضوع واحد، وهو للسخرية، كان هذه المرة هو الرواية والتاريخ!
أي تاريخ إذاً، ذلك الذي سنناقشه بأعصاب باردة، وعلميّة محايدة، ونُقلِّب وجوهَ فنيةِ كتابته روائياً، إذا كان هذا التاريخ متعلّقاً بفلسطين، وإذا كان القادم لمناقشته، هو الذي يسكن بيت الفلسطيني، ويتأمل تاريخ الكتابة الفلسطينية من شرفةٍ مسروقةٍ من الفلسطيني، وهو يستمتع بصوت بحر مسروق، وزرقة سماء مسروقة أيضاً.
كل مشاركة من هذا النوع هي قبول بهذه السخرية الدامية من عذابات شعب اقتلع من أرضه، ولذا لا يمكن للمرء أن يسمح بتمريرها، فمن يريد مناقشة الرواية والتاريخ عليه أن يكون أولاً ضد تزوير التاريخ وسرقته، وسرقة ما تحته من أرض وما فوقه من فضاء، وباختصار: ألا يقبل العيش في ذلك البيت المسروق، أن يكون خارج ذلك الكيان أولاً، وقبل كل شيء، لكي أصدق فعلاً، أنه لا يزوّر التاريخ.
__________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *