مؤمن سمير يتخذها سلاحاً في ديوانه الجديد: الاحتفاء بالمحبة شعرياً

خاص- ثقافات

*جمال القصاص

ما الذي يحتاجه الشاعر لكي يكتب سوى إدراكه أن الكتابة ضرورة حياة ووجود، وأنها سلاحه الوحيد في مواجهة قسوة العالم وعتمته التي تزداد يوماً بعد آخر. لكن الشاعر مؤمن سمير في ديوانه «بلا خبز ولا نبيذ»، الصادر أخيراً عن هيئة الكتاب المصرية، يضيف إلى هذه الضرورة فعل المحبة. فأن تكون شاعراً يعني أن تكون محباً عاشقاً، إلى حد الفناء دفاعاً عن هذه المحبة. كما يجب أن تكون لديك القدرة على التسامح، حتى تتجنب كراهية ذاتك، وكراهية العالم نفسه من حولك.

تعين هذه المحبة الشاعر على تحمل العالم، وباسمها يدفعه أمامه كعربة طائشة أحياناً، ومرايا مهشمة أحياناً أخرى، مدركاً أن تطوحه وانقسامه على ذاته هو محاولة لإدراك العالم، مجرداً من أية ضرورة مادية، بلا خبز، بلا نبيذ، بلا تواريخ وحوادث منتقاة، إنه محض محبة تنمو في الداخل، وتشع في شكل انفعالات ومشاعر وأفكار ورؤى، مليئة بالصخب واللعب أحياناً.
تبرز هذه المحبة على نحو لافت في شكل طاقة متجددة من الحلم، تومض في طوايا أغلب نصوص الديوان، حيث يعلو الشغف بالأشياء، وبشتى حدوساتها المعرفية، ويجتهد الشاعر في اللعب على مفارقات المحبة، فهي عنصر جاذب للشغف وللغضب والضجر أيضاً، هي لحظة الوصول التي تأتي ولا تأتي. كما يقول في نص يقف على حافة حكاية صغيرة، بعنوان «نخب لتشخيص المحبة»، وكأنه مرثية للفرح بتلك اللحظة المراوغة :
“يوم وصلت اللحظةُ، دار السؤال ولف.. حول أصابعي التي لا تكف عن النبض، وعن تصفيف أحزانها أمام المرايا.. أصابعي التي أخذت عزاء الأب وهي تعد مسامير النعش.. تساوم بها الضحك المخفي، وشالت الطفلَ، وهي تنسى عواء السماء، صارت مدربة على التشخيص حقاً، لكنها تعجز عن الصفح الجميل”.
وحين يفرح بحبيبته في النص نفسه، يصفها بأنها «تتقن السفر والمحبة، ودور الظل الأخبث في حكايا المهرجين». وحين يعيش حلم المرور كسهم في جسد الأيام والحياة، لا ييأس مما يواجهه من عراقيل وإحباط لأنه ببساطة شديدة، وكما يقول في أحد النصوص: “لن أخسر شيئاً.. عندي تخمة من المحبة ورصيد صار يثقل تنفسي كل صباح”.
هكذا تتحول المحبة إلى وجود مواز لحياة مفتقدة، معطلة، مهمشة على مستويي الداخل والخارج معاً. فأن تحب، يعني أنك تحلم، أن تكون الأنا هي الواحد في الكل، أن تكون لديك المقدرة على الحياة، حتى في عتمة الشقوق والمرايا. كما أنه ثمة هواء آخر للشعر، يمكن أن تتنفسه بحب في كلمة، في صورة. يدرك الشاعر هذا، ويترك الباب موارباً في قصائده، فليس ثمة تحديد نهائي للكتابة، وما تفيض عنه من رؤى وتساؤلات، والشعر سيظل دائماً رقصة الروح السرية المشدودة لنزوات الجسد والخرافة والأسطورة والمعرفة، في الماضي والحاضر معاً.
تهيمن تداعيات هذه الرقصة السرية على أجواء نصوص الديوان، وتمنح فكرة المحبة سقفاً توائم فيه الذات بين الضرورة الطبيعية للأشياء من حولها، والضرورة الشخصية لوجود الذات نفسه، والبحث عن الدوافع اللاواعية التي تربط بين الضرورتين بشكل واع، ما يجعل النص وكأنه مرآة تتراءى عليها الأشياء في صورتها الفطرية أو محبتها الأسمى. فالحب يكشف عن جوهره المستتر، ما بين الرغبة في التملك وحرية الانفلات والتحليق في فضاء كيان أنثوي يحيا بالمحبة، الأشمل والأعمق في تعاطف الأجساد والأرواح مع بعضها بعضاً، وانجذابها الخالص للحياة.
تلوح هذه الأجواء على نحو لافت في نص بعنوان «أكلم الصورة من الداخل»، تبدو فيه صورة الحبيبة في خطاب الذات الشاعرة وكأنها بوتقة أضداد لا متناهية، وبضمير المخاطب توجه رسالة للذات الشاعرة مشوّهةً مضطربة، هي في جوهرها رغبة مستترة في التملك، ولو تحت قناع الإحساس الزائف بالأمان، وكما يقول النص:
“كل يوم أحبّكَ، وأرتعد قبل المطر وبعد النوم، أحدّد ما سيكون عليه قلبي: أرسم خريطة العمل، وأكون متأهبة للحظة قوتي وامتلاء شراييني بابتساماتكَ.. تقبيلكَ لها تحت الدماء، وبكائكَ الصادق على عاصفة بيتكم… أشكل ملامحكَ على هيئة تمثال من الحنين.. أقضم منه بنهم البدائيين العظام، وأرقبه يجري في داخلي كأنه لهب يهشم كلّ ما في طريقه.. حتى تحتل صورتَكَ الجدرانُ.. لن أصدقكَ طالما تملك عيناً تقول وكفاً يهمسُ.. أريدك أن تموت إلى جواري، وجثتك تلتصق بي، وتلتصق… حتى نصير رماداً يلقيه الكهنة في النهر”.
إن الخوف من الحب الذي يلوّن الصورة الشعرية في هذا النص إلى حد الكدر والعدمية لا ينفصل عن المحبة وعن الحرية، فكلاهما وجهان لحقيقة واحدة، تقتضي أن تكون حراً حتى تحقق إرادة المعرفة، خارج السائد النمطي المتكرر الذي يجعل الحياة رتيبة، خالية من الإبداع في صورها ومشاهدها ولغتها.
يقترن هذه الخوف بمشاعر من العزلة والوحدة، تخشى الذات الشاعرة أن تتحول المحبة في ظلالها إلى فعل هش، يجتر صلحاً زائفاً بين الأشياء المتنافرة والمتضادة. وحتى لا تقع الذات في هذه المصيدة، تتحصن بالشعر، تجعل منه حوائط وسواتر صد للرياح الهوجاء. يبرز ذلك فنياً في شكل كتل نصية، تتراص في نسق دائري، تتقاطع فيه اللغة وتتجاور الصور الشعرية وكأنها غابة للتراشق والتشابك بين الأشياء والعناصر، بمحض الصدفة أحياناً، والحدس الداخلي أحياناً أخرى.
في هذا «التحشيد» الشعري، لسنا أمام كتلة مصمتة، يتجمد فيها هواء الشعر ويجف ماؤه، وإنما نحن أمام كتلة موضوعية تمتلك حيوية التدفق والانطلاق خارج حواجزها وأسوارها إلى عوامل أخرى مهمشة في اللغة والروح والجسد والمعرفة بشكل عام. يقول الشاعر في نص بعنوان “الماركيز دي ساد”:
“أنا المسجون العظيم، أكثر من ربع قرن والجدران تتهكم وتجري وتضيق وتطير وتتسع.. لكنها الآن تلهث وتعترف.. كل الآلام تحملتها ووضعتها في القِدر حتى طلع قلبها الرائع الأسود.. الجوهرة التي كانت تنام في الداخل لكنها الآن تملأ العيون.. كل الرعشات والدموع الملتاثة أحوّلها إلى أدب مبجل، كافر يصل بالمحبة لبذورها الحقيقية للقسوة.. ويصل باللمسة للركلة وبالقبلة للقتل.. كل الدواليب أحطم واجهاتها وأكشفها لتسمو”.
ومثلما أنه ليس للمحبة حدود ومكان محدد، وأنها قد تضمر بذرة القسوة أحياناً، حتى تخلص إلى نفسها وتخلص جوهرها من شوائب العواطف والانفعالات، فالشعر أيضاً ليس له حدود، ليس له مكان أو زمان محددان، ففي ذلك موته وذبوله وانطفاؤه.. بهذه الروح ينفتح النص على شخصية «الماركيز دي ساد»، الروائي الفرنسي الشهير صاحب أقسى نزعات التحرر في الكتابة، التي وصفها البعض بالسادية، حيث استطاع أن يتوغل في النفس البشرية، ويكشف عن أسرار كامنة فيها، كانت بمثابة ألغاز في نظر كثيرين من العلماء والفلاسفة. من هنا، توسع رمزيته من حقول الدلالة في النص، كاشفة عن أن حقيقة الأشياء والعناصر ليست في لحظة تآلفها، وإنما في لحظة انسلاخها من النقيض والضد.
ورغم تشتيت الدلالة الذي يطل أحياناً من الكتلة النصية بشكل عفوي، حيث تبدو أحياناً وكأنها خبط عشواء، تكمن هنا أبرز الملامح الفنية لهذا الديوان، وهي فكرة أن يصبح النص وكأنه عائلة شعرية، يجد فيها الشاعر صور: الآباء والأجداد والأصدقاء والصديقات، الحبيبات والعاشقات، فينفتح عليها بحيوية، وبمقدرة على إعادة تشكيلها في النص برؤى وأحلام مغايرة وملامس إدراك جديدة، فتبدو الصورة وكأنها ابنة النص بقوة مخيلته وفضائه المجازي ونزقه الفانتازي السريالي، وفي الوقت نفسه ابنة الواقع بكل ضغوطه ومفارقاته المادية وأقنعته المراوغة التي لا تنتهي.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *