هل يمكن للإعلانات أن تكون فنا

*عمار المأمون

تمتلك المنتجات الفنية المرتبطة بالبوب أرت قيمة نقديّة تقف بوجه ما يسمى الفن “الراقي”، إذ تحمل في داخلها سواء على الصعيد الجمالي أو تقنية الإنتاج مفارقة ساخرة مرتبطة بالهيمنة الأكاديميّة على الفني والتي كانت تدّعي أنها تمثل جوهر الفنّ الخالص، إذ اعتمد رواد هذه الحركة وخصوصاً في الولايات المتحدة على أشكال التمثيل الفني المرتبطة بالشعبي واليومي إلى جانب توظيف الثقافة الجماهيرية والشعبيّة، وذلك للسخرية من مفهوم الفن بوصفه خلاصا روحيا من نوع ما، فالبوب أرت يتبنى الُمستهلك والمعاد إنتاجه وما هو متاح للجميع، ثم ينزعه من سياقه ويحوله إلى عمل فني.

يشهد متحف مايول في العاصمة الفرنسية باريس معرضا بعنوان “بوب أرت- أيقونات ذات قيمة” وذلك بالتعاون مع متحف ويتني للفن المعاصر في نيويورك، إذ تستضيف باريس أهم أعمال البوب أرت منذ منتصف القرن العشرين حتى الآن كلوحات أندي وارهول وجاسبر جونس وغيرهما، ويحوي المعرض ما يقارب الستين عملا من مقتنيات المتحف، والتي تنتمي إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية السبعينات.

الأعمال التي تحضر في المعرض تعكس تطور تاريخ حركة البوب أرت سواء على المستوى الفني بوصفها رد فعل على التجريدية التي انتشرت في تلك الفترة، أو على المستوى التقني حين استخدم ففنانو تلك المرحلة آليات تعبير مرتبطة بالمنتجات الجاهزة والإعلانات والمناشير، فهذه التقنيات وأشكال التمثيل تعكس الموقف النقدي من الواقع السياسي وأشكال الهيمنة الثقافية، عبر تجريد العمل الفني من مرجعيته سواء الساميّة والروحانيّة، والتركيز على ما صنعته الآلات والماكينات بأعداد هائلة، وذلك في سخرية من أشكال الإعلان والغواية الاستهلاكية التي يعيشها الفرد وتتحكم بجوانب حياته بل وتشكّل ذوقه في بعض الأحيان.

تتنوع الأعمال في المعرض سواء كانت لوحات أو منحوتات، وأغلبها تتبنى ما هو يومي واستهلاكي، أي أنها تحاكي نقديا تقنيات الإنتاج الصناعي ومنتجاته، هي لا تحاول أن تحاكي عوالم بعيدة أو فوقية، بل تشبه ما يحيط بنا بوصفه مستنسخا ومتوافرا، وذلك عبر إضافة ملامح أخرى لها أو تشويه سياقها كمنحوتة “بطاطا وكاتشب” لإدوارد روسكا، إذ لا أصالة في مجتمع الاستهلاك، كل شيء قابل للاستنساخ، وما يحرك المدن الكبرى وسكانها هو البضائع واستهلاكها، فهم غارقون بالمنتجات الثقافية والإعلانات وألوان النيون الزاهيّة والأجساد شبه العارية، فالبوب أرت يفضح تقنيات الغواية هذه منتقدا وحشية التعليب كلوحات “مارلين مونرو” و”جاكي كينيدي” لأندي وارهول، كما لا ينتقد الشكل الاستعراضي فقط، بل أيضا شروط الإنتاج اللا إنسانية التي تمتلك القدرة على تسليع حتى الجسد الإنساني وضبطه صناعيا ومعايرا وبيعه وخلق رد فعل مدروس واقتصادي كمنحوتة “محطة الباص” لجورج سيغال، وكأننا أمام ممارسة تخريبيّة للسياق اليومي الخاضع وكشف عيوبه وآليات صناعته.

تسائل أعمال البوب أرت الصيغة التواصلية التي تحملها الإعلانات والأعمال الفنية على حد سواء، فما نراه بريئا في البداية يخفي وراءه آليات التعبير والإنتاج المرتبطة بشكل سياسي واقتصادي ما، وهذا ما تسعى أعمال البوب أرت لانتقاده، إذ تشكك بأساليب التشفير وتعيد توليدها “الروائع الفنيّة” كمنحوتة روي ليشنشتاين “سمكة زينة في وعاء” التي تعتبر بارودي للوحة ماتيس “السمكات الحمراء”.

أن تشتري أي أن تكون كالآخرين، فجميعنا نستهلك لنكون متساوين، وكأن خلاصنا كأفراد يكمن في السلع سواء كانت أغراضا يومية أو أعمالا فنيّة، إذ تفضح أعمال البوب أرت آليات التشفير المستخدمة للتلاعب برغباتنا ومعتقداتنا، وإقناعنا بأن الظروف من حولنا طبيعية واعتيادية ولا سبيل لتغييرها.

_________
*العرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *