الهولوكوست والحداثة

خاص- ثقافات

*سعيد الشيخ

منذ أن وضعت الحرب العالمية أوزارها انشغلت القارة الأوروبية وخاصة الدول المنتصرة منها بوضع قوانين حديثة طالت كل عصب الحياة الجديدة، حيث شهد العالم تغييرات طالت حتى الخرائط؛ بيد أن دولاً أزيلت من الوجود وأخرى قامت على أنقاضها وعلى ما قضم منها. ولم تكن المعايير خاضعة لتوجهات إنسانية إلا بقدر كيف كانت هذه الدول المنتصرة ترى العالم الجديد حسب مصالحها.

كانت الأخلاقية في هذه الحداثة عوراء منذ البداية تقوم على معايير غير متكافئة وتكيل المسائل بمكيالين حتى أنهم اخترعوا أساطير ونفخوا بها ليتسنى لاحقا تمرير مشاريع في باطنها فظائع تفوق ما ورد في محتوى أساطيرهم.

لم يكن ما سمي بـ “الهولوكوست” وهي كلمة يونانية تعني الموت حرقاً وشواه بالعبرية، إلا إحدى هذه الأساطير التي اخترعت لتبرر تأسيس قيام دولة “إسرائيل” على أراضي الشعب الفلسطيني. كمكافأة وتعويض لليهود بهذا الوطن تحت ستار إنساني وبكثير من التعاطف الأوروبي على ما تم زعمه بمبالغة من عمليات قتل وإبادة ممنهجة لحقت بيهود أوروبا على يد الجيش النازي وحلفائه. إلا أنّ الكثير من الشكوك ظلّت تحوم حول روايات محارق اليهود أو أعداد الضحايا، وأكثر هذه الشكوك كانت تأتي من المفكرين والباحثين والمؤرخين والحقوقيين الأميركيين أمثال: المحامي  فرانسز باركر يوكي الذي وضع أول كتاب في هذا المضمار عام 1962 تحت عنوان “الحكم المطلق” أنكر فيه حدوث “الهولوكوست” من أساسه. ثم تبعه المؤرخ المشهور هاري ايلمر بارنيس وقد اتبع نهج يوكي في التشكيك بالمحرقة. وتلاهما من أمريكا المؤرخين جيمس مارتن وويلس كارتو.

وفي الستينيات أيضا وفي فرنسا قام المؤرخ الفرنسي بول راسنييه بنشر كتابه “دراما اليهود الأوروبيين”، ومما زاد الأمر إثارة هذه المرة أن راسنييه نفسه كان مسجونا في المعتقلات الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية ولكنه أنكر عمليات الهولوكوست . وفي عام  1974قام الصحفي الكندي من أصل بريطاني ريتشارد فيرال بنشر كتابه “أحقا مات 6 ملايين” وحوكم عليه وتم استبعاده من كندا بقرار من المحكمة الكندية العليا عام 1992.

في التسعينيات من القرن الماضي يظهر كتاب آخر أشد دقة من ناحية المصادر والتحليل المنطقي والتسلسل الزمني في إنكار الهولوكوست. إنه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” للفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي . يتحدث عن مجموعة من الأساطير بُنيت عليها السياسة الإسرائيلية من بينها “أسطورة الهولوكوست”، فيعرض الكاتب مجموعة من الحقائق العلمية والتاريخية لا تسمح بقول انه كانت هناك غرفا للغاز من أجل قتل الناس، وأن عدد 6 ملايين مبالغ فيه جداّ، ويتحدث الكتاب عن الدور الفعال للوبي اليهودي في الولايات المتحدة في الترويج لما يُسمى الهولوكوست.

ويوجد اليوم الكثير من الكتب والمنشورات التي تذهب في سياق نكران حدوث المحرقة أصلاً أو تلقي الضوء بحسابات منطقية تفند حيثيات قصص طالها الكثير من المبالغة في إحداثياتها وأعداد ضحاياها.

والجدير بالذكر أن جميع من كتبوا في اتجاه نكران حدوث المحرقة أو الذين انتقدوا حملات “البروباغندا” التي تدور حولها، قد لوحقوا من قبل المحاكم الأوروبية كمجرمين اخترقوا القوانين التي سنتها دول القارة المنتصرة ولحقتها بعض الدول تملقاً ونفاقا ولتحقيق مصالح. حيث تمنع هذه القوانين المسّ برواية الهولوكوست أو التشكيك بها أو نكرانها، ودعّمت هذه القوانين بقانون آخر هو العداء للسامية لكلّ من يتناول اليهود بالانتقاد.

أن سنّ هذه القوانين كان من أجل تأبيد الأسطورة في الوعي الأوروبي وهو ما يتنافى بشدة مع توجهات الحداثة التي طالت كل مرافق الحياة الأوروبية إلى يومنا هذا.

أن مفهوم الحداثة يفرض صورة جديدة للإنسان خاصة فيما يتعلق بوعيه وفكره، وإذا وضعنا الهولوكوست في هذا الميزان الحداثي فإن رائحة الأسطورة المضللة ستزكم الأنوف، والفضيحة ستكون ماثلة في نشوء دولة “إسرائيل” على أرض فلسطين حيث استعملت العصابات الصهيونية المسلحة نفس الأساليب النازية في طرد السكان الأصليين من ديارهم، حرق القرى ونسف البيوت وإقامة المعتقلات وارتكاب المجازر لترويع السكان بغية طردهم إلى خارج الحدود.

وقد أكد الكثير من المفكرين النازيين من أمثال المنظر النازي “روزن بر” على إعجابهم بالفكر الصهيوني لتماثله
مع الفكر النازي، خصوصاً فيما يتعلق بتفوق العرق وعدم القدرة على التعايش مع الأعراق الأخرى. وهذا ما يسهّل فهم دعوة الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لاعتراف الفلسطينيين بدولة إسرائيل كدولة يهودية خالصة كشرط لتحقيق السلام، وهذا ما يرفضه الفلسطينيون حتى الآن ويطالبون بحل الصراع على أرض فلسطين بقيام دولتين لليهود وللفلسطينيين بكافة طوائفهم.

في بدايات القرن الجاري وفي إبّان الانتفاضة الثانية التي سميت بانتفاضة الأقصى ظهر على التلفزيون السويدي رئيس الوزراء السويدي الأسبق “انغفار كارلسون” ليعلن أمام مشاهد قتل جنود الاحتلال الصهيوني لأطفال يرجمون الجنود بالحجارة جملته الشهيرة” لا يجوز، لتكن أعداد ضحاياهم عشرات الملايين وليس سته في المحرقة، فلا يجوز قتل شعب آخر في الشوارع بهذه الطريقة المتوحشة”.

كانت جرأة أن تطلق السويد هذا الموقف الرسمي على لسان رئيس وزراءها آنذاك، وهو الموقف الذي كان على أوروبا مجتمعة أن تتلقفه وتتبناه نصرة لحداثتها وفكرها النهضوي الذي سيحررها من غياهب الأساطير.

ولعل الموقف الجديد الذي اتخذه البرلمان البولندي مؤخراً كقانون يبرئ بولندا من محارق اليهود، هو خطوة في الطريق الصحيح وللخلاص من عقدة تأنيب الضمير التي بنيت بكثير من الخضوع للبروباغندا الصهيونية، وقد أيّد وزير الخارجية الألمانية هذا القرار، فيما بدأت أمريكا بإطلاق تهديداتها واعتبار أنّ هكذا قرار سيضر بالمصالح الاقتصادية لبولندا.

فهل تفعلها ألمانيا وتراجع تاريخها وتنتصر لحداثتها خلاصاً من الدعاية والأساطير الصهيونية؟!

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *