فروغ فرخزاد في شِعرها: مدينتي قبرُ أمنياتي

* عماد الدين موسى

يكادُ “الشِعرُ” أنْ يكون الفنَّ الأكثرَ قُدرةً على استيعاب شعلة الأحاسيس المُتّقدة لدى الكائن/ المبدع وما يرافقها من خيبةٍ أو فرح؛ بدءاً من البوح العاطفيّ الشفيف، مروراً بما يحدثُ في داخلنا من آلام أو آمال حقيقيّة أم مُتخيّلة، ووصولاً إلى النهاية المحتمة سواء كانت مأسويّة أم لم تكن.

على الرغم من ذلك كله؛ يبقى الشاعر على مسافةِ أمان، من أجل الحفاظ على التوازن الوجودي، كونهُ “راعي الوجود وحامي بيته”، على حد تعبير مارتن هيدغر.

بالتزامن مع الذكرى الخمسين لرحيلها؛ صُدِرَتْ الطبعة العربيّة من “الأعمال الشِعريّة الكاملة” (*)، للشاعرة والمخرجة السينمائيّة الإيرانيّة فروغ فرخزاد، حيثُ احتوتْ على مجموعاتها الشعريّة الخمس، وهي على التوالي: “الأسيرة” (1953)، “الجدار” (1957)، “العصيان” (1959)، “ولادة أخرى” (1964)، و”فلنؤمنْ بطليعة الموسم البارد” (1974)؛ المجموعة الأولى صُدِرَتْ عندما كانتْ الشاعرة في الثامنة عشرة من عمرها، بينما الأخيرة صُدِرَتْ بعد رحيلها.

فرخزاد؛ المولودة في طهران- سنة 1934، عاشت ككل الأساطير المُبدعة عمراً قصيراً لم يتجاوز الثالثة والثلاثين عاماً، وكان رحيلها في الثالث عشر من فبراير من العام 1967، إثر حادث سيرٍ يشوبه الكثير من الغموض، حيثُ اصطدمتْ سيارتها مع مركبة نقل تلاميذ روضة أطفال، تقول: “دعْهُمْ يطعنونَ ويهمسونَ في آذانِ بعضهم حكايةَ حبِّنا/ لمْ يمتْ أبداً ذلكَ الذي اشتعلَ قلبُهُ مِنَ الحبِّ/ في صحيفةِ العالمِ مخلّدٌ عنوانُنا”.

من الأسر إلى التمرّد

ثمّة تدرّج جليّ في تجربة فروغ فرخزاد، يتمثّل في التقاطع البياني ما بين تفاصيل حياتها وعناوين مجموعاتها؛ هذا التدرّج بدأ من رحلتها مع “الشِعر” بباكورة أعمالها “الأسيرة”، وتمثّل المرحلة البكر من دخولها إلى عالم الكتابةِ، حيثُ البحثُ عن كوّة ما للتنفّس بحريّة تامّة، على الرغم من التدوين الخجول خفيةً عن أعين الرقباء. لتأتي مجموعتها الثانية “الجدار” بوصفه الصديق الأوحد للكائن في العزلة، وفيها تكثر المناجاة والشكوى من معطيات الواقع المرير، حيثُ جاءتْ القصائد في صيغة حوارياتٍ بين الذات والآخر أو الند. مروراً بمجموعتها الثالثة “العصيان”، حيثُ بدأتْ معها بوادر التمرّد لدى الشاعرة وذلك بالخروج على العادات والتقاليد، تلك البالية والمقيّدة للمبدع والإبداع معاً، ومن ثمّ “ولادة أخرى” والتي تشي بالخروج الحقيقي من الشرنقة أو الولادة الثانية، شِعراً وحياةً. وصولاً إلى مجموعتها الخامسة والأخيرة “فلنؤمن بطليعة الموسم البارد” والتي تنبأت فيها الشاعرة بالنهاية المأسويّة لحياتها، سيما نجد مفردة “الموت” تجوبُ بين صفحاتها كزائرٍ مألوفٍ، حتى يكاد أن يكون أشبه بالظلّ، يتبعُ الشاعرة أينما ذهبتْ أو حلّتْ.

جحيم “الحبّ”

في قصيدة بعنوان (لقاءٌ مُرٌّ)، ثمّة الاشمئزاز وحده، يقابله حبٌّ خفيفٌ وخفيٌّ في آنٍ واحد، حيثُ تقول الشاعرة: “ألعنك وألعن هذا الحبّ وأغبطُكَ/ في النهايةِ ستضربُ بلّور الأمل/ على الأرضِ وسينكسرُ/ مغرورٌ.. تشعلُ في القلبِ ناراً أبديّةً”.

“النار”، هنا، في هذا المقطع، ترمز إلى جحيم “الحبّ”، وما “اللعنةُ” المزدوجة سوى تأكيدٌ على الرغبة الدفينة من أجل إزالة القناع أو الوجه الآخر لهذا الحبّ، بالإضافةِ إلى الخيبةِ والانكسار وما لهما من أثرٍ صادمٍ أو مؤلمٍ، كل ذلك تدوّنه الشاعرة بهدوءٍ تامّ وبمنتهى البساطة.

وفي قصيدة (في غروبٍ أبديٍّ) نجد حواريّة أو مونولوجاً يُمهّد للبوح الشفيف، جنباً إلى جنب مع التداخل الحميم ما بين عالمي “الشِعر” و”السينما”، سواء من الجهة الأسلوبيّة، وتحديداً حركة الكاميرا (الزوم) ببعديها القريب والبعيد، وما لها من جماليّات آسرة، أو من حيثُ اعتماد الصيغة المشهديّة والتي تم توظيفها بإتقانٍ.

تقول الشاعرة:

“- الأمنياتُ؟

– تخسرُ ذواتَها 

أمامَ ألوفِ الأبوابِ المغلقةِ دونَ رحمةٍ 

– مغلقةٌ؟ 

– أجلْ.. دائماً مغلقةٌ.. مغلقةٌ أفكّرُ ببيتٍ 

بأنفاسِ لبلابٍ تجلبُ الاسترخاء 

وأضواءٍ كوميضِ العيونِ 

بلياليهِ المتفكّرةِ الكسولةِ الهادئةِ 

وبطفلٍ بابتسامةٍ غير محدودةٍ 

كحلقةٍ متواصلةٍ تتّسعُ في المياهِ 

وجسدٍ مملوءٍ بالدمِ كعنقودِ عنبٍ”.

صدور الترجمة العربيّة من “الأعمال الشِعريّة الكاملة”، (395 صفحة، بترجمة الشاعرة والمُترجمة العراقيّة مريم العطار)، لرائدة من رواد الشِعر الفارسي الحديث وأحد أبرز مجدّديه؛ فرصة للتعرّف على هذه التجربة الفذّة واغناء للمكتبة العربيّة دونَ شكّ.

“أخيراً.. نهايةُ الطريقِ آنتْ/ وأنا وصلتُ مُتربةً مِن غبار الطريقِ/ الظمآنُ لمْ يرتوِ من النبع/ يا للحسرةِ والبؤس../ مدينتي كانتْ قبراً لأمنياتي”، تقولُ الشاعرة.

(*) صدرتْ حديثاً عن منشورات دار المدى (بيروت وبغداد- 2017).
_________
*المصدر: المدن.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

تعليق واحد

  1. ناصر محمد ناصر العتيبي

    جميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *