الوثائقي «خيوط السرد»… الحكايات الفلسطينية بألسنة نسائها

*سليم البيك
تقترن الحكايات بالجدّات، بالنّساء، والحكايات هي الحامل المعنوي للهويّة، لهويّة أي شعب، لهويّة الفلسطينيين في حالة موضوعنا هنا. والفلسطينيات لا يحملن الهويّة الفلسطينية من جيل لآخر بحكاياتهن وحسب، إنّما بأسلوب حياة جعلهنّ يحملن أشكالا أخرى للتراث الفلسطيني من جيل لآخر، على مدى سبعين سنة من عمر الاحتلال/النكبة/اللجوء… فكان التطريز إلى جانب الحكايات، وبين هذه وتلك ـ تقنيّا لنقُل ـ خيوطا تُحكم الحكاية والثوب، فيكون الثّوب الفلسطيني التمثيلَ الأبرز للتراث والهوية، فيكون كل ثوب فلسطيني حكاية لها خيوطها التي تُحكِم حبكاتَها، لها أطرافها كما لها ذُراها، لها مساحاتها السردية شبه الفارغة ولها عُقد تكثر فيها الألوان/الأحداث وتتسارع، وفي كلتا الحالتين، كان للنّساء الفلسطينيات حظّ زائد عن الرّجال، لينقلن الحكايات والتطريزات الفلسطينية، بما تحمله من هويّة، من جيل لآخر.
هذا ما نشاهده في الفيلم الوثائقي «خيوط السّرد» الذي أخرجته اللبنانية/الفلسطينية كارول منصور، وأجرت البحوث له الفلسطينية منى الخالدي، وعُرض أخيرا في مهرجان السينما الفلسطينية، «سينيبالستين»، في مدينة تولوز جنوب فرنسا.
قد يخرج أحدنا من الصّالة بانطباع أوّلي هو أنّ الفيلم عن التطريز الفلسطيني، كما يمكن أن يوحي كل ما فيه، إلا أنّه عن حكايات الفلسطينيين، كما تخبرها النّساء منهم، تماما كما يخبرن حكايات ما قبل النّوم. فكما تحمل الفلسطينيات حكايات شعبهن سردا، وكما يحملنه نَظما في الأهازيج والأغاني الفولكلورية في مواسم متنوّعة، يحملنه هنا، في هذا الوثائقي، في أثواب تختار كل منهن، من الحاضرات في الوثائقي، قطعة من ثوب مطرّز وتبدأ بالحديث عنه لتكمل، كما تفعل الجدّات أو كما تفعل الحكّاءة الأولى، شهرزاد، لتكمل سارحة من قصّة إلى أخرى، من سرد إلى آخر، كأنّها تتنقّل من خيط إلى آخر، من لون إلى آخر، في ثوب هو اليوم، بفضلهنّ، «علامة تراثية» فلسطينية.
وكي تكون الحكايات أقرب لعموم الحكاية الفلسطينية، حاور الفيلمُ نساء من طبقات اجتماعية وانتماءات مجتمعية وأجيال واهتمامات واختصاصات ومهنٍ وتجارب متنوّعة، منهن ليلى العطشان (أخصائية نفسية) وليلى خالد (قياديّة في الجبهة الشعبية) وماري نزال بطاينة (محامية وناشطة) وملك الحسيني عبد الرحيم (مؤسسة إنعاش) وسلمى اليسير (معهد الدراسات الفلسطينية) ورائدة طه (ممثلة ـ مؤسسة خليل السكاكيني) وسعاد العامري (مؤلّفة ـ مركز رواق) وغيرهن ممن نسجن معا حكاية مشتّتة عن فلسطين وربطنها بخيط واحد هو الثّوب المطرّز.
كل امرأة تحكي عن قطعة تطريز تختارها، تحكي عن نفسها قبل ذلك، وبعده تسرد حكاية عن علاقتها بالتطريز، علاقتها بفلسطين، بهويّتها، وكانت للعديد منهن علاقات إمّا تتخللها انقطاعات عن فلسطين، أو أنّها علاقة منقطعة تماما، كاللاجئات منهن، وجُمعت الشّهادات، ببحوث ومونتاج، لتأتي بحكاية واحدة لها ألوانها وتطريزاتها.
اختيار النّساء كان عنصرا أساسيا في بناء محتوى هذا الوثائقي، لا لتنوّع المجتمعات والطبقات والاختصاصات التي أتين منها وحسب، إنّما لأنّ لكل منهن مشروعا قائما في كيفية الحفاظ على هذه الهوية، دون أن يكون المشروع مرتبطا بالتطريز بالضّرورة، وهذا ما يضفي تنوّعا آخر على الحديث عن التطريز، كنّ نساء فلسطينيات فيهنّ المطرِّزة وفيهن المناضلة وفيهن الأديبة…
لكن هذه «الجمعيّة» في حكاياتهن، لا تنفي «الفردية» في حكاية كل منهن، فكل امرأة في الوثائقي تبدأ بالتعريف عن نفسها، من والديها ومكان ولادتها وعيشها إلى مهنتها الحالية واهتمامها بالتطريز، أو حكاية خاصة لها مع ثوب محدّد، لتأخذ الحكايات الفردية شكلا أوسع من المعنى المباشر لدى الساردة، شكلا أكثر جمعية يجعل الحكاية هذه، الفردية، مكوِّنا لحكاية شعب نُقلت على ألسن النّساء منه، وقد حملنَ معانيه، تماما كما يكون الخيط مكوِّنا للثوب الفلسطيني وتطريزه، إلى جانب غيره، وتماما كما يحمل التطريز هوية الشعب الفلسطيني من جيل لآخر على أصابع النّساء منه.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *