حاشية على رواية ” ممشى الياسمين” للكاتب محمد الغويبي×

خاص- ثقافات

*مصطفى بحبح

 إلى إ. ع

 

       من المسلم به في الدرس الأدبي، أنه لا يمكن قول كل شيء عن النص الأدبي؛ ذلك أنه يتسم بتعدد مستوياته وعلاقاته داخل ـ النصية و خارج ـ النصية. انطلاقا من هذه المسلمة، تقدم هذه السطور نفسها باعتبارها قراءة من بين القراءات الكثيرة الممكنة. و كل ما سنحاوله هو تلخيص المتن الحكائي، و التعرف على سمات السارد و وظائفه، و الشخصيات و علاقتها بالأحداث، و محاولة استخلاص مضمون الرواية، و التعرف على وجهات النظر المعبر عنها، و الوقوف عند أهم التقنيات السردية و الأدوات الأسلوبية.   

      كانت الرواية في بداياتها ـ حسب كبار دارسيها ـ سردا فنيا للتاريخ و للأسفار، و يرى البعض أن سرد ” طريقة الحياة” هو نموذجها. و نلاحظ أن رواية “ممشى الياسمين” تستجيب لهذه التحديدات  كلها. إنها تعتبر نفسها ـ كما يشير الفصل التمهيدي / الفصل 0 ـ قراءة لمرحلة من تاريخ المغرب المعاصر، و هي تعرض نماذج حياة مجموعة من الشخصيات، و تسرد تنقلاتها عبر المكان، و تحولات رؤيتها و مواقفها عبر الزمان. بيد أن الرواية ليست فكرة فقط، و إنما هي، كذلك، أدوات تعبيرية و تقنيات سردية، كي تحصل المتعة الفكرية و الجمالية.

      تقدم الرواية شخصياتها: ليلى و أسعد و أحمد و ماجد الذي يظهر في الفصول الأخيرة. لقد كانوا رفاقا يجمعهم الفريق / الفصيل. هذا الفريق الذي سيتشتت بفعل عوامل ذاتية وموضوعية، غير أن عامل المصلحة الشخصية كان حاسما. و في الأخير، أصبحت العلاقة بين أعضاء الفريق واهية، تنحصر في الدردشة.

      كانت  ليلى مرتبطة بعلاقة حب بأسعد. و لما اعتقل هذا الأخير، قررت تغيير مجرى حياتها كليا. سافرت إلى الرباط، و استقرت بحي المحيط، فلُقبت بالهاربة.  من هناك بدأت ترسل ،على  حسابها الفايسبوكي، صورا تظهرها كامرأة أمريكية. ثم نسجت علاقات جديدة يطبعها التحرر و الانفتاح. ليلى التي” شبت عن الطوق و غاصت في اليومي و ألغت صداقات قديمة من حسابها و محت تاريخا كاملا من دفاترها…” ص 32.

   ” كانت عاشقة للحرية و اللعب و الروح. متمكنة من قرارها الذي لا ترجعها عنه الذكرى و الحماسة و الجماعة. لا ولاء عندها اليوم إلا للفرد و الفرد فقط.” [ص 102].  

      في حي المحيط شغلت نفسها بتعلم الحلاقة و اللغة الفرنسية، و الاطلاع على الأدب السينمائي. ستتعرف على أشرف ـ دليل المرحلة الجديدة ـ الذي سيدلها على عالم جديد حيث الأمسيات  الباذخة في أرقى أحياء الرباط و أعرقها. و هما يتشابهان في فشلهما في حبهما الأول. يمثل أشرف نموذج المتحلل من الالتزام اللاهث وراء مصالحه الشخصية بوجه مكشوف.

       في هذه الأجواء الجديدة، ستطوي صفحة أسعد خلال لقائهما الأول، بعد خروجه من السجن. لكنها لم تستطع التخلص من ثقل الذكريات، بل نلمس تحسرها على فراقها معه.

     بعد فترة الاعتقال التي دامت سنة و نصف، سيلتحق أسعد بالمعهد العالي للصحافة. و هو الشغوف بالتاريخ و الأخبار و الكتابة. أغلق باب ليلى نهائيا، و دخل في علاقات جديدة. أسعد اليساري الذي أفاق من غفلته داخل أسوار السجن. لقد أدرك أن ” اليسار ظاهرة صوتية لا غير.” و هو الذي تخلى عنه بعض رفاقه، إذ لم يزره أحمد الذي عبره وصله خبر ليلى التي تعرفت على شخص آخر في الرباط [ أشرف]. و ساهم دخول جزء من اليسار في مفاوضات التناوب في خلخلة قناعاته السابقة. مما جعله يقف متأرجحا بين التفاؤل والتشاؤم تجاه المستقبل، إلى حد الغموض. و في الأخير ستقوده مقالة صديقه ـ التي راجعها ـ إلى ضرورة الإعراب عن مواقفه بوضوح.

      أما أحمد فيمثل نموذج الشخصية المتلونة و الانتهازية. و دليل ذلك، تفكيره في حياة البذخ و  جني اللذات، و محاولته استدراج ليلى بعد اعتقال أسعد، و عدم زيارته لهذا الأخير، مكتفيا ببعث رسالة باسم مستعار يحاول فيها جبر خواطره، و يخبره فيها بخيانة ليلى له. خرج أحمد من جلباب أبيه، الشرطي المتقاعد. و في الأخير سيعود إلى هذا الجلباب بتعيينه عميدا للشرطة في مدينة أطلسية مهمشة شبيهة بالمدينة الصغيرة التي تصفها الرواية في بعض الفصول.

      في البداية، كان الفريق مجتمعا على أفكار يسارية، ثم تشتت ليختار كل فرد سبيله. تاهت ليلى في الرباط دون أمان. و احترف أسعد الصحافة. و التحق أحمد بسلك الشرطة. و يبقى ماجد عاطلا يواجه المباريات و  المقابلات. و كلما انتفعت شخصية إلا و جنحت للمهادنة، و تخلت عن المشاكسة و المعارضة. فلا صوت يعلو فوق الفردانية و المصلحة الشخصية.

       نلاحظ أن الشخصيات جلها تعيش بعيدا عن أُسَرها. ففي البيت الصغير في السطح يجمع أحمد و أسعد و ماجد النقاشُ حول الأوضاع السياسية المحلية و العالمية. و أصبحت ليلى تعيش وحيدة في بيت بالرباط. و لا يُشار  إلى الجو الأسري إلا في مناسبتين: الأولى فرح أهل أحمد بعد توظيفه في سلك الشرطة. و الثانية زواج صديقة ليلى  في الدار البيضاء حيث التقت على هامشه بأشرف. يبدو هذا أنه استغلها في تأثيث حفلاته الباذخة مقابل المال، و أنه كان يمارس عليها سطوته باعتباره مكوٍنا، و هو الذي ساهم في نحت شخصيتها الجديدة.

     تعيش شخصيات الرواية القلق الذي يجد مصدره في ماضيها البئيس، و الحاضر المتغير، و المستقبل الغامض المفتوح على كل الاحتمالات. و يبلغ هذا القلق ذروته عند ليلى و ماجد. أما أسعد و أحمد فقد استطاعا ـ على الأقل ـ تأمين مستقبلهما المادي بعد مرحلة ” الفقر الأسود”. تقدم الرواية شخصيات مختلفة من حيث المبدأ، ومن حيث درجة الثبات عليه.

    تتميز شخصيات ” ممشى الياسمين” بالامتلاء. فهي تحمل أسماء، و تسلط عليها الأضواء من كل جانب. و لا يكتفي السارد بتقديم سماتها وأفكارها و أفعالها و علاقاتها، بل إنه يستبطن نفسياتها كذلك. جمع السارد بين شخصيات متخيلة ـ و هي المذكورة سابقا ـ و أخرى واقعية تاريخية [ الحسن الثاني و صدام حسين و ادريس البصري و بنسعيد أيت يدر]. مما يؤشر على جدلية الواقعي و المتخيل في الرواية. و قد صرح  السارد في الفصل التمهيدي: “…. حتى تصبح شخصيات الورق آدمية، و شخصيات الواقع ورقية…” [ص5]

    و تجدر الإشارة إلى أن هذه الشخصيات الواقعية تستدعي شخصيات أخرى ساهمت في الحركية السياسية خلال التسعينيات. كما يستدعي القارئ أحداثا أخرى انطلاقا من المتن الروائي. لا يمكن للرواية الواحدة أن تقول كل شيء. فهي مليئة بالفراغات. من هنا فإن العناصر الغائبة تساوي أهميةً العناصر الحاضر، و قد تفوقها أحيانا.

     لا تسرد الرواية حيوات الشخصيات فقط، بل تحكي أيضا عن أوضاع الأمكنة، مقيمة تقابلا بين مجموعة من  الفضاءات، تختلف فيها الأفعال  والإمكانيات و درجة التمدن. فبينما يختفي الجمال من المدينة الصغيرة بفعل الترييف و التي تدفع أبناءها إلى هجرانها، و حملها في قلوبهم فقط، تفتح الرباط ذراعيها للوافدين، و تطاوع الباحثين عن مسارات جديدة. و في الوقت الذي كان فيه أسعد في السجن يراجع تجربته السياسية التي اعتقل بسببها، كانت ليلى في حي المحيط تربط علاقات جديدة و قد تمردت عل ماضيها كله. تبرز الرواية ثنائية المركز و الهامش.

    تصور الرواية التحولات النفسية و الاجتماعية والسياسية التي عرفها المغرب خلال تسعينيات القرن العشرين، و التي كان لها ما بعدها. تتلخص تلك التحولات في تبخر أحلام الماضي، و بداية مرحلة جديدة قوامها اليتم و القلق و الفردانية.

     يتعملق السارد في ” ممشى الياسمين”. فهو عليم بكل تفاصيل العالم الروائي. يقدم الرواية في الفصل التمهيدي على أنها قراءة لمرحلة من تاريخ المغرب. يعرف مزاج الشخصيات و أفكارها و ميولاتها، و الأحداث و مساراتها. يتدخل في المحكي مفسرا و مفترضا و معبرا عن المواقف و واضعا الأحداث في سياقتها. فتجربة التناوب جاءت في ظروف عالمية اتسمت بسيادة القطب الواحد و  الغطرسة الامبريالية، و توجه هذا الأخيرة نحو اجتثاث المعارضة الدولية المتمثلة في العراق. و من ثم تذكرنا الرواية بالعدوان الثلاثيني الذي خلف الدمار و أزهق ما  لا يحصى من الأرواح، حتى صار” الوضوء في الشرق بالدم.”. في هذه الظروف أخذت المعارضة في المغرب تبحث عن إنقاذ ماء الوجه. و كان التناوب باهظ الثمن. و لما رفض جزء من الكتلة  [منظمة العمل] الدستورَ الذي يؤسس للتناوب أغلقت جريدته / أنوال، في  إشارة إلى ديموقراطية قادمة لا كرامة فيها. تزداد الحرية ظاهريا و القمع واقعيا. إنها مفارقة العهد الجديد التي تصورها الرواية. فما يظنه الناس خلاصا هو في الحقيقة شرَك.

      يقدم السارد  نفسه كقارئ نهم و مثقف واسع الاطلاع. يعبر عن أفكاره و رؤاه، و يعرض معرفته. و ينصص عناوين كتب ومقاطع شعرية لكتاب و شعراء كبار: أوس بن حجر و المتنبي و أبو فراس الحمداني و أبو العلاء المعري و جبران خليل جبران و عبد الرحمن منيف و محمود درويش ونزار قباني و محمد برادة و أحمد بوزفور وعبد القادر الشاوي. يبرز السارد ثقافته المستمدة من الشعر و السرد العربيين قديمهما و حديثهما، فضلا عن توظيفه للفظ القرآني.

    ” ممشى الياسمين” ملتقى خطابات متعددة: الشعري والسياسي و الاجتماعي و الديني و النفسي و العلمي [ علوم اللغة]. تحتفي الرواية باللغة، ففضلا عن تنصيصها لأبيات و مقاطع شعرية لبعض الشعراء فهي تحبل بالعبارات المنزاحة المجنحة. و من أمثلة ذلك :” رمى روحه في بريق  عينيها.” [ص 75]. ” كانا على حافة القمر يتراشقان بالنجوم.” [ص 82]…. إلخ. و يستخدم السارد اللفظ القرآني على سبيل الاقتباس: ” آناء الليل  و أطراف النهار.” ص 79  / “فيوثرون على أنفسهم الصمت و لو كانت بهم خصاصة.” ص 89 /” لا يفلح الساحر حيث أتى.”  ص 96.  

و للمعجم السياسي حضور كبير: الاعتقال الاحتياطي ـ اليسار ـ إضراب 14  دجنبر ـ  التناوب… 

تناظر الرواية بين تجربة ليلى الجديدة و تجربة التناوب،  في إشارة إلى تداخل السياسي و الاجتماعي. و لعل هذا التناظر يشكل بؤرة الرواية. و مما يرجح هذا الحكم ورود المقطع التالي في الصفحة الرابعة من الغلاف:

    ” في مطبخ التناوب، كانت الكتلة الديموقراطية تسير إلى سن اليأس، و عند المحطة الأولى، صارعت من أخل سلطة الاسم و ماء الوجه …  و هي في مطبخها بالمحيط كانت تعد الطعام على نار هادئة، تعتقد أن لا أشهى من طعام يهيأ على هكذا نار و لو تطلب الأمر مدة أطول.

      في مطبخها تعد القهوة لصديقتها، على مهل، كانت تجرب إحساسا جديدا، مغايرا، و قد انتصبت في داخلها امرأة دخلت متاهة، بلا ضمانات، تتورط في أهون البيوت فتكا و فراسة و افتراسا.” [ص 83].

           و تفسر الرواية فشل علاقة الحب بين أسعد و ليلى إيديولوجيا: ” لن تكون ليلاه في الرباط غير نقطة أنتجتها آلة جهنمية، أبدعها الصانع الجديد و الحارس الأمين لواقع الالتباس و الارتياب الذي يغذيه سوق القيم المشبوهة و هو يخلط الأوراق، في لعبة تدار بحرفية الغشاشين الجدد الوارثين الصاعدين من مزبلة التاريخ و ثقوب الأرض.” [ ص48].  

      يعد حضور الخطاب الميتاأدبي  في النص الأدبي من سمات التجريبية. و في هذه الرواية  تتحدث الكتابة عن نفسها، و عن شروطها السوسيوثقافية ، و عن ضرورتها باعتبارها تجليا للوعي. و يصل الحديث عن الكتابة ذروته في الفصل السابع و العشرين. و فيه ينتقد السارد ـ على لسان أسعد ـ واقع الكتابة. فهي مهنة حزينة. و أنها قد” أصبحت مهنة من لا مهنة له.” [ص114]. و تستحضر الرواية تطور الإعلام/ الفايسبوك الذي يرى فيه السارد وسيلة لعرض الذوات، كما تفعل ليلى المتأمركة. و نسجل هنا أن هذه الأداة التواصلية لم تكن قد ظهرت في بداية التسعينات بالمغرب, و لا نظن أن السارد لم ينتبه لذلك. لكن العبرة بالمقصدية.

       تصور الرواية التحولات النفسية و الاجتماعية و السياسية التي بدأ يعرفها المغرب خلال العقد  الأخير من القرن الماضي، و التي كان لها انعكاسات على المرحلة اللاحقة. قدم هذا النص صورة للعالم و ما يضج به من مشاكل و قضايا و نماذج بشرية، و قد جمع بين الواقعي و المتخيل، و بين التصريح و التلميح. لقد حرص على تجاوز الواقعية الانعكاسية بارتياد فضاء الأعماق، وتمطيط منسوب الخيال، من خلال التعبير بالرموز و الاستعارات. كل هذه الوسائل مدت الرواية بقدرات تدليلية هائلة. تتميز هذه الرواية بخاصية الوحدة و التعدد. وحدة الفكرة [ التغيرات الطارئة على الاحاسيس و العقول والمواقف التي مست المغاربة في مرحلة معينة.]، و  تعدد وسائل التعبير وجمعها بين التأملات الفلسفية والانزياحات الشعرية  الرائعة و الاقتباسات الموفقة، إضافة إلى السرد و الوصف و الحوار. مما يكسبها قيمة فنية، وتجعلها فَنَنا أخضر في شجرة الرواية العربية.

 

 هوامش:

× صدرت رواية ” ممشى الياسمين” للكاتب المغربي محمد الغويبي عن المطبعة السريعة بالقنيطرة، سنة 2015 .

ـ أرقام الصفحات الواردة في متن هذه المقالة تحيل على رواية “ممشى  الياسمين”  تقليصا للهوامش.

 

  

 

 

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *