قراءة في قصيدة ” كوابيس بذيول ملونة”

خاص- ثقافات

*مصطفى بحبح

 

القصيدة:

 

و مهما نظرت إلى الأفق                                            

فليس ـ ثمة ـ نعاج يسبحن

في القطن الأبيض المنساب

و لا عربات مسومة.

تسحبها أياد ناعمة،

و خيول مطهمة من

رذاذ، يتراءى خلال الغيم.

و لا جيوش مدججة ترفع

بيارق النصر فوق

معسكر الفتح،

و أرجوحة الخيال.

      أو

على إيقاع بلشون

وفق معزوفة الاكورديون،

و لا موسيقى مهدهدة تعزفها

ملائكة لمواليد غافية

في حفيف  شجر الملكوت

الشاسع،

و لا نساء، كمثل رغوة الزمرد

يبطشن بالسواد

لافُات عليه بياضا جارحا،

و ضوءا منهمرا

من أجسادهن الغاطسات

في أحواض المياه الخرافية،

و كوثر الفراديس،

و هن يرددن  ألحانا عذارى

في أوج صمتهن.

لم يطمثهن مخلوق فان

و لا كائن زائل.

ثمة ـ فقط ـ :

بهموت رهبوت،

براميل  مثقلة بالغل و الوخم،

طيور أبابيل  ترمي

الأرض بحراب الضيم،

تنذرنا بالموت اليحموم.

و الموت المرٍن.

فمة، لا شيء

سوى أضغاث آثام،

و سوء ظن.

………………….

إنني أطل من ثقوب

في السماء،

و من كوابيس بذيول ملونة،

و لحم أرض متحلل

و أشرب حيوات غير مكتملة.

 

      نشرت قصيدة ” كوابيس بذيول  ملونة” للشاعر محمد بودويك، يوم الأربعاء 03 يناير 2018، في المساء الثقافي. معبرا فيها عن رؤياه المستقبلية للعالم.

      لا تدعي هذه المحاولة المتواضعة إمكانية استنفاد معاني القصيدة كلها. بل إن ذلك ليس في مقدور أحد. إن النص الشعري ذو مستويات كثيرة و متشعبة، و خاصة النص المفتوح. فهو متأب عن التطويق الدلالي. إذن تقدم هذه الورقة واحدة من القراءات الممكنة للقصيدة. و هي محاولة لملامسة عوالمها الدلالية و الفنية.

       العنوان جملة إسمية دالة على وضع ثابت. و تُسنِد بداية النص هذا الحكم [ و مهما نظرت في الأفق]. وتهدف هذه العبارة، كذلك، إلى استدراج القارئ ليتفق مع الشاعر في رؤياه.

     توحي كلمة” كوابيس” بأن ثمة هواجس مزعجة تؤرق الشاعر و تقلقه. و يثير الجزء الثاني من العنوان ” بذيول ملونة” عدة احتمالات، منها: أن لهذه الكوابيس أسبابا متعددة، أو أن لها مظاهر شتى، أو أن لها تبعات كثيرة.

    يمكن تقسيم القصيدة إلى ثلاثة مقاطع:

1 ـ من بداية النص، إلى: و لا كائن و لا زائل.

2 ـ ثمة، إلى: [……….].

3 ـ إنني…، إلى: نهاية النص.

     يقدم النص صورة للعالم، من خلال المفقود فيه أو ما لا يوجد [ المقطع الأول].لقد اختفى الصفاء و الحرية و النصر و الجمال الفني و العذرية. و في المقطع الثاني يرى الشاعر انتصار البهيمية و الدمار و الموت والآثام. يصور الشاعر عالما تغيب عنه القيم الإيجابية، و تحل فيه، بالمقابل، قيم سلبية، عنوانها:الشر والموت و اللاتواصل[ سوء الظن].

و يظل الشاعر ـ من خلال المقطع الأخير ـ الحالم، المثقل بهموم العالم، المنوجد في هذا المستنقع؛ يتابع مآلات هذا العالم المتدحرج نحو الهاوية.

أطل من ثقوب

في السماء

و من كوابيس بذيول ملونة،

و  لحم أرض متحلل

و أشرب حيوات غير مكتملة.

 

       القصيدة استبطان للإنسان الذي ينحدر نحو البهيمية و الشر بلا هوادة، و قد فقد إنسانيته و تشيأ. فصار برميلا مثقلا بالحقد، وطيرا جارحا يحصد الرواح وينشرالخراب.

      يتميز النص بلغته الرمزية الإشارية الإيحائية. ولا ينحصر الرمز في الكلمة الواحدة، بل نجد رمزا ممتدا يشمل جملا شعرية  بكاملها. لنلاحظ هذه الجملة مثلا:

” و لا موسيقى مهدهدة تعزفها

   ملائكة لمواليد غافية

   في حفيف شجر  الملكوت

   الشاسع.”

     فهذه الجملة بكاملها تشتغل كرمز للدلالة على اختفاء الفن الجميل و غيابه. و يمكن أن نسمي هذا النوع من الرمز “رمزا كنائيا”. يحضر الرمز بكثافة في القصيدة،و هي تدور حول بؤرة رؤيا الشاعر.

 

      نجد في هذه القصيدة حضورا لألفاظ و عبارات قرآنية:[ مسومة ـ طيور أبابيل ـ  أضغاث]. لكنها وردت في سياقات جديدة. فطيور أبابيل في القصة القرآنية مرسلة من الله لعقاب أصحاب الفيل على فعلتهم. لكن طيور أبابيل المذكورة في القصيدة ترمز إلى الشر و الطغيان. ف”النص تناص” كما قال النقاد.

      و تذكرنا عبارة ” ثقوب في السماء” بعنوان مجموعة قصصية للكاتب المغربي المهدي حاضي الحمياني، صدرت في أواخر  السبعينيات. فربما حضرت بالتداعي، أو لمشترك بين معاني القصيدة و القصة. و لايخفى البعد الأسطوري لعبارة ” ذيول ملونة”، فهي توحي بتلك المخلوقات الأسطورية ذات الذيول. و قد يكون الشاعر قد استحضر إحدى الأساطير و هو يتخيل و يكتب.

 

      يتقابل في القصيدة أسلوبا النفي و الإثبات. يهيمن أسلوب النفي في المقطع الأول، للتعبير عن المفقود و ما لا يوجد من القيم في العالم الجديد. و يغلب أسلوب الإثبات في المقطع الثاني, للدلالة على ما هو موجود، أي القيم السلبية.

        و الشاعر يطوع اللغة، من أجل التعبير عن مقاصده. و من أشكال ذلك، توليده مشتقات جديدة، من قبيل: “بهموت” و “رهبوت”، للدلالة على الدرك الذي وصله الإنسان من انحطاط و بهيمية و نزوع نحو الشر.

       و يدعو الحذف […..] الذي يفصل بين المقطعين الثاني والثالث القارئَ إلى المشاركة في كتابة القصيدة ،وملء الفراغ، وبناء المعنى، وتحفيزه على الافتراض. فضلا عن وظيفته ـ أي الحذف ـ  التنبيهية، إذ يشتغل كبياض فاصل بين المقطعين.

    و على مستوى الإيقاع، نلحظ غيابا للتنغيم الصادر عن توالي القوافي أو ازدواجها. فقد جاءت القوافي مستقلة، ما عدا في آخر المقطع الثاني، إذ تردد حرفا الميم و النون كرويين متقاطعين. و ساهم تكرار بعض الصيغ الصرفية في خلق رنة موسيقية في بعض المواضع من القصيدة؛ كتكرار صيغة ” مُفَعًلَة”[ مسومة ـ مطهمة ـ مدججة…]. و صيغة ” فعلوت”[ ملكوت ـ  بهموت ـ رهبوت] . ولعل ما كان يشغل الشاعر هو رؤيا للعالم والتأمل في بواطنه و علاقاته الخفية.

 

      تتحكم في القصيدة بنية تقابلية تتمثل في ثنائيات: الغياب / الحضور ـ النفي / الإثبات. و فيما يخص موقع الشاعر، فهو يوجد بين السماء[ الحلم]و الأرض[الواقع]. ويمثل النص نموذجا للشعر الرؤيوي الجديد، المتسم بالانفتاح و الانزياح و الإبهام. و هو يحمل رؤيا مستقبلية للعالم، انطلاقا من أفق الحاضر المثقل بالانكسارات و التحديات.

      هل عبر الشاعر عن رؤيا تشاؤمية؟ لا نستطع الجزم بذلك، ما دام في الوجود ” حيوات”، رغم كونها غير مكتملة.

 

 

     

 

     

 

     

 

 

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *