عبثية الحياة قادت بول أوستر إلى الكتابة … وترامب جعله يعيد حساباته

*محمود حسني

باشرت دار «المتوسط» إصدار روايات جديدة وغير مترجمة سابقا للروائي الأميركي الكبير بول أوستر وأول الإصدارات ثلاث روايات تولى ترجمتها الشاعر سامر أبو هواش، وهي «اختراع العزلة» و «صانست بارك» و «رحلات في حجرة الكتابة». ويعمل راهناً ثلاثة مترجمين على إنجاز ترجمة رواية أوستر الأخيرة والضخمة (أكثر من ألف صفحة) وهم زياد عبدالله وأحمد م. أحمد وحسام موصللي ويراجع الترجمة نهائياً أبو هواش. وتصدر قريباً ترجمتان لروايتين لأوستر هما «غير مرئي» و «تمبكتو» وترجمة جديدة لرواية «ليلة الوحي» التي كانت صدرت سابقاً في الكويت بعنوان «ليلة التنبؤ». والروايات الثلاث التي أنجزها أبو هواش تتميز بمتانتها وحفاظها على النفس والإيقاع اللذين يميّزان سرد أوستر. هنا قراءة في ظاهرة بول أوستر.

«مع كل كتاب جديد أبدأه، أشعر بحاجتي إلى أن أتعلم طريقة كتابته أثناء العمل عليه. لا أكون متأكداً تماماً إلى أين سيصل، أو ما الذي سيحدث فصلاً تلو الآخر. فقط تكون البداية في رأسي. لكن عندما أبدأ الكتابة تتولد لدي المزيد من الأفكار حول كيفية إكمال العمل». هذا ما قاله الروائي الأميركي بول أوستر مرة، واصفاً فعل الكتابة كما يراه ويعيشه.

في روايته الأحدث «4321»، يعود الكاتب الأميركي بول أوستر (1947) إلى طفولته وعلاقته ببلده. بدأ أوستر العمل على الكتاب قبل أكثر من عشرين عاماً، ممتلئاً بهاجسٍ تملكه بعد موت مفاجئ سرق والده وهو في السادسة والستين. تحمل الرواية ملامح من سيرته الذاتية مختلطة بوقائع من التاريخ الأميركي لحظة الحرب الباردة وما رافقها. ومن خلال حيوات مفترضة أتيحت لشخوصه، يدخل القارئ إلى مسارات الرواية مستكشفاً إياها في عمل ضخم كان قد وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة «مان بوكر» البريطانية 2017.

يحكي أوستر في حديث مع صحفية «الغارديان» أنه عندما كان في الرابعة عشرة من عمره، أُصيب أمامه فتى كان يقف على بعد خطوات منه، بصاعقة جوية وفقد حياته إثرها. علّق أوستر: «إنها حادثة لم أستطع التغلب عليها أبداً». كان أوستر في مخيم صيفي: «كنا نحو عشرين شخصاً عالقين في الغابة بسبب عاصفة رعدية. أشار علينا أحدهم بوجوب الذهاب نحو أرض منبسطة، لكي نستطيع الوصول إلى هناك اضطررنا إلى الزحف، في شكل فردي، تحت سور من السلك الشائك. وفجأة ضربت السور صاعقة كهربائية فيما كان الفتى، الذي يتقدمني مباشرة، يهم بالمرور من تحت السلك». لم يعرف أوستر أن الفتى مات في لحظتها. «سحبته نحو الأرض المنبسطة. وبينما كان المطر ينهمر علينا ظللت ممسكاً بلسان الفتى حتى لا يبتلعه. مع مرور الوقت، تحول وجه الفتى إلى اللون الأزرق، وكانت عيناه نصف مغمضة». استغرق أوستر بعض الوقت حتى يستوعب ما حدث: لو تأخرت الضربة بضع ثوانٍ فقط، لكان هو ممداً الآن مكان الفتى. «تطاردني دائماً أحداث تلك الليلة، والعشوائية البحتة التي أحاطت الموقف».

تقع حادثة مشابهة في «4321»، بحيث يرصد شخصية أركي فيرغسون، وهو فتى في الثالثة عشرة من عمره، حينما كان يجري تحت إحدى الأشجار في مخيم صيفي، ولما ضربت الشجرة صاعقة كهربائية مات فيرغسون إثر سقوط غصن الشجرة على جسده الصغير. ثم تبدأ مسارات العمل باحتمالات لحيوات قائمة على مصادفات ولحظة من هذا النوع.

من الشعر إلى الرواية

تخرَّجَ أوستر في جامعة كولومبيا حيثُ كان إدوارد سعيد أحد أساتذته، ثمّ اختار أن يشتغل في عدة مهن فالتحَقَ بالعمل على ناقلة بترول. وصل إلى باريس هرباً من الأجواء التي كانت تعيشها الولايات المتحدة بعد حرب الفيتنام. هناك، عمِلَ أوستر الشّاب حارساً لأحد المنازل، ثم انتقل للعمل بالترجمة من أجل كسب العيش. كان يترجم كتباً متوسِّطة القيمة وغير مهمة أحياناً. وفي الوقت ذاته كان يترجم بعض أعمال السورياليين، وهو ما شكّل جزءاً من تكوينه الأدبي.

كتب بول أوستر الشعر في عشريناته، ثم مرّ بمرحلة نضوب. لم يكتب فيها شيئاً ليعود إلى الكتابة متحوّلاً إلى الرواية في أواسط الثلاثينات. كتب في البداية رواية التحرّيات من أجل كسب المال، ناشراً إياها باسم مستعار.

رُفضت روايته الأول «مدينة الزجاج» (1985) من سبع عشرة دار نشر قبل أن تصدر في النهاية عن دار صغيرة. «مدينة الزجاج» هي الجزء الأول من «ثلاثية نيويورك» الشهيرة. بعد عام، نشرت «الأشباح» و «الحجرة المقفلة» تباعاً، وكان بول أوستر في الثامنة والثلاثين من عمره. وعلى رغم من أنه كان يكتب ويترجم دائماً، ويملك مجموعة قصائد نثر «فراغات بيضاء» (1980)، إضافة إلى «اختراع العزلة» (1982) وهو مذكّرات وتأملات في الأبوّة شرع في كتابتها بعد وفاة والده بوقت قصير، لكنّ الثلاثية شكلت البداية الحقيقية لمسيرته الأدبية.

وعن طقوسه في الكتابة يقول: «أكتب دوماً بالقلم. ومعظم الوقت بقلم الريشة، وقلم الرصاص أحياناً من أجل التصحيح. ليتني كنت أستطيع الكتابة مباشرة على الآلة كاتبة أو الحاسب الآلي. غير أنني أفقد قدرتي على التفكير عندما تكون أصابعي في تلك الوضعية. علاوة على ذلك، ما زالت لوحات المفاتيح تُرهبني. أما القلم فإنه أداة أكثر بدائيّة. يجعلك تشعر بخروج الكلمات من جسدك لتحفر نفسها على وجه الصفحة. فالكتابة تحمل هذه الخاصية الحسيّة. إنها تجربة بدنية. الكثير من الكتّاب في داخلي، غير أنني لا أظن أن كتاباتي تشبه أي أحد. فأنا لا أقوم بكتابة كتبهم. إنني أكتب ما يخصني فقط».

تأتي أعمال أوستر حاملة مزيجاً من الرواية البوليسية والوجودية. يعتمد أوستر على وقوع الصدفة في الأحداث. هذه الصدفة هي ما تحرّك شخوص العمل، ومنها نبدأ في تتبع تشعبات مسارات الرواية.

موقفه السياسي وترامب

في الظروف السياسية الحالية يصبح من الصعب تجنب الحديث عن موقف أوستر، أحد أشهر الكتاب الأميركيين الحاليين، من دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة: «إن هذا كل ما يشغل بالي حالياً». في الماضي، وقف أوستر ضد جورج بوش وحرب العراق، كما أنه دخل في مشاحنة علنية مع رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، حول كتّاب معتقلين. في ليلة الانتخابات الأميركية الأخيرة، وصف أوستر نفسه قائلاً إنه «على حافة انهيار عصبي». ويرى أن شعار حملة دونالد ترامب «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، هو في حقيقته «لنجعل أميركا بيضاء مرة أخرى…». ولهذا قال: «لم أشعر قبل الآن بهذا القدر من اليأس حول حاضرنا ومستقبلنا. أشعر بالذهول التام بما وصل بنا الحال. أعتقد أن هذه الانتخابات هي أكثر الأحداث السياسية ترويعاً في حياتي».

وأضاف أوستر قائلاً: «منذ فوز ترامب وأنا أكافح لتحديد كيف ستكون حياتي في السنوات المقبلة.» وعن قرار الخطوة المستقبلية، قال: «لقد وصلت في النهاية إلى تقبل شيء كان يتم عرضه عليّ باستمرار خلال السنوات الماضية، وهو أن أصبح رئيساً لجمعية PEN الأميركية. لقد كنت أعمل سكرتيراً ونائباً للرئيس، لكنني لم أرغب في تحمل المسؤولية كاملة. يبدأ عملي رئيساً للجمعية بداية عام 2018، وسأتحدث علانية كلما أتيحت لي الفرصة، لأنني ما لم أفعل، فلا أظنني سأطيق الحياة مع نفسي».

يعتقد أوستر أن «الشخص الذي يشعر بأنه مدفوع للكتابة هو من يُغلق الغرفة على نفسه للكتابة يومياً». ومع ذلك، فإنه كلما يتذكر وصول ترامب إلى الحكم وحال الولايات المتحدة اليوم، فإنه يستعيد السؤال الذي سألته شخصية فيرغسون الرابعة: «إذا كان العالم يحترق، فما هي فائدة الأدب؟». ومن أجمل آراء أوستر حول الكتابة هو ما قاله مرة: «كانت البدايات الفاشلة للعمل على كل كتاب من كتبي تزعجني وتحبطني. لكنني مع مضي السنوات أصبحت أكثر ارتياحاً مع مبدأ الفشل جزءاً من روتين عملية الكتابة بأكملها. عليك أن تُكمل الكتابة، حتى لو رفضت العبارات الجيدة أن تأتي إليك. أنا فقط أشعر بأنني مفعم بالحياة أكثر وأنا أكتب».

________
*الحياة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *