قصَّتان

خاص- ثقافات

*سوسن علي

الشَّبح

لم أكُنْ أتمالكُ نفسي عند الإجابة عن الأسئلة الموجهة لي..

يرتعش صوتي، وأتلعثم فاقداً القدرة على موازنة جسدي، فأنحني خافضاً بصري بشكل مذلّ أمام السائل، في حين تبقى قبضتي مشدودة كأنني أمسك نفسي بها قبلَ أن أنهار.

كانَ بإمكان أي شخص ملاحظة ما أمرُّ به، وكنت أدرك أنَّني لا أصلح لأن أكون في المقدمة أبداً.

في المدرسة كنت أختار المقاعد الأخيرة، لائذاً بجسدي عن أعين المعلمة، ومُقنعاً نفسي بأني لست مرئياً.

لكنْ لمرَّةٍ واحدة لسوء حظي كنت أسير في الممر باتجاه الحمام، أفكر بقوام صديقتي الشهي، عندما ظهر في وجهي مدير المدرسة، وكان يحمل عصا في يده، حيثُ بدأ يلوح بها في وجهي وهو يسألني: “ماذا تفعل هنا؟ إلى أين أنت ذاهب؟ هل لديك إذن بالخروج من الحصة”.. أسئلة كثيرة لم أعِ نصفها، إذ كنت أذوب أمامه، وبأفكارٍ مشوشة أخبرته أنَّ قوام فلانة شهي، وإني ذاهب إلى الحمّام..!!

بهذه البساطة وضعت نفسي في ورطة، وتعرّضت للطرد من المدرسة.

 خلال سنوات عديدة لم أتمكّن من السيطرة على هذه الحالة، وكنت أجد نفسي في مواقف لا أحسد عليها، كأن أُتّهَمَ بالسرقة لمجرد أن أحدهم سألني أين محفظتي؟ فأرتبك وأقول: “لا أعرف” بصوتي المتهدج لتتلبَّسني التُّهمة تماماً .

مع ذلكَ، كنت في كل يوم أكتسب مهارة جديدة في التخفي والتخلص من المساءلة، حتى بت أمشي في الشارع من دون أن يلاحظني أحد. أجلس في القهوة وأخرج دون دفع الحساب، ولا يدرك أي شخص ذلك. أتكلم بصوت ودود لا يثير الشبهات.

تدرَّجْتُ في وظائفي بالتَّوازي مع تطوُّر موهبة التَّخفّي، ومنذ خمسة عشر عاماً أعمل مُفتِّشاً ماليّاً في إحدى الدوائر الحكومية..!!.

شتائم مدفونة

اليوم بعد عودتي من العمل، محمَّلاً بالغيظ بعد إجباري على إعادة مسح ممرات المؤسسة التي أعمل بها، لأنَّ ربّ عملي كان غاضباً عندما مرَّ بقربي، ووجدني أجلس على الكرسي والسطل أمامي، فصرخ بي قائلاً: قم بعملك، وحين حاولت إخباره أنَّني أنهيْتُ ذلكَ، أشتدَّ غضبه، وأمرني بإعادة المسح…

وهكذا، عدت إلى بيتي وقررت أن أنام مباشرةً من دون الدخول في عراك إضافي مع زوجتي، وكما هو متوقع، استيقظت وأنا أشعر بجوعٍ شديد دفعني للاستفسار عن وجبة الغداء، وكمحاولة ثانية لتفادي العراك، بدأت حديثي بلطف، بينما هي بدأت بتأنيبي من دون أن يردعها أسلوبي الهادئ، لكنَّها فجأةً أخذتْ تنظر إليَّ بغرابة، وتسأل: “لماذا لا تجيب آه؟”..!!

كنت أطلبُ منها بأن تكف عن ترديد كلامها هذا، لأنَّني مللت سماعه، غير أنَّها استمرت في القول كالببغاء: ” لماذا لماذا لا تجيب؟”.

رجوتُها أن تكفّ عن الصراخ، وكنت قد بدأت أشعر بالغضب، لكنَّها لم تتوقف عن ترديد عبارة “لماذا لا تجيب؟” مُرفَقة بنظراتٍ حائرة، وهو الامرُ الذي استفزَّني، ورحت أصرخ في وجهها: أأنت صماء، هل أصابك الطرش؟!!

وبينما كنت اشتاط غضباً، وأصرخ ملء صوتي، وقفت هي على غير عادتها هادئة مدهوشة، وقالت: “ماذا حلَّ بك؟ أين ذهب صوتك!! تكلم”!! ، أجبتُها: “صوتي؟!!  هل أصابك الطرش فعلاً، أنا أسمع صوتي بوضوح، أسمع كل كلمة أقولها”.

 أيقنتُ من ردَّةِ فعلِها أنَّها بالتأكيد لم تكُنْ تسمع أي كلمة ممّا أردُّده، وارتسمت على وجهها ملامح الهلع، وفجأة نادتْ بأعلى صوتها لأطفالنا، لتقول لهم: “إن والدكم أصابه الخرس. وبدأوا ينظرون إلي بقلق أيضاً، وأنا أحاول بلا جدوى أن أخبرهم بأنَّني أستطيع الكلام، وأجزم على ذلك، لكنهم لم يسمعوني، ممّا أخافني، ولاسيما حينما سمعتهم يتبادلون الأحاديث بين بعضهم، ويسمعون ما يقولونه، لكنهم لا يسمعون كلامي..؟!!

_ هل فعلاً فقدت صوتي، لكنَّني أسمعه وأسمع نفسي بوضوح، ما الذي يحدث يا إلهي..؟!!

بقيت في حيرة لبعض الوقت، ثم تركتهم يتجادلون حولي، وخرجت.

في الشارع صادفت رئيس البلدية على الرصيف، فحييته بحرارة كالعادة، وأحنيت رأسي نصف انحناءة، وأنا أردد عبارات الترحيب، لكنه ككل مرة تجاهلني، فشجَّعتُ نفسي، ووقفت أمامه سائلاً إيّاه: “ألم تسمعني أحييك؟”…

لم يُجِبْ عن سؤالي، بل قال ابتعد عن طريقي أيُها الأبله، فبدأت أصرخ في وجهه وأشتمه وأخبره أنَّهُ حشرة، وأنَّهُ مرتشٍ وفاسد، وبأنَّ الحفر في الطرقات تشهد على فساده.

وجَّهَ لي نظرة متعجرفة من جديد، وأكمل طريقه.

مشيتُ مُسرِعاً، وأنا أتجاوز الشارع تلو الآخر، وأشتم وأصرخ في وجه كل من أراه: صاحب دكان اللحوم، وضابط الشرطة، موظف رفيع المستوى، ووو … وعلى هذا النَّحو حتّى تعبتُ…

في اليوم التالي، جرَّبتُ صوتي مرات عديدة، وتوجَّهتُ مباشرة إلى ربّ عملي الذي كان وحيداً في الممر، وصرختُ فيه: “أيها الحشرة المقيتة”، وأجزم أنَّني سمعتُ الصدى واعتراني الخوف، وانتظرتُ لحظة كي يبادر بأي حركةٍ أو ردَّة فعل نحوي، لكنه لم يفعل.

أكملتُ صراخي في الممرّ مُنتشياً بصوت صداه، وعندما وصلت قرب مديري، كان ما يزال واقفاً يدخن سيجارته، وما أن رآني حتى رماها أرضاً، وداس عليها بحذائه، وقال لي: “لماذا تأخرت، خذ ممسحتك وامسح هذا”، وأشار بيده إلى عقب السيجارة.

باشرتُ بتنفيذ الأمر، وأنا أتمتمُ، ولا أجدُ أحداً أشتُمُهُ ويسمعني، سوى نفسي…
__________
*كاتبة من سوريا

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *