ما يريده الأدباء

*أمير تاج السر

منذ فترة قليلة، رحل الكاتب المصري صبري موسى، صاحب رواية «فساد الأمكنة»، الممتعة، الغريبة في أحداثها، التي تدور في بيئة لم تكن مكتشفة، ولا تزال غامضة إلى الآن، رغم بلاغة نصه، والسياحة المعرفية التي وفرها للقارئ هناك في جبل الدرهيب، بجانب عنصر الحكي والشخصيات.
أيضا كتب صبري رواية «حادث النص متر» و«السيد من حقل السبانخ» التي هي بمثابة خيال أدبي، وتبدو نواة لما كتب بعدها في أدب الخيال. رحل صبري موسى، بعد أن عاش عمرا جيدا، وكتب تجربة جيدة، وفقط لم يكن منتظما في الكتابة، بمعنى أنه لم يكتب باستمرار، ويترك مكتبة كبيرة من المؤلفات مثلما فعل نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس، وإن كانت أعماله القليلة، تعد علامات بارزة في الكتابة العربية، ولا أظنه كان يحتاج لمشروع كبير من أجل أن تتبلور طريقته الخاصة المدهشة، والموضوع في النهاية أشبه بإنجاب الأطفال، هناك من ينجب أطفالا كثيرين، ولا تجد فيهم نخوة، ومن ينجب طفلا أو طفلين، يحملان صفات الفخر كلها.
لقد رحل صبري موسى، وكتب كثيرون عبارات العزاء والترحم، وبتنا جميعا نستذكر أعماله التي قرأناها في فترة من الفترات، وفينا من أعاد قراءتها مرات عدة، وجاء آخرون يتحدثون عن تذكر الناس للأديب بعد أن يرحل، بينما يكون موجودا بينهم طوال عمره، ولا يسعى للاحتفاء به أحد. إنها واحدة من القراءات المألوفة التي تأتي مباشرة بعد رحيل الأديب: لوم القراء والمثقفين لأنهم أهملوا المبدع حين كان يتنفس بينهم، لوم السلطات لأنها لم تكرم من مات، حين كان ممتلئا بالحياة، وقد يسعد بالتكريم، وهكذا، يتجول المغص بين الرثاء، ولوم الراثين، ولا يحصل الأديب الميت على أي إضافة أو إنعاش يعيده إلى حياة انتهت برحيله عنها.
حقيقة أعتبر الكتابة الإبداعية مشروعا اختياريا، أي أن الذي يجلس ليكتب شعرا أو قصة أو رواية أو مسرحا، وينشر أو يعرض ما كتب على الآخرين، يعي تماما، أنه يستخدم وقته الخاص، وما لمّه من معارف من هنا وهناك، وأيضا أعصابه، إن كان من الذين يتوترون ساعة إنجاز الكتابة، يقول كثيرون، إنها موهبة يولد بها الإنسان ولا حيلة له فيها، وتقول النظريات الحديثة، إن الكتابة فيها موهبة يطورها البعض بالقراءة المتواصلة، وفيها أيضا صنعة يتعلمها البعض من التدريب والمحاولات المستمرة، حتى تصبح جزءا من الفعل اليومي، وهذا ما أعتقد فيه شخصيا، ويدعم ذلك أن كتابا كثيرين، لم يبدأوا فعل الكتابة إلا بعد أن شاخوا، أو تقاعدوا من وظائف دنيوية كانوا يشغلونها ويتقاضون عنها رواتب أعانتهم على الحياة، وهناك من حصل على جوائز من عمل روائي كتب بعد الستين، وكنت التقيت بأحد الذين نالوا جائزة عن رواية، كانت بمثابة سيرة حياة له، كتبها بخيرها وشرها، ولم يكن حتى وقت قريب قد عرف معنى الرواية أو شارك في أي نشاط يخصها، وحتى قراءاته في هذا المجال، كانت تلقائية، ومن أجل المتعة، وتزجية الوقت وليس الانتباه إلى تقنية، أو مطاردة مواقف أو جمل إبداعية داخل النص، ومحاولة كتابة ما يماثلها، ومثل هؤلاء قطعا كانوا سيكتبون صغارا جدا لو أن في الأمر موهبة، ليس ثمة طريقة لمقاومتها. والذي يتابع كثيرا من الكتاب اللامعين الآن، سيجد من تعرف على الكتابة الإبداعية بعد سن الثلاثين أو الأربعين، وأيضا لم يكن واعيا بوجود إبداع مكتوب قبل ذلك.
إذن المبدع، يسير في الطريق الذي يظن بأنه الطريق المعبد لخطواته، وقد يتحمل كثيرا من الحفر والنتوءات، من أجل أن يجد كتابه منشورا في دار نشر محترمة لم تنتزع منه جزءا من قوت أبنائه، وقطعا يسعده تعليق جيد، يصف كتابه بالمتميز والجميل، ويحبطه تعليق فج، يصف كتابه بالرديء، ودائما لا يوجد كسب مادي في أي حالة من الحالات، وأزعم أنه لا يوجد أي تطلع من المبدع صاحب خيار الكتابة، لأن تكرمه الدولة التي ينتمي إليها، وتمنحه الأوسمة، أو تنتقيه المحافل الدولية، وتناديه كل ما كانت ثمة فعالية تهتم بمجاله، ستقام. هو يكتب بطموح أن يعجب نتاجه القراء، وفي البداية أن تزهو معنوياته الخاصة بكتابته، ولا شيء آخر.
وعلى الرغم من ذلك هناك من يحصل على التكريم والأوسمة والجوائز التي تسعى لتأطير الإبداع، ومعظم الدول العربية لديها ما يسمى بالجوائز التشجيعية والتقديرية، وجوائز التفوق، وهي تمنح لمن تقرر اللجان الموضوعة لها، أنه يستحقها، وأعتقد أن صبري موسى، حصل على بعض هذه الجوائز التي تكرم إبداعه، إن لم أكن مخطئا، فأنا في العادة أهتم بما ينتجه الكاتب، بعيدا عن سيرة حياته.
وفي موضوع سيرة الحياة، أو السيرة الإنسانية للمبدعين يوجد كثير من النقاط التي طالما أحب أن تكون معتمة، حتى لا يؤثر ذلك على تلقي الإبداع، ودائما ترهقني رسائل من قراء تعرفوا على بعض ما كتبت، تسأل عن سيرة عائلتي، وكم عدد أفرادها، إن كنت متزوجا أم لا؟ وإن كان هناك من يقرأ أو يكتب غيري في تلك العائلة، وأرد بأن الحياة خيارات، والشقاء الكتابي اختيار كما ذكرت، ولا شيء يورث من هذه الأشياء، إلا نادرا.
هناك أشياء بسيطة جدا لا يسعى إليها المبدع الحقيقي أيضا، رغم أنه قد يكون قدم كثيرا، وغطى بإبداعه الدنيا، مثل أن يسمى شارع صغير باسمه، أو يطلق على ساحة خضراء في بلده اسمه أو اسم إحدى رواياته المهمة، هكذا، إنها أشياء عادية لكنها شديدة التوهج إن حدثت لأحد، ولن يكون عدم حدوثها شرخا، في أي حال من الأحوال.
نحن نودع برحيل الكاتب صبري موسى، كاتبا متميزا بالفعل، وفي الوقت نفسه نجد بدون أن نحس أننا استقبلنا عشرات الكــــتاب الجدد، الذين سيتجدد بهم الإبداع مؤكدا، وسيتولون السير في السكة التي أشددد بأنها اختيارية، وليست إجبارا في أي حال من الأحوال.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *