أيها الأديب العربي صباحك خير في عيد العمّال الذي لا يخصك

*شريف الشافعي

دون غيره، ينظر الأديب العربي إلى “البطالة” لا باعتبارها تعطلا تاما عن العمل وفق قياس الاقتصاد، إنما بوصفها حرمانا أبديا من ممارسة العمل الاحترافي الذي يحب، وغياب فرص هذا العمل في سوق لا تعترف به أصلا، بالإضافة إلى ملمـح آخر لهذه البطالة التي يعاني منها الأديب، هو إجباره على ممارسة أشغال أخرى ربما لا تروق له من أجل التكسّب، وهكذا يأتي عيد العمّال حاملا للأديب العربي أكثر من غصّة، في الروح قبل الحلق.

ما من يوم يستشعر فيه الأديب العربي الاغتراب أكثر مما يجده في عيد العمّال، حيث يتذكر ما لا يمكن نسيانه: أنه لا يعمل..

مع مطلع مايو من كل عام، يحل يوم العمال العالمي، اللا سلطوي، مستدعيا انتصارات “الشغّيلة” فوق سطح هذا الكوكب، أولئك الذين أسفر دأبهم وكفاحهم عن استحقاقهم ثلاث جوائز متساوية القدر كل أربع وعشرين ساعة: “ثماني ساعات عمل، ثماني ساعات نوم، ثماني ساعات فراغ للراحة والاستمتاع”.

تلك هي الحياة كما أرادوها واقتنصوها من أفواه الساسة والأسود وأصحاب رؤوس الأموال، ولم يكن نيل المطالب بالتمني، إنما جاءت الحرية الحمراء بعد جسور من المظاهرات والمواجهات والأشواك والدماء.

هي ملحمتهم المستحيلة التي أنجزوها على الأرض، وباركتها المؤسسات الدينية والمدنية، وتدلت قطوفها عبر سنوات وسنوات، وصارت الأسطورة أيقونة يحتذي بها المناضلون والطامحون، ويتغنى بها الأدباء، ولكن هل يملك الأدباء أكثر من الغناء؟

أيها الأديب العربي.. هل يخصّك عيد العمال؟

الأدباء ودوامة العمل

 يا لها من مدارات ودوامات. إن حياة واحدة لا تكفي الأديب للإجابة عن السؤال، إذ يتطلب فض الإجابة المتشرنقة استكشافا أوليا للذات، وهل هذه المغامرة إلا الانتحار في أوضح صوره، وإن تسمى بمسمى آخر؟

أين موضع الأديب العربي، في يوم تقبيل الأيدي الخشنة، من العمل والبطالة؟ يؤجل الأديب قليلا نظرته إلى المرآة، وجه الحقيقة الباردة المستوية، التي طالما كسّرها مُحْبطا، لعله يجد إعادة قراءة لذاته بالكشف في المعاجم، ولم لا؟ أليس في التراث أحيانا منجاة من المهالك، وهروب من الواقع؟

“الأديب” هو الفاعل من “أَدُبَ”، لكن هذا الفاعل لا يعني بالضرورة أنه الصانع العامل. “الأديب”، هو من يبدع في فنون الأدب من شعر ونثر، ويلم بها، وهو الكاتب المنشئ، والمثقف، وهو المهذب أيضا، والآخذ بمحاسن الأخلاق، كما أنه “المُرَوَّض المُذَلَّل”.

أي استدعاء للنموذج الغربي للمؤلف المحترف والصناعة المؤسسية للأدب يبدو بمثابة كوميديا استيراد “التجربة الدنماركية”

القنبلة المدوية، تأتي في المفارقة التي يوردها معجم اللغة العربية المعاصر، إذ يستعمل المتضادين، ماديا وأدبيا، للتفرقة بين الناحيتين المادية والمعنوية، فلا مجال للنجاة من خلال صفحات المعاجم، التي لا ترى الأديب عاملا، ولا تنظر إلى الأدب كمهنة احترافية تنجم عنها مكاسب مادية، بل إنها تضع صورة الأديب على عُملة افتراضية لا تعترف بها المصارف.

ما أسهل الرجاء، وما أصعب محطة الوصول. ما يتمناه الأديب العربي هو ببساطة أن يعمل أديبا، فما غير ذلك من وجهة نظره هو معنى من معاني البطالة.

العاطل، بتعريف الاقتصاد، هو “القادر على العمل، الراغب فيه، الباحث عنه، دون جدوى”، ولأن الأدب بحد ذاته مهنة لا وجود لها، من حيث التقييم الاقتصادي وسوق العمل، فإن الأديب يرى نفسه متعطلا على طول الخط.

يعمل الأديب العربي، بالضرورة، في أشغال أخرى من أجل كسب العيش، قد تقترن بالقلم مثل الصحافة، وقد تنأى عنه في وظائف أخرى بعيدة الصلة عن الكلمة، لكنه لا يتمكن من العمل أديبا إلا في حالات استثنائية نادرة، كما في دائرة الـ”بيست سيلرز” الضيقة، وهي ظاهرة تقترن بسلع استهلاكية في أغلب الأحوال أكثر من كونها كتبا رصينة محسوبة على الأدب والإبداع.

في حالة الأدب، البطالة متحققة ليس بسبب العامل، بل من تعطل المهنة ذاتها في سوق العمل، ومن حرمان الأديب العربي من ممارسة الفعل الاحترافي الذي يحبه كمهنة تدر ربحا، ثم يزداد الأمر سوءا بأن يتحول الأدب إلى عبء يبتلع قسطا من الوقت والجهد، مع اضطرار الأديب إلى امتهان وظيفة أخرى مجبرا تحت وطأة متطلبات الحياة وضغوطها المتلاحقة.

ثماني ساعات عمل، ثماني ساعات نوم، ثماني ساعات فراغ للراحة والاستمتاع، هي فرحة العامل في يوم عيده، لكنها بؤس الأديب العربي في صراعه مع دقات الساعات وعقاربها اللادغة، فأين حصة الأدب وقد انتهت الساعات الأربع والعشرون؟

الحل الوحيد أمام الأديب، بقدر ما تسمح به طاقته، اقتطاع نصيب الأدب من المجالات الثلاثة المتاحة: العمل، النوم، الفراغ، وهذا يعني التضحية المباشرة بقدر من المال والصحة والمتعة، وقد يعني الفشل في الوظيفة والمتاعب الصحية والتعاسة. كما أن العامل هنا، في ما يخص الأدب، يصير هو المنفق على العمل، وليس العكس، فأي عيد عمّال يخصّك أيها الأديب؟

عيد لا يخصك

كم أديبا يمكنه أن يكون قديسا، ويفعل ما فعله نجيب محفوظ، موظف وزارة الأوقاف، والرقيب، وكاتب السيناريو، الذي زهد في متاع الدنيا متحولا إلى راهب من أجل التفرغ للأدب؟ لقد عرض محفوظ أسرته لظروف صعبة ومخاطر حقيقية، ولم تعوّضه رواياته عن الخسائر المادية التي تكبدها، وظلت أرقام مبيعاتها محدودة، حتى بعد حصوله على جائزة نوبل.

ربما لا يقل محفوظ موهبة عن الكولومبي ماركيز، وكلاهما حصل على نوبل، لكن الآلاف القليلة من الروايات التي يوزعها ناشر محفوظ في مقابل عشرات الملايين من نسخ “مئة عام من العزلة” وحدها لماركيز تعكس جانبا من أزمة الأديب العربي، حتى بعد تحققه وشهرته واستغنائه وتفرغه.

يبقى، أمام الأديب العربي، في سبيل اكتشافه ذاته، لجوء خيالي إلى مرآة الآخر، حيث الحلم بتجارب تحاكي ما يسمع عنه من مؤسسات رعاية الأدباء في الدول الغربية ودعمهم في عملهم الاحترافي المدر للربح الطائل.

لكن، هل مجتمعاتنا العربية بما فيها من أمية وفقر وحواجز بين البلدان ومعدلات قراءة وطباعة بالغة التدني يمكنها استيعاب مثل هذه النماذج؟ وهل هناك أقسام جامعية عربية مختصة بإعداد أدباء أو كتّاب محترفين كما في الخارج؟ وهل تدعم الحكومات العربية والمؤسسات الأهلية صناعة الأدب ونشره وتسويقه كما في تلك الدول المتقدمة؟

لا يوجد شيء من هذا في العالم العربي، وتشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى أن متوسط قراءة العربي لا تزال دقائق معدودة خلال السنة، في مقابل مئتي ساعة للقارئ الأوروبي في المتوسط، فأي حديث عن استدعاء النموذج الغربي للمؤلف المحترف والصناعة المؤسسية للأدب يبدو بمثابة كوميديا استيراد “التجربة الدنماركية” في الفيلم المصري الشهير.

أيها الأديب العربي، صباحك خير في عيد العمّال الذي قد لا يخصك، لكنك الملك المتوج في عيد المُحارب، فانتظره عاما بعد عام من غير هدنة.
________
*العرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *