علم الكلام والحياة الروحية (2)

خاص- ثقافات

*عبدالجبار الرفاعي

القرآنُ الكريم كتابٌ لا يكفُّ عن مخاطبةِ العاطفة مثلما يخاطب العقل، ويهتف بايقاظِ الروحِ والقلبِ البشري، فهو يثير مشاعرَ الإنسان، ويستعمل في إيقاظِ القلب والروح أساليبَ متنوعة، فتارةً يتوسّل بقصصِ النبوات السابقة، ويشرح طبائعَ مجتمعاتها، وأخرى يضرب الأمثال، وثالثةً يوجّه الخطابَ ببيانٍ يتكثّف فيه الترغيبُ والوعدُ بالفوز والنجاة، ورابعةً يعلن فيه الإنذارَ والإشارةَ إلى مصائرِ ومآلاتِ الأشرار وعاقبتهم .. إلخ.
يوصل القرآنُ الدنيا بالآخرة بلغةٍ موحيةٍ تخاطب أحاسيسَ وأشواقَ الإنسان، مشدّداً على تأبيدِ الحياة، بوصف الدنيا والآخرة كلَّها حياة، رغم تعدّد أطوارِها الوجودية. وهو في كلِّ ذلك لا يكفُّ عن نعتِ الإنسانِ بوصفه خليفةً مكرماً لله.
لم ترد آياتُ القرآنِ بأسلوبٍ رياضي أو منطقي أو فلسفي أو علمي، ولم يتحدّث القرآنُ وكأنه كتابٌ في العلم أو الفلسفة أو المنطق أو الرياضيات، نعم هو كتابٌ لا يخلو من محاججات ونقاشات متنوعة، لكنها تنتظم في سياقِ آياته، بنحو يتعاطى فيه مع انفعالاتِ وأحاسيسِ النفس البشرية ببيانٍ يتغلغلُ في أعماقِ روحِ وقلبِ المؤمن، ويحرص على إيقاظِه وتجديدِ صلتِه بالله على الدوام.
في حين لا يهتم علمُ الكلام القديم بالروحِ والقلب، ولا ينفكّ عن إغراقِ عقلِ المسلم بجدالاتٍ ومحاججاتٍ ذهنيةٍ تجريدية، لا تستند إلى بديهيات، بل تحيل غالباً إلى فرضياتٍ ومسلماتٍ غيرِ مبرهنة.كذلك لا تتعاطى مقولاتُ الكلام مع الإنسانِ بوصفه خليفةَ الله المكرّم، ولا تفصح عن تجلى الله فيه بما لم يتجلَّ في سواه من مخلوقاتِه.
لذلك انبثق التصوّفُ كردّ فعلٍ على ما طغى في علمِ الكلام من نسيانِه للذات الفردية، ولمقامِ الإنسانِ في العالم ، وتغييبِ أبرز حوافز سلوكه العميقة، وتجاهلِ ما هو الأهمّ في أعماقه، فقد حاول المتصوفةُ إنقاذَ مشاعرِ المسلم وإيقاظَ عاطفته من خلالِ استلهام الأفق الروحي والعاطفي في آيات القرآن، وكشفِ ما تشي به من قيمٍ روحية وروافدَ عاطفية ومفاهيمَ أخلاقية.
نعم، تورّطَ الكثيرُ من المتصوّفةِ بمتاهات غرائبية، فانفصلوا عن العالم، وانكفؤوا داخلَ عالمهم الذي خلقوه لأنفسِهم، وتفشّتْ فيه سلسلةُ تقاليدٍ وبروتوكولات، تلاشتْ معها فرديةُ المتصوّف، وانقلبتْ وظيفةُ التصوّف، إذ إنه بدلاً من أن يكون مسعىً ينشد استردادَ الذات المهدورة، انتهى إلى عبوديةٍ وصنميةٍ لأقطابِ وشيوخِ التصوّفِ، والصنميةِ مهما كانت تهدر الذاتَ وتهشّمها، إذ يتحوّل معها الإنسانُ شبحاً، تُمحى في شخصيتِه كلُّ ملامِحه الخاصة. الصنميةُ عبوديةٌ مهما كان نمطُ الصنم، حتى في الحب؛ حين يصبح المحبوبُ صنماً يغدو المحبُّ عبداً. وحين (يتعامل المُريدون مع شيخ الطريقة بوصفه صنماً، تنطفئ الشعلة في أرواحهم، ويمسون رقيقاً لا يمتلكون شيئاً من ذاتهم، فيما يمتلك مشايخهم كل شئ في حياتهم. هنا تنقلب وظيفة التصوف، بوصفها امتلاكاً للذات عبر وصالها بالحق تعالى، والاستغناء عن كلّ شئ سواه، إلى عبودية مُهينة ممسوخة لمشايخ الطرق الصوفية..الله يدعونا إلى التوحيد، وأن لا نتخذ أحداً من دون الله إلهاً، ولن نعبد سواه أبداً) .
مضافًا إلى أن التصوّفَ العملي “الطرقي” تحوّل بمرور الزمن إلى ضربٍ من الزهد الهاربِ من الحياة، القابعِ في الزوايا والخانقاهات، والحائرِ بمواقفِه المشوّشةِ للواقع، ورؤيتِه المتشائمةِ للعالَم، والمختنقِ بضيقِ أفق بعض أحكام مدونة الفقه، والذي يفتقر لوعي يقظٍ يحرّره من أسوارِ مدوّنةِ المتكلمين، فانقلبَ التصوفُ من كونِه توقًا لحرّيةِ الإنسانِ واستعادةً لذاتِه المهدورة، ومسعىً لخلاصِ روحه وإنقاذِها من متاهاتِ علم الكلام وحرفيةِ الفقه، إلى كلِّ ما هو على الضدّ من ذلك، فأضحى المتصوّفُ مستلبًا خانعًا ذليلًا عاجزًا، غائبًا عن ذاته قبل غيابه عن الحياة والعالَم الذي يعيش فيه، بل صار يتلاعبُ بمشاعره أحيانًا بعضُ المحتالين المشعوذين ممن يزعمون أنهم ورثةٌ للشخصياتِ الأصيلة الملهمةِ للروح والموحيةِ لأجمل المعاني الإنسانية في الحياة.
إلّا أن التصوّفَ الفلسفي “المعرفي” أنجز مدونةً غزيرة غنية، يمكن الإفادةَ من شيء من مفاهيمِها في إعادةِ الاعتبار للذات البشرية المستلَبة في علم الكلام القديم، وإعادةِ تفسيرِ مكانةِ الإنسان في العالم، وبيان ِكلٍّ من مساراتِ القلب والعقل، وكيف أنهما مساران لا يتطابقان بالضرورة، وأن المنطقَ العقلي الكلامي أهمل الكشفَ عن الجذور النفسية للاعتقاد، وأخفق في التعرف على: أن الايمانَ حالةٌ تعاش لا فكرة تناقش، وأن الإيمانَ ضربٌ من التوق أو الانجذاب أو العشق، وكلُّ توقٍ وانجذابٍ وعشقٍ وحماسة، وأن التشبثَ بأدلةِ المتكلمين لا يوقد القلب، ولا يكشف عمّا تختزنه العواطف، ولا يتوغل في أشواقِ الروح.
إن النصوصَ المقدّسةَ تهتم كثيراً بالعاطفة، وتشدّد على نداءِ القلب، وصوتِ الضمير، وإيقاظِ الروح، وكأنها تؤشر إلى أن منطقَ العواطف والمشاعر والروح والقلب، لا يتطابق ومنطقَ العقل دائماً. نعم، العقلُ يشرح لنا ما تبوح به، فيخبرنا عن انقباض وانبساط العاطفة والقلب والروح. وتلك مهمةٌ نهض بها التصوّفُ المعرفي، الذي (هو تصوف عقلي، خرج على الأنساق المغلقة الحرفية لقراءة النصوص الدينية، وأنتج قراءة لها خارج إطار مناهج وأدوات القراءة والفهم والنظر والتفكير الموروثة، التي اخترعها الشافعي والأشعري وغيرهما، ثم ترسخت بمرور الزمن، حتى ارتقت الى مرتبة المقدس، واحتلت مكانة النصوص المقدسة التي تقرؤها هذه الأدوات. لقد منح هذا النمط من التصوف المسلم أفقاً رحبا في التأويل، وإنتاج قراءات تتوالد منها على الدوام قراءات حية، في فضاء يُلهم الحياة الروحية الأخلاقية للمسلم.كذلك استطاع هذا النمط من التصوف الخلاصَ من توثين الحروف وإهدار المقاصد، والتمسك بالأشكال ونسيان المضامين، والغفلة عن الحالات والغرق في الصفات.كما أعاد التصوف المعرفي الاعتبار للذات المستلبة، والعالم الجواني المطموس للشخص البشري، وعبّد دروب القلب في رحلته الأبدية نحو الحق، وانشغل بإرواء ظمأ الروح للمقدس).

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *