سيرة المنتهى عشتها.. كما اشتهتني

خاص- ثقافات

*بلقاسم الشايب

مجاز
” ينبغي للإنسان ألاّ يكتب إلاّ إذا تـرك بضعة من لحمه في الدّواة كلّما غمس فيها القلم” تولستوي.

“سيرة المنتهى.. عشتها كما اشتهتني” بنية رحمية لنص صادر عن دار الآداب/ ببيروت في طبعته الأولى للروائي واسيني الأعرج .. كعنوان يعلن أنه ليس نَصٌّا متخيَّلا أساساً وأوّلاً، ويقترح مفهوما خاصا لتدوين حياة شخص يُعبَر عنه بالسيرة الروائية..ويطرح تخمينين متوازيين هما:
أـ سيرة يغلب عنها الطابع الروائي.. كما نستشفّه من تقديم كلمة (سيرة) الذي يفيد الأهمية كما يرى النحاة..وهو ما يذكرنا بميثاق الشرف بين المرسل والمرسل إليه، الذي يتّخذ من معيار الصدق والكذب أداة مضافة في استكناه النص، على الرغم من أنّ الحقيقة ليست هاجس المتلقي بقدر ما هي هاجس الكاتب.
ب ـ رواية يغلب عليها الطابع السيري.. مثلما هو واضح من العنوان الفرعي،وكلاهما عاملان يتيحان مشروعية السؤال:
أيهما يتكئ على الآخر ؟
وحتى ولو كنا ندرك سلفا أنّ “السيرة الذاتية تظهر لنا في لبوس الحقيقة والرواية في لبوس الخيال” فإنّنا لم نلج إلى النص بعد، ولا نملك سوى تخمينا أوليا يفيد أنها امتداد للمنجز السردي لواسيني.. بتصنيف جديد (رواية سيرية) بناء على أن واسيني صاحب المنجز السردي الغزير عندما يريد أن يكتب سيرته فسيغلب عليها الطابع الروائي..أما الحقيقة المطلقة فهي لدى منشئ الكلام، فلن يعرف الفرق الجوهري بين الرواية والسيرة إلا كاتبهما.
وما نجزم به فقط هو أنّنا أمام استراتيجية خطابية تقترح ملاعبة بين الحقيقة والصدق؟.
وقبل أن نبحث في البنية الخاصّة للنسق اللغوي يجدر الإشارة إلى أن قراءتنا، ليس النص الأدبي (المصغر) وحده هو مدار الاهتمام فيها، فظروف إنتاج الجملة العنوانية وقصدية الكاتب كذلك عاملان مهمان في كشف خباياه، لأنّ قصدية العنوان “تتأسس على علاقته بخارجه سواء أكان واقعاً اجتماعياً أم نفسياً، وعلى علاقته بقصد الكاتب”1
يقول الآمدي “ّالمعنى الحرفي غير موجود، لأن المعنى غير متعلق بأوضاع الكلم فحسب، ولكن بقصد المتكلم وإرادتهّ”. لذا فسنفتح أفق السؤال حول ماهية المتن، عبر تفكيك العنوان وفي اعتبارنا أنه يؤم نصا ربما روائيا،(أُنتج في ظروف وحروف خاصة) والرواية كفنٍّ، هي حقل يستوعب كل المتغيرات.
تفكيك العنوان:
سيرة المتهى/ وعشتها/ كما أشتهي/ ونقاط الحذف التي هي الخبر.. إضافة إلى الضمير الذي أفاد الربط (الهاء متعلقة بكلمة السيرة ) علاوة على درء اللبس حول قصدية الكاتب من السيرة – أي أنها سيرته- وكذا التأكيد على ضمير ألانا الذي حتما سيكون الطاغي في الرواية، وهو ما يطرح فكرة البطل العالم كوجوب وجواز في السيرة مما لا يجوز في الرواية ..إذْ السيرة الذاتية تُسردُ عبر صوتٍ واحدٍ مُعْلَن الهُويّة، عبر ضمير الأنا الواحدة المتفردة والمنفردة بالسرد عن هويتها،حتى وان تخفّت وراء أقنعة، أو اتخذت صورتها عبر شخوص أخرى، والتركيب ككل يتوفر على الصفات النصية ،من شخصية ومكان وحدث،ويبدي السمات التالية:
– ابتعاده عن العناوين التقليدية المباشرة.
ـ القصدية المراوغة .
ـ لا يحيل إلى الزمن باعتباره جملة اسمية.
ـ توهج صوفي ظاهر من مقطعه الأول.
قراءة المقاطع:
ـ (سيرة المنتهى) مضاف ومضاف إليه واستعارة شفافة تحيلنا إلى التصادي مع سدرة المنتهى.. الملفوظ الديني المرتبط بالعروج الذي يحيلنا هو الآخر إلى كتاب المعراج لابن عربي، والمعنى من هذا التداعي في الربط يشي إجمالا ربما بالفعل الصوفي في المتن، كالعروج مثلا، أو المعراج الذي يشير إلى أمكنة ونقاط عبور، وهذه إضافة تدعّم النزوغ إلى الاحتفاء بالمكان لأنّ الأمكنة تتلبّس بألوان النفس وهمومهـا،
ففي مسار العروج أحداث وأمكنة، قد تكون هي المعادل الموضوعي لحياة الكاتب الشخصية،( البعد الذرائعي للعنوان) وهو ما يجرّنا إلى توقع الاقتباس من القاموس الصوفي في المتن، إذْ كلمات العنوان جينات من جينات النص..وتركيبها فعل إرادي يشي بقصدية الكاتب.. نتحدث هنا عن الانتقاء في اللغة والقاموس والبناء لأن اللغة رهان مهم .. وفوق ذلك ينبغي إن نحس بالكلمات لا أن نفهمها فقط..خصوصا إذا تعلق الأمر بإبداء – حتى لا نقول نقل- تجربة إنسانية تتحدث عن الجوهر والأحاسيس التي تشكل الجانب الأكثر براءة وإنسانية في حياة الكاتب..حتى وإن تحدّث عن طريق الآخرين (الموتى) مما يستدعي الغوص في حياة أخرى عبر تقنية المعراج كحيلة يستنطق الأموات من خلالها عن بعض أجزاء حياته، التي لم تطبعها الذاكرة.. فالذاكرة إما ذاكرة أرقام، آو ذاكرة أمكنة ومن العنوان الذي فيه قصدية واضحة نستشف أنها ذاكرة أمكنة..ولابد من فواصل فارغة في الذاكرة- بفعل النسيان- يملأها التخيل..كما نستشفها من إضافة كلمة السيرة إلى كلمة المنتهى الذي هو اسم مكان من انتهى وبمعنى أقصى المكان، وهو ما يزكي التخمين حول الاحتفاء بالمكان في المتن كما اسلفنا.
ـ (عشتها…) هذه الكلمة المشتملة وحدها على (فعل وفاعل ومفعول به) أحالتنا إلى زمن مضى، وباستبدال الضميرين تنفرج الكلمة عن الجملة (أنا عشت حياتي ) إضافة إلى نقاط الحذف التي تأويلها الإعرابي خبر، والنقاط المتتالية ربما تكون للدلالة على كلام محذوف، أو التوقف في نهاية الجملة وتركها مفتوحة، أو للإشارة إلى الإغفال -إغفال جزء من النص- أو للتهرب من ذكر لفظ معيب محرج للكاتب.
وكلّ هذه الدلالات متوفرة في الجملة العنوانية لأنها تشير إلى الخبر المحذوف الذي يقدره النحاة بـ (موجودة)، ويقدّره السياق ربما بحذف او نسيان او إخفاء بعضا من أجزاء حياته.. وهذا يطرح السؤال:
هل فعلا واسيني انكتب في هذا النص؟
نشير إلى أنّ في الطبعة المجانية الصادرة في الخليج يفصل بين مقطعي الجملة العنوانية نقطتان بدلا عن نقاط الحذف، وعادة ما تستخدم النقطتان المتتاليتان في نهاية كل سطر شعري لم ينته البيت عنده، كوقفة خفيفة دون انقطاع النفس، أو تسكين آخر كلمة فيه.
فهل هذا يعني انه استدراك من الكاتب لكبح جماح المتلقي في تقدير الكلام المحذوف؟
أم أن لغة العنوان لا تخلو من الشعرية ؟
أما في غلاف الطبعة الخاصة بفلسطين فالجملة العنوانية خالية من نقطتي الفصل ونقاط الحذف.
ـ (كما اشتهتني) إسناد الفاعل من الفعل اشتهى إلى السيرة يشير إلى التخلص من الأنا المفرطة و النرجسية، إذ المعقول في الصياغة المثالية لشخص يكتب عن نفسه هي: عشتها كما اشتهي ،أو اشتهيها.. أي كما (أحب) أو (أرغب) أو (أرغب فيها) لأنّ من وراء الاشتهاء تطل رغبات كثيرة،والإمكانيات التأويلية لهذه المفردة كثيرة، فهي محملة بالرغبة والميول والنزوغ إلى الغير، و المقطع يلبي الوظيفة الإغرائية عبر إذكاء دافع التلصص القرائي لدى المتلقين الميّالين إلى البوح الشفيف.. أمّا ضمير (الياء) الواقع في محل مفعول به (و يعني الكاتب)، فهو ينير جانبا من القصدية، فهو الذي وقع عليه الفعل (كأنّه مسير في بعض سيرته) حسب الإعراب، لأنّ هناك حركات إعرابية تعود إلى قصد دلالي من مرسل الخطاب كما يقول الجرجاني..ونستشف من كل هذا ميولا واضحة إلى الجبرية، ذلك أنّ جذور المعتقد ستطفو حتى من ضمير أو كلمة، لان الكلمات مشبعة أيضا باعتقادات، وهنا قد نسب الكاتب فعل الإرادة إلى غيره إذ المعقول في كتابة سيرته عبر البوح الشفيف أن يقول:
عشتها كما اشتهيتها.
وهي ابراقة تشي بأن بعض الأفعال الخارجة عن إرادته ستروى عن طريق غيره كأمّه أو جدّه أو أخته وهي الشخوص المتوقعة أن تؤثث أحداث الرواية.
فهل هو تنصل من بعض أفعال حياته؟
أم جواب افتراضي لقارئ مفترض مفاده: ليس وحدي صانع سيرتي.؟
ونحن نعرف من عموم حياة الكاتب أفراد أسرته وظروف نشأته، وارتباطها بمكان ما.. لهذا من السهل تخيل شخصيات الرواية أو أبطالها كأمه أو أخته أو جده.
فهل يصدق التخمين و تحطيم المعنى الظاهر كمعطى لتفي اللغة بالغرض حين نعتمد العنوان ذريعة لفهم النص.؟؟
سؤال صغنا له مبرّراته قبل الولوج إلى جسد النص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- اللسانيات في الثقافة العربية وإشكالات التلقي حافيظ إسماعيلي علوي

شاهد أيضاً

“تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة

(ثقافات) “تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة  مدني قصري في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *