مقهى آخـر

خاص- ثقافات

*محمود شقير

يدخل المقهى متأبّطاً أوراقه وصحفه، ينهمك في القراءة وهو يحتسي بين الحين والآخر رشفة من فنجان قهوته، فلا يرفع رأسه إلا بعد أن يأتي على الصحف جميعها. يطلب فنجاناً آخر من القهوة، يشربه على مهل كعادته، وهو يتأمل حركة الناس في السوق الذي يمتدّ هابطاً من أمام المقهى، يتمتم لنفسه بضع كلمات لا يسمعها أحد، ولا ينتبه إلى أن أفراد الأسرة الذين يعملون جميعاً في المقهى، يراقبون كل حركاته وسكناته دون علم منه، وبدافع الفضول البريء دون سواه.

يأتي إلى المقهى كل يوم تقريباً، يحتسي عشرة فناجين من القهوة، دون أن يكلّم أحداً من رواد المقهى، أو يلتفت إلى أحد، يوزّع وقته على القراءة، ثم على تأمل السوق، وفيما تبقى من وقت ينهمك في كتابة أسطر عديدة، يدوّنها بسرعة على أوراق يحملها معه دون انقطاع.

كفّ الأب عن الاهتمام به، بعد أن أخبر أفراد الأسرة بأنه رأى حالات كثيرة مشابهة، اختزل الأمر كله بالقول إنه واحد من الكتبة (يعني الكتاب) الذين ظهروا على فترات غير منتظمة في هذا المقهى أو ذاك، خلال الخمسين سنة المنصرمة، لكنهم مضوا جميعاً دون أن يتركوا أثراً وراءهم. يقول الأب ذلك، ثم يمضي إلى خدمة زبائن المقهى، كما لو أن العالم يسير على وتيرة واحدة لا يتعدّاها إلى سواها.

حارَ الابن وزوجته الشابة في أمره، خصوصاً بعد أن تكاثرت في المدينة، الظواهر التي تدعو إلى الشك. الابن حذر بطبيعته، وبالذات تجاه الأشخاص الذين لا يعرفهم، أما الزوجة فقد استبدّ بها الفضول، وبدت راغبة في معرفة المزيد عن هذا الرجل. تحيّنت الفرص لذلك، ولكن عبثاً، والأسباب عديدة لا مجال للخوض فيها الآن. الوحيدة التي استطاعت الوصول إلى الرجل بكل سلاسة وانسياب، هي الطفلة، تقترب منه مثل قطة أليفة، يمسح على رأسها بحنان، ثم ينصرف عنها إلى شأنه دون كلمة واحدة، وحينما تطرح عليه سؤالاً بريئاً، لم يكن يسمعها في غمرة انهماكه، تبتعد عنه بعد حين.

انقطاعُه المفاجئ عن المقهى أثار كثيراً من التوقّعات الممزوجة بالقلق. اكتشف الجميع، بعد فوات الأوان، أن المقهى من دونه يعاني من نقصان. يؤكد الأب لأفراد الأسرة في ليالي السمر أنه قد يقبع الآن في السجن، يطمئنّ الابن إلى هذا التفسير لحظة، ثم ينقضه من أساسه بضربة واحدة حينما يقول: ربما تعرض لحادثة قتل من أحد الزعران الذين ازداد عددهم في الآونة الأخيرة، أو ربما غادر البلاد لعدم احتماله وطأة العيش فيها، يهزّ الأب رأسه مستبعداً كل ذلك. تبقى زوجة الابن صامتة لا تتدخل في لعبة التوقعات، لكنها تشعر مثل الآخرين بالفراغ الذي تركه غيابه عن المقهى. تطرح الطفلة أسئلة كثيرة دون أن تظفر بأجوبة مقنعة، يعتريها نعاس مفاجئ، تذهب صحبة أمها لتنام.

ذات صباح، والأب يجلس متبرّماً في انتظار الزبائن، يراه مقبلاً نحو المقهى كالمعتاد، أبدى سروره لمرآه، فعل الابن والزوجة والطفلة الشيء نفسه، جاءته الزوجة بفنجان القهوة في الحال. تجرأ الأب هذه المرة على توجيه السؤال إليه عن أسباب هذا الغياب. جاء جوابه واضحاً بسيطاً: ثمة مقهى آخر يذهب إليه بين الحين والآخر، ما يتسبّب في مثل هذا الغياب.

لم يعد ثمة غموض في الموقف كله، لكنّ صورة الرجل لم تعد ترتسم في أذهان أفراد الأسرة، إلا وهي مقرونة بمقهى آخر لا يعرفون عنه شيئاً، لكنه حاضر على نحو لا يُصدّق، إلى جانب مقهاهم هذا بالذات.

____________

*روائي وقاص فلسطيني / من مجموعة “صورة شاكيرا” (2003).


شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *