“بعد الحياة بخطوة” للقيسي؛عوالـم نورانيـة،لا همـج فيهـــا ولا مرتزقــــة

*هفاف ميهوب

ما قيمة الحياة في قاعِ العفن والعماء والخراب والتشرذم والجحيم؟!. في زمنِ الحقدِ والأنانية والجشع والاختلال والبشاعة والظلمِ والقتل الرجيم؟

حتماً لا قيمة ولا فائدة لها، وفي ظلِّ موتٍ، باتَ ولدى شعوب المنطقة العربية بأكملها: «ينمو بشكلٍ سرطاني، للقضاء على أيِّ أملٍ لهذه الشعوب التي لم تكد تنتهي من سيطرة العثمانيين، وسياسة التجهيل التي استخدموها لأربعة قرون متواصلة، حتى جاء الغرب لتقسيمها، وحين حاولت بعض الدول النهوض، تكالبت عليها أممٌ أخرى، إضافة إلى زحفِ أبنائها الجَهلَة بتطرفهم، للقضاء على أيّ ملامحٍ للعمران والعلم والمدينة»..‏‏

إنها الأفكار التي استُدعيت إلى «بعد الحياة بخطوة» لتكون خيارَ شخصيّتها الأساسية.. استُدعيت وتفاقمتْ في روايةٍ، من شدّة ما امتلأ كاتبها الروائي الأردني «يحيى القيسي» غضباً ورفضاً لكلِّ ما يحيط بنا ويشمئزُّ منه كلّ نور.. أيضاً، من شدّة ما هالهُ الموت الذي باتَ هاجسَ كلّ من أوجعهم الفقد، وأقلقهم بل أخافهم، ما يسمعونه عن عذاب القبور.‏‏

من شدّة ماهاله ذلك، أبى إلا أن يبثُّ الأمل في النفوس البشرية، وعبر إبداعه الذي حلَّق بخياله إلى حيث اللاخوف واللاعذاب أو القلق لطالما هو ليس موتاً وإنما انتقال إلى حياة أخرى، فضاءاتها نورانية.‏‏

هذا ماأراده «القيسي» من هذه الرواية، وهذا ما أرشدنا إليه عبر بطل روايته الأستاذ الذي: «رأى كل شيءٍ دفقة واحدة!. حتى التفاصيل الدقيقة، بصورها وروائحها وأصواتها وملمسها وحركاتها!.. أدرك تماماً، لحظات التجلي والقنوط، والعلو والسقوط، في تسارع دفقاتها، وتشظّي وقائعها، ومقدار الإحساس بنشوتها، والتلظّي بحدَّة آلامها وهي تنشب أنيابها في أعماقه، وترصد كل تقلباته»..‏‏

رأى ذلك، وهو ممدّد على سريرٍ في مشفى، كان قد نُقل إليها إثر إصابته بذبحة صدرية أثناء إعطائه أحد الدروس لتلاميذه.. رآهُ، وهو في بداية الغيبوبة التي أشعرته بأن جسده يغادره، وبأنه «مملوء بالخفَّة، ومتحلِّلٌ من هذا الجسد الكثيف القوام، المثقل بعناصر الأرض».‏‏

استمرت غيبوبته شهراً كاملاً، ترك خلالها جسده المادي، وغادر بوعيه أو جسده الأثيري. غادر بعد أن استشعر حواسه قد استيقظت فجأة، متجاوزة الحدود إلى عوالمٍ دخل بعد أن ارتفع إليها: «دخل هالة ضوئية مفعمة باللطف، تغلِّفه بالكامل، فيما تهبُّ عليه أحاسيس تغمره بالطمأنينة».‏‏

في هذه العوالم النقية والمُشرقة، التقى كلّ من غادروا حياته، وكلّ ماجعله يستدعي الكثير من تفاصيل هذه الحياة، وبخيباتها ومنغصاتها وضجيجها وأحقادها وأوبئتها.. الأوبئة التي نشرها رجال دينها، ممن حلَّلوا خرابها وقتل العقل والفن والإبداع والموسيقا في عقول أبنائها.‏‏

لاشكَّ أنها عافيته، وعافية كلّ من يعيش في العالم الأرضي ويتشهى الخلاصُ من عفنه.. عافية كلّ من بحث في النورِ فوجدَ حقيقته، بل أمنيته. الأمنية التي حقّقها «القيسي» عبر بطل روايته الذي انتقلَ إلى عوالمٍ اطمأنت فيها روحه، وتماهت مع أرواحٍ، تفاهمَ مع أطيافها عبرَ: «التخاطر بالأفكار، وليس بين الأطياف البشرية التي هي من كلِّ دينٍ أو ربما لادين لها، بل حتى مع الشجر والحجر. إذ كلّ شيءٍ له روح يمكن الإحساس بها أو التفاهم معها، تحت مظلةٍ واسعة من المحبة والسلام والوئام، بلا ضغينة ولا نيات فاسدة أو أفعال مشينة».‏‏

حتماً، هي طاقات نورانية، تُشعر كل من شحنته الأرض بطاقاتها الظلامية، بأنها سبيل خلاصه من أرضٍ باتت الحياة فيها: «جحيمية، حيث طاقات الساكنين في أسفل السافلين، حياة دونية، بالغة القتامة، تعافها حتى الحيوانات».‏‏

من هنا يتَّضح أن الرواية، حملت أكثر الرسائلِ إضاءة على ماتحتاجه البشرية. الطاقات النيِّرة، التي تدعو إلى الأخلاق والخير والمحبة، والتي استشعرها الكاتب «تخرجُ من وعي المبدع، لتعود إليه بالدرجة التي أرادها أو أطلقها».‏‏

إذاً، هي رسالةُ «القيسي» الذي لم يُطِلق «الأستاذ» إلى تلك العوالم الأثيرية، إلا ليكلّفه بمهمة يردّه بعدها إلى الحياة، ليؤدي مهمته التبشيرية.‏‏

يرتدُّ من غيبوبته، فيسعى لأداءِ مهمته.. بثُّ الأمل بين الناس وطمأنتهم، علَّهم يتَّعظون فتستنير طاقاتهم.. يُتَّهم بالجنون والهلوسة والتهيؤات، لكنه يَصرُّ على التبشير، بما يعظِّم الموت ويستصغر الحياة.‏‏

أخيراً، يعود ليصعد إلى عالمه الأثير، وبعد أن أوصل رسالته، بكلّ ماتأتّى له من سبلٍ أهمها، كتابٌ ألَّفهُ وضمَّنه، ماقد يقع وراء الحياة ولو بخطوة واحدة.. الكتاب الذي نقل فيه مارآه في عالمِ الاشراقات، وعبر فصولٍ تحكي: «عن تاريخ البشرية» واكتشافه بأن: «معظم ما وصلنا من التاريخ قد جرى عليه التغيير وتدخَّلت في كتابته، أيادي الغزاة والمنتصرين والمزوِّرين» وأن البشر لايعرفون «كيف كان الذين يدَّعون الصلاح في كتبهم، أقرب إلى أعوان الشياطين والقتلة والمجرمين» وأن «الأبطال الذين يعيش المرء على ذكرهم، ويقلد مسعاهم، هم من السفلة والدونيين».‏‏

اكتشف أيضاً، أن «العلوم الصحيحة» هي ما يطور الحياة ويهذِّب الشهوات، وبتبادل المعارف والفنون والآداب، وأن «الذين لامكان لهم» في العوالم الأثيرية، هم أصحاب المؤامرات والأكاذيب والتدريب على القتل والأنانية..‏‏

أيضاً، وفي فصلٍ آخر، وجد أن أصحاب الهمم» هم من يمتلكون قدرات متعاونة ومُحبِّة، وتعكسُ الطاقات النورانية لاالمالية و»النيات والترقي» حيث الحب لكلِّ شيء، هو مايخلِّصنا من أمراض النفس البشرية.‏‏

أخيراً، وبعد الفصل الذي عرّفنا فيه على «المحرومين من الدخول» إلى أرض المستقر أو العالم النوراني، وهم الأشرار والمجرمون، انتهى إلى الفصل الذي يصلنا بـ «أرض الأنوار» التي يحكمها العدل وتدير شؤونها المحبة، وهو أعلى مايمكن أن تصل إليه أرواح البشر لتهيم في الجمال الكوني.‏‏

كل ذلك قرأناه في «بعد الحياة بخطوة» وكما تخيلها المبدع «القيسي» نيابةً عن كلِّ من آلمه وأفجعه أن يرى كيف: «تبدلتْ القيمُ في المجتمع، وجرت في المنطقة أهوالٌ لايكاد المرء يصدق تقلباتها ونتائجها المدمرة.. أطاحت الحروب بعواصمٍ كانت منارات، وحرثت الطائرات القادمة من كلِّ صوبٍ، مدناً وقرى لأعظم الحضارات البشرية.. تفرق الناس بين شيوخ السوء ودعاة الفتن، والكلّ يدَّعي أنه من الفرقة الناجية، ويدعو باسمِ ربِّ الأرباب لدمار الآخرين ومحقِهم.. وصل الناس حدَّ الهوان، وتفرقت دماءُ الأبرياء بين أقوامٍ من الهمج والمرتزقة والسفلة»…‏‏

نختمُ بالقول عن كاتب هذه الرواية: «يحيى القيسي».. روائي وباحث وإعلامي أردني.. من رواياته «باب الحيرة» و«أبناء السماء» و«الفردوس المحرّم» إضافة إلى قصص «رغبات مشروخة» و«الولوج في الزمن الماء» و«حمى الكتابة».. له أيضاً، كتب في الحوارات والترجمة وغيرهم من الأعمال الإبداعية – الوثائقية.‏‏

_______
*المصدر: الثورة

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *