حب عاصف في رسائل ألبير كامو إلى ماريا كازارس

*حسونة المصباحي

بعد أن صنعت الحدث الثقافي في ربيع العالم الحالي بإصدار رسائل الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران إلى عشيقته السرية آن بينجو، أعادت دار “غاليمار” الباريسية المرموقة صنع ذات الحدث مرة أخرى بإصدارها رسائل الحب المتبادلة بين ألبير كامو (1913-1960) والفنانة الشهيرة ماريا كازارس (1922-1996).

ولا تعكس هذه الرسائل فقط الحب الجنوني الذي كان يكنه كل واحد منهما للآخر، بل تكشف أيضا انسجام آرائهما وأفكارهما بشأن العديد من القضايا المتصلة بالأدب، والفن، والفلسفة، والسياسة أيضا.

وكل واحد منهما كان عاشقا للجنوب المتوسطي. وفي أكثر من رسالة يشير كامو إلى أنه لا يفعل ولا يكتب شيئا إلاّ وحبيبته حاضرة في القلب والذاكرة. وهي ترافقه أينما ولّى وجهه، وأينما حطّ رحاله.

حب لا يهدأ

في رسائله يصف كامو حبيبته كازارس بـ”شاطئه”، و”نوره”، و”قديسته الجميلة الملتهبة”، وبـ”هيجانه الجميل”. أما هي فتصفه بـ”رفيقها في السلاح”، و”شيطانها الصغير”، و”أميرها الجميل المنفي”. وفي واحدة من رسائلها خاطبته قائلة “يا فتاي الأسمر النحيف بعينين من نور”. وعندما أحرز جائزة نوبل للآداب، عام 1957، كان “فارسها الظافر”.

كان ألبير كامو قد تعرف على ماريا كازارس في السادس من شهر يونيو-حزيران 1944، أي في نفس الشهر والسنة التي شرع فيها الحلفاء في الزحف على فرنسا لطرد النازيين منها. وكان هو آنذاك متزوجا من فرانسين فور التي ستلد له عام 1945 توأمين، ولدا وبنتا.

وكانت هي قد انفصلت عن رجل تبين لها أنه لن يتزوجها. وفي عام 1947، ذاق كامو لأول مرة طعم الشهرة العالمية بعد أن أصدر روايته “الطاعون” التي تدور أحداثها في مدينة وهران الجزائرية.

أما ماريا كازارس فقد أصبحت نجمة عالمية في ذات السنة بفضل الدور الذي لعبته في فيلم “شارتروز دو بارم” المستوحى من رواية ستاندال الشهيرة إلى جانب النجم الفرنسي جيرار فيليب. وقد ظلت قصة الحب مشتعلة بينهما سنوات طويلة، ولم تخمد نيرانها إلا بعد موت كامو العبثي في حادث سيارة مريع في الرابع من يناير 1960.

وقبل ذلك بأيام قليلة، كتب لها يقول “عيد ميلاد سعيد يا حبيبتي الغالية. كوني جميلة وسعيدة بذلك الوجه المشرق الذي أعشقه. ولا تنسي رفيقك الذي سيدخل لا مرئيّا إلى المأدبة، وسيمسك بيدك بلطف وحنان، يا عزيزتي. أقبلك، وسأكون سعيدا جدا، بأن ألقاك مرة أخرى”.

وفي أول رسالة بعث بها إليها بتاريخ 6 يوليو 1944، كتب كامو إلى كازارس يقول “أنا سعيد بأن تكوني سمراء مذهّبة. كوني جميلة، وابتسمي، ولا تهملي نفسك. أبدا لم تكوني جميلة مثلما كنت في ذاك المساء الذي قلت لي فيه إنك سعيدة. أحبك جدا، وبطرق كثيرة، لكن خصوصا على هذه الصورة- بوجه مشرق بالسعادة وبحب الحياة، ذلك الحب الذي يهيّجني دائما”.

ويختم كامو رسالته المذكورة قائلا “إلى اللقاء، ماريا- رائعة- ومفعمة بالحياة. يبدو لي أنه بإمكاني أن أنضّدَ أوصافا كثيرة من هذا النوع. تعالي بسرعة، لا تتركيني وحيدا مع أفكاري. أنا بحاجة إلى حضورك وإلى ذاك الجسد الذي طالما ترفّقَ بي وحن إلي. اُنظري، ها أنا أمدّ إليك يدي”.

وفي رسالة بتاريخ 21 يوليو 1944 كتب كامو إلى كازارس يقول “لكن أنا لا أؤمن بالعواطف الكاملة والممتازة. ولا بالحيوات المطلقة. كائنان يتبادلان الحب يتوجب عليهما أن يفوزا بحبهما، وأن يبنيا حياتهما وعواطفهما ضد الظروف والملابسات، ولكن أيضا ضد كل الأشياء التي في داخلهما تحد، وتبتُرُ، وتزعج، أو تثقل عليهما. الحب يا ماريا، يتمّ الفوز به لا بالحرب ضدّ العالم، وإنما بالحرب ضد النفس. وأنت تعرفين جيدا، أنت يا صاحبة القلب الرائع، أننا أعداء ألدّاء لأنفسنا. أريد أن تظلي معي، وأن نقضي معا كل هذا الوقت الذي يستغرقه حبنا، وبعدئذ نحاول أن نقويه أكثر وأن نحرره أخيرا لكن في هذه المرة بالأمانة والصدق أمام الجميع”.

الأنتلجنسيا الخانقة

في رسالة بتاريخ 14 أغسطس 1948، يقترح كامو على حبيبته أن يغادرا باريس المختنقة بثرثرة أنتلجنسيا فاقدة للبوصلة والرشد، لينعما باستراحة في الجبال حيث الثلج، والهواء المنعش، والأماكن المتوحشة التي تذكر بالإنسان البدائي. وهناك ستكون له وحده، وجسده ملتصق بجسدها. وها هو يكتب إليها متخيلا عواصف ورعودا وبروقا تتلامع في السماء المتجهمة.

وفي رسالة أخرى بتاريخ مايو 1950، كتب كامو إلى كازارس يقول “حرارة خانقة وثقيلة. أحلم بأجساد عارية، وبإغفاءات خفيفة، وبك أنت. هذه الليلة استيقظت مناديا إيّاك. حلمت أنني في جزيرة ‘غويان‘ في معتقلها الرهيب، وكنت أصرخ خلفك طالبا الخلاص. أنت انتصاري الصغير، وأنت تحبينني دائما، بهذه الطريقة المفرطة، أليس كذلك؟ أما أنا فأعيش في القمة، والفرح يمزقني دائما. أحبك”.

وضائقا بالأوساط الثقافية في باريس كتب كامو إلى كازارس بتاريخ فاتح مايو 1956، يقول “في كل مرة تبرز فيها الأوساط الثقافية التي أعيش فيها، أشعر بالغثيان. آه لو كان باستطاعتي أن أغير معتقداتي، وأن أكتب كتبي من دون أن أنشرها، أو أن أنشرها في نسخ محدودة. لكني كنت أعتقد دائما أن الفنان والكاتب لا يمكن أن يكتب لنفسه، وأن يكون بإمكانه أن ينفصل عن مجتمع عصره. يا له من زواج مضحك بين مسلُوخ عنيد وعاهرة شتّامة. أعلم أننا نكتب لآخرين، ولجمهور أكثر سخاء وأكثر سذاجة. لكن بين الجمهور والكاتب هناك ستار المافيات الصحافية، وذلك المجتمع الصغير المحلي، والجاف، والمتعجرف، والمحتج الذي هو الأنتلجنسيا المثقفة ومن دون شك لأنه ليس لهذه الأنتلجنسيا علاقة بالأنتلجنسيا الحقيقية سوى علاقات حنين”.
________
*العرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *