الحرب في سرير الشعر

*جمال القصاص

ماذا تفعل شاعرة سورية، تحاصرها أهوال الحرب والخراب وصور القتلى والجرحى ومشاهد النازحين عن ديارهم قصراً، سوى أن تسمي ديوانها الجديد «رأسي مقبرة جماعية»، موحدة بين رمزية الرأس كوعاء للذكريات والمشاعر والأحلام والرؤى على مستوى الذات الشاعرة، وبينها كعقل مكون ومدبر لوجدان الوطن وطموحه في التحرر والجمال والحرية والعدل.
تلوِّن هذه المأساة قصائد ديوان الشاعرة السورية صبا قاسم الصادر حديثاً عن دار التكوين، وتحولها إلى مرثية للماضي والحاضر والمستقبل، فكل خيوط الوعي المتصلة بالعقل تشوهت وتفتت، وأصابت القلب والروح بالعطب والذهول، ولم يبق سوى صرخة مكلومة، تكتبها الشاعرة على جدار الزمن قائلة: «الحب في بلادي كحبوب منع الطفولة، تحت لسان عجوز»؛ متسائلة، في حيرة ذابلة معجونة بالحسرة والحرمان: «لا أعقاب سجائر في رأسي، من أين يأتي هذا الدخان كله؟!».
لم ترد الشاعرة الشيء كما هو خالصاً في سمته الوجودي الطبيعي، وإنما أصبحت تتمنى التمسح ولو بظلاله وبقاياه وأعقابه… فالحرب تملأ فراغاً، تتجول في الشقوق والجدران، تسبق اللغة والصورة والرمز، كما أن الشعر لم يعد ابن المعرفة والخيال، لم يعد ابن الفرح والضعف الإنساني النبيل، إنه طاقة حلم أصبح لا يجد فرصاً للتنفس في المكان والزمان، ولا يصادف ومضة روح تنتشله، وتشده لأعلى، بعيداً عن ركام الخراب والدمار، في الداخل والخارج معاً.
في ظل كل هذا يصبح الوجود عبثياً، لا تفلح السخرية منه، بل تتعايش معه اضطراراً، في صورة كائنات وأشياء ورقية مصمتة، لا نبض فيها ولا حياة. وهو ما تعبر عنه الشاعرة في مستهل الديوان:
«أفكارها أثداء مهترئة من شدة التعب
لا تُفرخ إلا في المواسم الملتهبة
لم تكن عربتي رغبة تجرها الكلاب
لا تنبح إلا في الأوقات الباردة
وتسأل الريح
بأي ذنب هدأت؟»
تظلل فكرة النبوءة المزيفة والكرتونية أغلب قصائد الديوان، وتتبادل مع الذات الأدوار والأقنعة والأسئلة، لكنها أسئلة هشة مبتورة، مسكونة بمرارة الفقد والضياع، حتى أن الحب لم يعد تعبيراً عن براءة الروح وعفويتها، إنما أصبح صدى مرتجفاً لرغبات مقموعة ومطاردة وخائفة، محاصراً في ظله وفي نبضاته المسكونة دائماً بشبح الموت، مثلما تقول الشاعرة في نص بعنوان «حب»: «لم يحبها – أحبَّ موتاه ينطقون بلسانها- أحبَّ رغبات تتلوى مثل سمك طائر- أحبَّ جراحه في أعشابها- أحبَّ الموتَ يهربُ من العفن».
وفيما يشبه السباق مع الموت تلجأ الشاعرة إلى اللطشات الشعرية الخاطفة، تتخذها مداراً لفعل شعري لاهث، وعبر نصوص لا تتجاوز بضعة أسطر، تحاول من خلالها أن تقتنص المشهد والحالة واللقطة، أن تصل إلى نقطة النهاية، قبل أن يسبقها الموت إلى ذلك، في شكل قنبلة وصاروخ، أو عربة مفخخة… كما تشير هذه النصوص ومن بينها:
الخوفُ جسدٌ مبللٌ بالدم
كلما لُمسَ خرجتْ روائحُ الموتى
>>
على هذه الأرض أشجارٌ
كمثل الأمهات
تتساقط أوراقهن
طفلاً… طفلاً
>>
جراحنا مدنٌ منكوبة
كُتبَ على بواباتها:
ممنوع التصوير
>>
سوريا صبيّة
غادرتْ شهوات الكتب
وبقيت سيوف الأنبياء في عنقها
دمها كأسٌ ضالة
شربته الأرض.
مائة وسبع صفحات معجونة بهذا الوجع حتى النخاع في هذا الديوان، لكن ما الذي ينقذ الشعر والشاعرة من مطحنة هذه الواقع، لا شيء سوى التشبث بإرادة الحياة، بتنفس الأمل، ولو في لعبة طفلة فرت من بين الأنقاض… على اللغة أن تبقى هنا أعلى من سقف المأساة… الشعر يكره الحرب، وعلى الخيال ألا يملك فقط المقدرة على معرفة تفاصيل المشهد، بل أيضاً المقدرة على تخطيه وتجاوزه، ونسيانه أحياناً، لأنه مشهد دام وموجع ومرعب، انتحرت فيه أصوات الماضي والحاضر. وأصبح المستقبل مجرد شرخ في جدار آيل للسقوط، مجرد صرخة في مسرحية هزلية، اختلطت فيها خيوط الإدانة والبراءة… تجسد الشاعرة هذا المعنى في قصيدة بعنوان «ثكلى» تقول فيها وعبر ضمير «أنا» المتكلم المتحدية:
«أريد لهذا الحجر أن ينطق
أي ماء بعد الآن سيجري في عيونكم
أي مساء يعد هذا النهار
سينام على حواف قبوركم؟!
أريد لهذه الوجوه أن تعيد الأقنعة
لا مكان للصمت
على هذا المسرح».
على ذلك، تجري اللغة في الديوان مجرى الدم، تعلق فيها الأحلام والرؤى والذكريات كرصاصة طائشة، وكابوس يحاصر الذات في أبسط مشاعرها وانفعالاتها. لذلك انكمشت المسافة بين الدال والمدلول، بين الحضور والغياب، بين الحلم والواقع، في ظل وعي مجهد وممزق، أصبح لا يعرف سوى صورة واحدة يحتفظ بها للماضي والحاضر والغد، إنها صورة الدم وأشلاء الضحايا، أصبحت تسكن الشوارع والبيوت المهجورة، بل تسكن الدموع أيضاً، التي تشبها الشاعرة بالموتى قائلة: «فالدموع أموات، يشيعون أنفسهم بأحزاننا»، كما أن المقابر من كثرتها اختلطت صورها وروائحها برائحة العشاق… هكذا أيضاً تقول: «حين يكون التراب من شيم القبور، تصبح القبور مضاجعَ حبّ، تمارس لحم الفقراء بالتقسيط». إنه إذن قانون الحرب، تتجدد فواجعها كل ليلة، مثل حفلة تنكرية على مسرح الوطن: «الحرب حفلة تنكرية، يرتدي الأحياء فيها زى الأموات، ويخرج الأموات فيها على هيئة آلهة».
في هذا الفضاء المأساوي لا تفتعل الذات الشاعرة قصائدها، لا تقيم حواجز وفواصل بينها، وبين ما تعيشه وتلمسه وتحسه بالفعل… تكتب بعصب عار، تلتصق حتى بمساحات الفراغ الموحش حولها وفي الداخل أيضاً، لتؤكد أن الحياة يمكن أن تنهض من جديد من بين الخراب، يمكن أن تصبح القصيدة مأوى وبيتاً للذات والحلم معاً، يطالعنا هذا في نص لافت بعنوان «سرير»، في ختام الديوان تقول فيه:
«لن أكتفي بسرير اللغة
تمرجح قوائمُهُ بضعَ نقاط مؤبّدة
ولن أكتفي بمراجيحَ رشيقة
تحركها نفحة صغيرة
في أذنها الموسيقية

في خزانتي كثير من أقلام التخطيط
ليس لمستقبل ابتسامة
بل لشفاهٍ تعود وتطفو
على وجه حبٍّ
حي جداً
وقريبٍ كالعطر
من عنق عاشقة».
هكذا تكتب الشاعرة صبا قاسم، بحرقة من قلب العاصفة، متمردة على سرير اللغة، بعدما شاخت أرجله، واحترقت وسائده وملاءته، وأطاحت به الحرب في الركام، منحازة لوجعها وحزنها على وطن أصبح أضيق من قبضة سؤال لاهث، لا يعرف من أي قبر يمكن أن يلتمس الإجابة.
__________
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *