الجبانة

خاص- ثقافات

*سيومي خليل

دلفتُ من وسَط المقبرة التي تًُجانب الطريق المؤدي إلى دَار القايد سي عيسى .نفس المقبرة التي كانت تَتَبدى لي، وأنَا أتسور اعدادية واد الذهب ، امتدادَا عظيماَ من الشواهد البيضاء والرّخَامية . حينهَا لم تكن لي أدنَى جرأة أن أَهمَّ جهتهَا ، فقد اعتقدتُ أنّ في قلبها سَاكنة يَرغبون برَاحة تامة ، يمكن حين تنقص ليد أحدهم أن تخرج منزعجة بغتة كي تَصْفع قفَا شَخص متطفل . أراها من بعيد لا غَير ، وأتخيل اللحظة الأخيرة التي يُزيل فيهَا الميت عنه الكفَن ، ويبتَسم في وجه المعزيين ،غامزا إيَاهم ، قائلا ..لن تتأخروا علي كل حال .

زرت المقبرة أولَ مَرة مع نجمة ، هذه النّجمة حتى بعد غياباها الآن مَازالت تُضيء . كنتُ أمْشي مع الوالدة بين القبور باحثَين عن شاهد قبر والدتها . كان اليوم السَابع والعشرون من رمضان ، العَوائل جميعهَا تبْحث عنْ أبواب الرحمة التي يُقال أنها تفتح على عجل في السّماء في هذا اليوم . والدتي هي الأخْرى كانت تبحث عنْ باب ترسل من خلاله أدعية بسيطة جدّا لوالدتها . كَثرَت المقَابر ، وَجدتي كَانت ممن قضوا قديما ، وممن بَدّدت الرياح شاهد قبرهَا ، وحطّمت عَاديات الزمن سَكنها الأُخرَوي ، فلم تَتذكر الوالدة القَبر ، الطّرق التي كانت تسلكها والمرسومَة على لوحة ذاكرتهَا فَقَدت أسْماءها ، وتداخلت مَعالمها ، مرة تَقول هنا ، ومرة تقول لاشَك أنّ عُنوان والدتي هنا . كَانت لي مهمة قراءة شواهد القبور ، أنْحني على قبر ، وأبدأ باسماع والدتي …المرحوم ..توفي سَنة ..كل نفس ذائقة الموت . أَعدت القرَاءة مرات كثيرة ،والشواهد التي كُنت أقرأ أسْماءها بَدت لي أنها كانت تَنْبت منْ جديد أمامي .

فجأة تَوقفت والدتي عند قبر وَاطئ ،كان شَاهده صخرة عليها كتَابة غير واضحة مسمارية أو تَعُود لحضارة قبل العصر الجليدي ، لمْ يكن الشاهد رخَاما ، أو زليجا ، ولم تظهر تلك الكتابات اللامعة والبَراقة التي صار لها حرفيون وفنانون . وقفتْ ، وفتحتْ يديها في وضع الدّعاء ؛ لم تُبعد اليدين عن بطنها إلا بمقْدار بسيط يمكن أن يدخل منه النور الذي يَنبعث من قبر والدتهَا . لمْ أسأل كيفَ عَرفت الوالدة أن ذَلك قبر جدتي ؟ فمَادامت قرَأتْ أدعيتها البسيطة التي كانْ كُل أولاَدها يُحفظونها لهَا دُون أن تتذكر منهاَ إلاَّ النَزر القليل – كأنّها كانَت تُشير إلى أنْ الدعَاء دعاء القلب لا القول -على ذلك القبر فهو قبر والدتها ، وحتى وإنْ كانَ عمَليا ليس قبر أمها فَمجرد وقوفها هُناك يُعتبر وقوفا على قبر أمهَا ، فحين تكون القبور مُتَشابهة وغير مختلفَة يُعتبر أي واحد منها هو الآخر ، ويُعتبر زائر يَقف على شَاهد هنا ، هو نفْسه ذاك الذي يَقف علَى شاهد هناك . سَأترك الوالدة في حديثهَا السري مع والدتها ، سأتركُهما يَتَحدثان عن أسرار النساء ، وآلامهن ، وآفات الأبنَاء الجاحدين …

سأتركها وأُلاحق قطع الشريحة والتمر التي كان يُوزعها زائروا المقبرة . استطعت بعد دقائق أنْ أجْمع كيسَا كبيرا من الشريحة البلدية والتمور الرخيصة . جلست على سور قبر رخامي أخضر ، ونَسيتُ أني صَائم ، رميت قطعة شريحة أولى ، ثم ثانية ؛ الأكل عنْد رُؤوس الأموات له طعم يُمكن وصفه بلا طعم …لم آكل بعدها عطايَا الأموات ، سواء مَايسمى *بالعشا* ، أو مَا يقدمونه عند زيارات القُبور، فالأحياء عليهم ألا يأكلوا أشياء الأمواتْ . كَانت تلكَ مَرتي الأولى التي أكلت فيها عطية ميت وَنَسيت فيها أني صَائم ، حين تَذكرت ذلك ، تَفلتُ ما بجَوفي بسُرعة ، وبدأت أكرر خائفا ، وأرَى في السمَاء:

– وحق الله حتى نسيت اسيدي ربي عافاك متعذبنيش.

بالأمس حين دلفتُ من وسط المقبرة تذكرت أشيَاء كثيرة. تذكرت أننا لا نعتني ببعض أحياء ولا نعتني ببعض ونحنُ أموات ، فالمقبرة كانت أرض خَراب لولا الأعشاب الجميلة والخضراء التي جعلت لها مَنْظرا ربيعيا زاهيا . القبور متداخلة بعضها بعضا ، ولا تقع في خُطوط مستقيمة بل منحرفة انحرافات غير مفهومة . لا وجود لفراغات بين القبور ولو بَسيطة يمر منهَا الزَّائرون . السور الذي يحيط بها تَهَدم منْ بعض جهاته ، وحتى وإنْ لم يَتهدم فلا يمكن اعتباره سورا . الأسوأ أن الطريق الذي يلي الباب الرّئيسي الذي يدخل منه المعزون والزوار ، والذي من المفروض أنْ يَبْقى طريقا فقط ، تَحول إلى مقَابر هو الآخر ، فقد بدأتْ بعض القبور تتوسطه .

صراحة لم أدلف بالأَمْس من وسْط مقبرة ، بل دلفت من وسط أرض بها أكوام تراب عليها شواهد فْقط .

تذكرت أيضا مَقبرة يهود آسفي التي تحادي بيرو عراب وتقع علَى الطريق المؤدي إلى بابْ الشّعبة ؛ هناك سور كبير يحيط بالمقبرة ، وهناك باب حديدي يفتح ويغلق على الأمْوات ، وحين تَدخلها تشعر أنّ نظَامَا ما يسكن مع الأموات .
هناك قاعدة بَعد كل هذا الكلام تقول :

إن كنّا لن نعيش بنظام
فلا يهم أن نموت بنظَام أو بغير نظام .

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *