الشعر في مواجهة الرتابة..مختارات من الشعر العالمي لرجاء الطالبي

خاص- ثقافات

 

محمد معتصم*

 

يُعَرِّفُ الشاعر اليوناني أوديسيوس إليتيس الشعر بـِ”فَنِّ الاقترابِ مِمَّا يَتَجَاوَزُنَا”،  ص (10). فما الذي يتجاوزنا؟ هل هو الحقيقة عينها؟ هل هو قول الحقيقة كما هي وأنَّى هي؟ أو ما يتجاوزنا هو ما قاله نيتشه:” قول ما بعد الحقيقة” أي قول ذلك الوجه الآخر المتخفي وراء الغبار المعرفي المغالط، الذي ورثناه أبا عن جد، حتى أصبح هو الحقيقة التي تحجب الحقيقة في جوهرها؟

هنا يكون الشاعر قد دخل حلقة “القلق” المزدوج؛ قلق المعرفة، وقلق الوجود. فلا يستطيع الشاعر ههنا إلا أن يعترف بأنه في قلب الغربة والمنفى، ويبدأ تراجيديا الصراع.

يصارع الشاعر اللغةَ من أجل إنشاء قولٍ مختلفٍ عن السائد الخارج ذاتي (المعطى قبليا)، السائد الذي يقوله الآخرون، في يقين ثابت. القصيدة لا ترغب في قول ما يقوله الآخرون لتكون شعرا، تريد أن تقول صوتها الجوهريَّ المختلفَ، في مهاوي البياض، ففي الخطاب الذي ينفض عنه العوالق والزوائد والقشور المتكلسة، لكي تكون حرة، ولكي يأخذ الشاعر “اسم البحار المشرد الحكيم” ص (13)، ولكي يرمز خاصة إلى “الحرية” ص (13). ليست الحرية عند الشاعر إليتيس ما هو قادم، بل الحرية هي رحلة العودة إلى البعيد، الزمن العميق، من أجل نبش الغبار المتكلس، الذي يحجب الحقيقة؛ حقيقة أن الحرية سرمدية أبدية لا تخضع لتقلبات الزمان ولا لحركاته وأهواء تجار الأهواء، إنها هاهنا قائمة أبدا، حيث لا نعلم لها بداية، ولكننا نعلم حقيقة من يغتالها في أعماقنا.

إليتيس أوديسيوس الشاعر اليوناني المتشرد في أقاصي الشعر القديم، الذي تحول إلى عبادة، وإلى نصوص مقدسة، مزامير وأناشيد لنداءِ الأنساغ البكر الأولى. إنه الشاعر الإنسانيُّ الذي ينظر إلى المستقبل، ليس في ما سيأتي، بل في ما هو كائنٌ، وما هو كائنٌ ومتخفٍ تحت غبار غموض التأويل وسوء التوقع والاستقبال، لأن الشعر لا يكون إلا في الوضوح، فلا “ينفعُ الشعرُ سوى ليحيا، ليحيا بكل وضوح” ص (12) وفي الوضوح، والوضوح حقيقة الحقيقة والحريتها الرقراقة.

الحقيقة واحدةٌ دائما، ولكنَّ قولها (تأويلها) مختلفٌ، لذلك يرى الشاعر الحق القصيدة منفاه، لأن عليه بتدمير اللغة وتنقيتها من شوائب الماضي وضجيج الآخرين. لقد كان عمل إليتيس ” كله طرقا نحو هذا الجزء المجهول فينا، والذي تحاول لغة مجهولة نقله بإشارات خفية.” ص (10)

يدركُ بل يعي الشاعر أن صراعهُ الحقيقي في القصيدة ليس مع المعنى ولا مع الهدف، بل مع اللغة، كيف يمكنه مقاومة القول الضمني والمتماهي في الجملة الشعرية المسكوكة والتي قيلت مسبقا، فالقصيدة مجازٌ، وجهٌ آخر للحقيقة، مقام آخر للذات الشاعرة. لذلك فالقصيدة منفى الشاعر، وهي معول يهدم به ذاته، لأجل القصيدة الجوهر قصيدته هو التي تجعل منه شاعرا ثوريا ينتمي إلى عصره وهو ما تحقق له، إنهُ:” رجل الصورة الأكثر جنونا، كان رجلا ينتمي إلى عصره، ثوريا” ص (10).

ففي ذهابه بلغته نحو ما يتجاوزنا، كان أوديسيوس أليتيس يبحث عن الحرية وعن الحقيقة الجوهرية وعن اللغة التي تنتمي إليه وتقول حقيقته هو لا غيره، وتقول اليونان الأصل لا اليونان المتخفية وراء ركام الأقاويل والخطابات المزيفة، “نحسُّ في بعض الأحيان أننا ندخل خائفين على بعض القطع من عمله الشعري كما لو أننا في كاتدرائية، نضيع في بعض الأحيان مأخوذين بالمد التعزيمي لتحولاته، لتشبيهاته، كانت تتملكه دائما الرغبة في إيجاد الوجه الحقيقي لليونان الذي لا يجد القراء اليونانيون أنفسهم دائما في ترميمه المفتقد للأصباغ. هم الذين يريدون صورة أكثر تفاهة…” ص (9)

لذلك فالقصيدة منفى ومعول الشاعر يهدم ذاته من أجل الوصول إلى لغة محايدة لا تقول إلا صاحبها، بل لا تقول إلا ذاتها في لحظة زمنية راهنة، وشديدة الخصوصية والضيق. المنفى ليس مكانا شاسعا مأهولا، بل هو مكان ضيق وخاص وفارغ. مكان في بدايته وفي نشوئه وفي انتشائه واشتهائه.

“لا أريد أن أذهب إلى أي مكان

فقط

نحو الأعماق.

أه أيتها الأعماق

آه أيتها اللغة

آه إيزودور.” ص (29-30)

هكذا تحدد الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك منفاها، إنه الأعماق واللغة.

الشعر جسرها الناريُّ نحو “ما يتجاوزنا”، ذلك الخوف االقابع في فراغ ونهاية الهاوية. كيف يمكن للشاعرة أن تكتب عن شيء تخافه ةتجهل هويته، شيء يملؤها فزعا ولهول رعبه داخلها ستلقي أخيرا بذاتها فيه كي تحترق، لربما تبعث من جديد في القصيدة، في اللغة، كائنا محتملا متحررا من الفزع وأثر السقطة نحو الأعماق بعد التجربةِ.

إن الخوفَ من عبور نهر الموتى نحو الحياة الأخرى في اللغة الخاصة، يتطلب من المرء أن يختبر تجربة الاحتراق بلهب وجمر التجربة، تجربة المرء لما يخافه، فخوف الشاعر التراجيدي المكتئب من الجنونِ جنونٌ، والفزع من الموتِ موتٌ مضاعف لا تسكته عويله وصراخه ونحيبه غير التجربة. فالشاعر المحاصر بالأفول يكتب فقط في مواجهة الغروب،  والشاعر الساقط في العتمة نحو أعماق الهاوية في الفراغ لا يكتب قصيدته، ولا تتشكل لغته الخالصة إلا “في مواجهة العتمة” ص (29)

“لا أعرف العصافير

أجهل تاريخ النار

لكنني أومن أن عزلتي يجب أن تحظى بأجنحة.” ص (29)

لا تتوقف تجربة العبور نحو الهلع الذاتي، هلع المكتئب من استبداد ظلمة ذاكرته وسواد ثقب الفراغ الهائل في خلاياه الذي يبتلع كل مكوناته الذاتية، أحلامه وطموحاته ورغباته وذكرياته أفراحه السابقة وطفولته المرحة وإخفاقاته ونجاحاته، الهلع هو الثقب الأسود في سماء ذاته. لا تتوقف تجربة العبور نحو مهاوي الأعماق عند الاحتراق الكلي، بل عليها (التجربة) أن تجرب الارتماء في المهاوي السحرقة للفراغ حيث لا شيء، حيث تتلاشى الذات فلا تجد لها سندا، لا سماء تحميها بترانيمها ولألاء شهبها النارية، ولا أرض ترتطم بها المخاوف من الجنون، هناك حيث المنافي القصية القاسية، العمق بعيد والذات في سقوط مستمر واللغة “آه أيتها اللغة” أنت المنفى الحقيقي للفراغ  والهلع وفوبيا الجنون والانتحار. تقول الشاعرة “الزهرة” وتعني “النار” وتقول “الأعماق” وتعني “الهاوية السحيقة المعتمة للذات” تقول “الأجنحة” وتريد “الخطوات” وتقول “المنحدر” وتعني “آثار العبور باتجاه ما تخافه”.

“سأختبئ في اللغة” ص (31).. “آه أيتها اللغة” ص (30).. أيتها المخاتلة، التي تلعب لعبة المرايا المتقابلة في الفراغ، “هذه الفتنة التي كان يمارسها عليها الفراغ، واللا شيء، والكاووس، كانت تبسطها في عزلتها وفي خوفها من الموت، وخوفها من الحياة. لكن لا شيء يوقف الفراغ الذي يقرض الكائن، ابتلعها الغياب كلها.” ص (27).. “طيلة الليل أنتظر أن تجسدني لغتي.” ص (33)، لكن هيهات هيهات، من فراغ أسود تحكم في ذات الكائن ونفسه، سواد مستبدٌ يصبغ خضرة عيني الشاعرة بالظلام. تصرخ الشاعرة كمن سقط في جبٍ بلا ماء تملؤه العتمة:”أيتها الحياة، أنا هنا” ص (34) ولسان حال القصيدة يردد:” إنني أسقط، إنني أموت منبوذة في عزلتي وفراغ روحي.” أيتها اللغة المخاتلةُ المستبدةُ المنفى المرايا المتقابلة، المرايا التي تُضَيِّعُ معنى الحقيقة، وتزرع غابة الشك والفزع في الروح والفكر والذات والقصيدة، فتجلب الشاعرة نحو الثقب الأسود للانتحار، لعلها بذلك تدخل منطقة الصمت المحرمة، فيسكت الصراخ والعويل والنحيب داخلها وفي القصيدة، العويل الذي يلبس لفظ الحياة معنى الموت ولفظ الأمل معنى اليأس.. هناك إذن، في مملكة الصمت الجديدة ستتحرر الذات من هلعها واللغة من مراياها والحقيقة من أشباهها ويسكت النواح الضاري، هناك،

“حيث لا أحد تجرأ على إسكاتها،

عندها لا يمكنني أن أخاف

أن أكون أنا وأتكلم عن نفسي

لأنني سأكون خفيفة في الصمت

وما أقوله سيكون وعدا.” ص (32)

لم تكن القصيدة الشعرية ملاذ الشاعرة أليخاندرا بيثارنيك كما أرادتها أن تكونَ، لكنها كانت منفاها السحيق، هاويتها التي انحدرت بها وفيها نحو أقانيم الخوف والفزع، خوف المكتئب من مصيره في لحظات اليقظة حيث تتبدى أمامه الحقيقة: الجنون أو الانتحار. أيهما النهاية؟ كلاهما عالم مرعب وغامض، ولكنه المآل. فهل يمكن للقصيدة أن تكون الملاذ الحاضنَ الحاميَّ؟ تلك أمنيات الشاعرة، لكن اللغة (الجملة الشعرية) المخاتلة تَجْبُنُ في مثل هذه الأبعاد والآفاق وتنكص وتتردد ثم تترك الكائن لمواجهة مصيره الحتمي في استسلام وهبوط نفسي حادٍ، ولا تحمل عنه ومنهً غير آثاره، ورسوم خطوات رحلته التراجيدية نحو “الأعماق”، فـَ”آهٍ أيتها الأعماقُ”، أنا هنا أيتها الحياةُ التي تشبه الموت، حياة ما وراء الحدود الطبيعية للكائن الطبيعي، حياة تم دفعها نحو تجربة أقصى ما يحتمله كيان الكائن:” رغبتُ في أن أموتَ بسبب عدم قدرتي على أن أكون بداخل أعماقي.” ص (28)

لقد احتمى أوديسيوس إليتيس في رحلته بضوء شمس اليونان المندثرة، فتحولت القصيدة عنده إلى ترانيم وأناشيد قدسية، تمجد الذات (الحاضر) في صورة الشعراء القدامى (التاريخ)، بينما احتمت الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك بالفراغ وصمت وعتمة الهاوية، فلم تجد سندا سوى مواجهة العتمة بمزيد من العتمة الداخلية فاختارت إسكات صراخ وعويل ونواح الكائن المكتئب فيها في لحظة الضيق والشدة.

كذلك حال الشاعر روبرتو خواروث، شيد عالمه في الشرفة المطلة على الفراغ، تقول الشاعرة المترجمة:” ينتصب روبرتو خواروث كأثر شامخ ومتعال في المشهد الشعري الشاسع لأمريكا اللاتينية. شيدت شذراته المشتعلة بشكل ما ميتافيزيقا للوجود الإنساني الموجود دائما على حافة الفراغ، المحكوم بعبوره القصير على هذه الأرض، مسائلا لغز حضوره والأشياء. تمنح كلماته الصاعقة وجودا لنصوص متلانحة بين الصمت والكهانة، لتبدو كتمثال فارسمتفحص للعالم.” ص (35)

يندهش الشاعر من كون الحياة مستمرة ما تزال دون ملل رغم أن كل شيء يموت وينتهي كل يوم، هذا الموت المتكرر للأشياء، يأتي من كون الشاعر يقف على الشرفة الكون، فلا يرى الأشياء تتجدد كل يوم، بل يكتفي بمراقبة أفولها في الظل وفي الظلام، لتعود ميتة إلى الحياة بلا شغف.

“ورغم هذا، كل يوم

نقوم بشيء للمرة الأخيرة.” ص (40)

يُسْقِطُ الشاعر خواروث حالته الباطنية على الوجود والموجودات في آن، فيراهم في زوالهم وفي عودهم الأبدي، لكنه عودة منتهية لا تجدد فيها، كمن يشعر بحال الهبوط النفسي، جراء التكرار والرتابة، لا يرى روبرتو خواروث في عودة الأشياء والأيام تجديدا وانبعاثا، بل ينظر إلى الأمر كأنه سلسلة من التكرار المميت.

“إطفاء الضوء، كل ليلة…

هو مثل طقس تلقيني:

الانفتاح على جسد الظل،

الرجوع إلى دورة للتعلم تعود دائما،

تذكر أن كل ضوء

هو حصار انتقالي.

في الظل، مثلا

تفقد الأسماء التي نستعملها في الضوء، صلاحيتها،

يتوجب استبدالها واحدا واحدا.

لننتهي إلى تغيير اللغة

وتلفظ لغة الظل.” ص (37)

عندما تموت الأشياء، وتقبر في الظل والعتمة، تصبح شيئا آخر، وبالتالي تحتاج كي تحيا إلى تجديد لغتها، أسمائها، وألفاظها، وتراكيبها، تحتاج معجما جديدا يقولها دون حاجة إلى استعارة لغة الضوء الذي “نقتله” كل يوم. لتجاوز التكرار المميت، ينبغي الاجتهاد في البحث عن لغة جديدة مختلفة لغة صامتة لا تحمل ثقل لغات غيرها وصدى شعراء آخرين. يذهب خواروث عكس أوديسيوس إليتيس الذي اختار إلغاء الحاضر والإقامة في فكرة اليونان المندثرة تحت ركام النسيان، يبحث إليتيس عن هويته الغابرة في الماضي، بينما خواروث يبحث عن هوية جديدة مختلفة تستطيع الخروج به من حافة الهاوية ومنطقة الظل وحافة الفراغ، تجعل شعره يتجاوز حالة التكرار المميت، تجعله هو قادرا على تغيير رؤيته للكائنات والموجودات العقيمة التي لا تعمل سوى على السير في طريق حتفها في حركة دائرية خانقة وفي عود أبدي لا يتقدم. يبحث عن لغة شعرية مختلفة وأساليب مغايرة تنقد الشعر من تلك اللغة التي “تحيلُ هويتنا مخجلة” ص (37)

تخاف أليخاندرا بيثارنيك الموت:”لكني لا أريدُ أن أتكلم عن الموتِ’ ص (27)، لأنها ترهب النهاية: الجنون أو الانتحار، بينما روبرتو خواروث يرهقه الموت الأبدي القائم في تكرار الأشياء والأيام، ذلك التكرار الذي يُفْقِدُ الموجودات واللغة والشعر هوياتهم الحقيقية. لذلك ينبغي البحث عن قصيدة حية في قلب الموات:

” كتابة يمكنها أن تُقرأ

حتى في الموتِ” ص (35-36)

لم يخترْ فلادمير هولان التشيكي التَّمَاهِيَ مع الحضارة القديمة والانصهار في نسغ أجداده التشيك، ولا اختار الحاضر المتفاقم والمتداعي لترميمهما، والوقوف على قمم أمجادهما الفانية، بل اختار الأصعب، اختار إعلاء الجدار حوله وبناء عزلته الخاصة. يقول:” في عزلتي المحبوبة، كان لدي قبضة من التراب لأستقبل وأحيا أهوال المرحلة.” ص (45)

إن ألم هولان التشيكي كان منبعثا من قلب الخراب والفاجعة، لم يقف على الحافة المهولة للفراغ، ولم يحتم بالأجداد الغابرين وأمجادهم، ولم يكن يهاب الموت والجنون والانتحار ولا كان منشغلا بتكرار ورتابة الموتى الأحياء، كان منشغلا بالحياة كما يريدها، في قلب العزلة بعيدا عن الانهيارات الكبرى التي تحيط به، لقد “عاش على هامش المجتمع” ص (43)، فهو الرجل الشاعر المعروف “بنفوره وابتعاده” ص (43)، وبذلك، كان شعره “ينحتُ طرقه للهروب من انحطاط عصره، كان يعلي جدرانه بعيدا عن عالم يزدهر فيه الفساد والتفسخ.” ص (44). لقد تحولت الجملة الشعرية عنده إلى رؤيا وحالة وموقف من العالم الآيل إلى السقوط والتلاشي والتحلل، لذلك، قال بيقين ثابت:” سيختفي العالم كما ستخمد النجوم مثل شمعة مطفأة.” ص (45)، لا عودة ميتةً ولا تكرارًا يقتله التطابقُ، العالم المنتهي في حرَكة لا متناهية عند روبرتو خواروث، بل عالم بلغ حده ومنتهاه وعليه أن يسقط كثمرة ناضجة ومهملةٍ لم تمتد إليها يد؛ يدُ العالم الحاضر المبتورة بالحروب المجانية التي تعتدي على حق الإنسان في البقاء والحياة والحب والشعر والفرح، ومادام العالم سينتهي كما تنتهي كل شمعة مطفأة ومثل كل نجم مطفأ خامدٍ، فالأولى الاهتمام ببناء عالم الذات في العزلة القصوى. وقد توالت الخيبة وراء الخيبة: موْتُ ابنة الشاعر كاترينا، وموت الأمة التشيكية لتحيى روسيا السوفييتية، ثم موت القيم الإنسانية العليا في أوروبا الحديثة، “الأوربيين الذين لن يسامحهم على نذالتهم.” ص (44)

لقد صارع فلادمير هولان التشيكي العزلة التي أحبها رغم ذلك، لأنها أخفُّ وطأة من رؤية انهيار أمته التشيكية، لم يمتلك قلب قيصر الذي ترك خلف ظهره روما وسط الحريق واستودعَ أمجاد أمته ألسنةَ اللهبِ، ولم يمتلكْ قلب ولسانَ أبي البقاء الرُّندي وهو يرثي سقوط غرناطة المدوي وتشريد قومه وبكاء الصوامع والمحاريب تحت نيْر محاكم التفتيش، كان يعلم يقينا أن الأمة التشيكية قد بلغتْ حدها ومنتهاها عندما استسلمت للسوفييت، الأمة الجديدة الفتية الناهضة، ولكنه تألم من أجل الإنسان التشيكي المقهور الذي لا حول له ولا قوة ولا لسان ولا دموع يبكي بها حزنه وينفس بها عن همه وغمه، “لم تكن الإنسانية شيئا بالنسبة لي/ عشتُ من أجل الإنسان/ ومأساته.” ص (44). يكتب الشاعر مأساته وعبرها يكتب مأساة الإنسان حيثما كان وحلَّ وارتحلَ، تلك مهمة الشعر عنده:

“عندما أفكر في إكليل المسيح الشوكي.

يلجمني الفزع.

عندما يحط نظري على العُلَّيْقِ أرى عش عصفورٍ

أبقى هناك، لأنصت.

لكني بمجرد ما أتعرف على الإنسان

أجهش بالبكاء.” ص (48)

الطالبي، رجاء: كتابة الخراب؛ مختارات من الشعر العالمي. ترجمة وتقديم. منشورات دار فضاءات. ط 1. 2018م. عدد الصفحات (142).

حمل هنري ميشو معه ألمه، حينما تحول ثقب في قلبه، خلق به، إلى ثقب أسود يمتص راحته ويشيعُ في نفسه وفكره وشعره اللاطمأنينة، ويدعوه نحو الهروب في المكان حينا وفي فراغ هاويته الداخلية حينما آخر. يقول:”احملني في مركب […] وَضَيِّعْنِي في البعيد البعيد.”، “احملني دون أن تكسرني”، “احملني، أو بالأحرى هَرِّبْنِي.” ص (65)

يهرب الشاعر في ذاته، يهربُ من الناس، ويهرب أساسا من موته المؤجل، إذا كان خواروث قد رصد الحركة المتكررة للأشياء والأيام المغتالة في تطابقها ورتابتها، فإن هنري ميشو، كان قريبا من أليخاندرا بيثارنيك، في انتظار نهايتها، إلا أنهما يختلفان في نقطة جوهرية، فهنري ميشو اللامهتم لم يقلق من الموت، بل كان ينتظره، واعتبر حياته وما تبقى منها بعدما علم بثقب قلبه الخِلْقيِّ، هبةً، عكس بيثلرنيك التي عاش رعب النهاية بين خيار الجنون أو الانتحار، فاختارت الأخير.

هرب ميشو كثيرا في الأمكنة/ البلدان، مبتعدا قدرما استطاع من قلب القلب، وشبح الموت، لكنه وقف عند الحقيقة الصارخة، الهروب في الأمكنة ليس إلا تأجيلا لموت محتوم، فعلى الذات مواجهة المصير بشجاعة، ولا بأس بالسخرية وحدة الطبع والسخط على العالم. “لم يعد يهرب إلى بلدان بعيدة ليفلت من ذاته، أصبح يواجه بسلاح الكتابة والتشكيل الهاوية والليل والرعب، متحالفة ليقضي عليها.” ص (62)

لقد جعل الكتابة والتشكيل هوية بديلا عن الوجود المادي في الواقع، وهو ما يحتم عليه الانزواء والتبرم من مخالطة الناس، أولئك الذين لا يشعرون بالعالم المحيط بهم، والفضاء الذي يحتويهم ويشكلهم، كائنات بلا حس، منفعلة لا متفاعلة. تولد لديه مع الوقت والتوغل في البعيد في ذاته إحساس بالخوف من طول بقائه بين هذا لوحش التافه المسمى حياة، لقد جعلته الكتابة والتشكيل والعزلة مقبلا على الموت بعدما كان يهرب منه في أسفاره، كمن يهرب من السقوط في هوة الثقب الأسود من القلب، الفاغر فاه والممتص لكينونة الشاعر فيه. “كان خوفه من أن يداهمه التافه والوحوش قويا، كان ينغلق على نفسه أكثر فأكثر، وكان سؤال يسكنه على الدوام:” كم سيدوم كل هذا؟”..” ص (63)

هكذا يتحول الخوف من الموت الثاوي في سواد ثقب قلب الشاعر إلى قلق التَّوَاجُدِ في مكان مشترك ومأهول بالأغبياء، الذي يزيد البقاء ثقلا والفضاء اختناقا، فيهرب نحو ذاته البعيدة هناك في قعر الهاوية وظلمتها، حيث لا أحد سوى الذات في عرائها وعزلتها:

“نثقل على ذاتنا

نثقل على عزلتنا

نثقل على الضواحي

نثقل على الفرغ..” ص (60)

تَقَلَّبَ الشاعر هنري ميشو تجاه قضيته الجوهرية التي تسبب فيها قلبه المثقوب، وأدت إلى نفوره وتبرمه من الناس، بين الهروب في المكان بالسفر الدائم، وبين الهروب من موت مؤجل وإحساس قاهر بالنهاية وقرب مغادرة الحياة في الكتابة والتشكيل الرسم بالحبر الصيني، وبين مواجهة وحش الخوف بالاحتماء بالعزلة الذاتية، ورفع الأسوار العالية بينها وبين العالم الخارجي كما فعل الشاعر التشيكي فلادمير هولان، وبين الاستسلام أخيرا:

“استسلم، يا قلبي

ناضلنا كثيرا

لتتوقف حياتي،

لم نكن جبناء،

قمنا بما في وسعنا.” ص (58-59)

في كتابها “كتابة الخراب: مختارات من الشعر العالمي”، الصادر هذا العام 2018م، اختارت رجاء الطالبي عددا من الشاعرات والشعراء الذين عانوا في كتابة الشعر وفي الحياة كذلك، واختاروا العزلة أو وضع حد لحياتهم العصية تلك، حياة أرادوها خضراء نابضة بالأمل ومحبة للإنسان ممجدة لجوهر الحياة بعيدا عن الأحقاد والمشاحنات والصراعات على السلطة والحروب والتطاحن العرقي والمذهبي حيث عاثوا الخراب في الحياة الواقعية وفي النفوس.

لقد اختارت عددا من الشعراء والشواعر لكل واحد منهم خصوصية معينة في الكتابة وفي تحديد معنى الشعر، لكنهم يلتقون في اختيار الشعر وسيلة تعبير عن حالاتهم النفسية، تقول رجاء في مقدمة الكتاب:” تجمع هذه المختارات الشعرية المترجمة باقة من الشعراء الغربيين، اقتسموا جميعهم الأسئلة الصعبة للشعر، حين يعز الانتماء لواقع يطوح بك بعيدا عن انشغالاته، حين تداهمك الآلة العمياء للرداءة والتدجين تروم تجريدك من اختلافك ووسمك بشارات القطيع، آلات متوحشة للحرق والنبذ وللتقتيل وإقصاء الذوات المختلفة…” ص (5)

إذن، الشعر صنو المنفى، المنفى الداخلي والمنفى الخارجي، المنفى الذي يحبس الذات داخل صراعها المرير مع الحقيقة التي توجد هنالك بعيدا خلف اللغة، والمنفى الذي يضع كيان الشاعر خارج الجماعة كعنصر خطير ومشوش على السير الرتيب لحياة رتيبة لا ترى أبعد مما يقدم لها من “حقائق” محدودة.

إضافة إلى النماذج الشعرية الواردة أعلاه، نجد كذلك بول سيلان وإدمون جابيس ومشيل دوغي وفرانسيس بونج وعبد الفتاح كليطو ونوفاليس وكلود إسطبان، ثم مارينا تسييتايفا ولكل واحد منهم حقيقته الشعرية والوجودية التي تغني حتما الشعر العالمي وتُعَدِّدُ من أوجه الحقيقة، الحقيقة التي تقع في الماوراء، ما وراء الحقيقة المقترحة والمفروضة.

الطالبي، رجاء: كتابة الخراب: مختارات من الشعر العالمي. ترجمة وتقديم. منشورات دار فضاءات. الأردن- عمَّان. ط 1. 2018م. في (142) صفحة من القطع المتوسط.

  • ناقد من المغرب

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *