شرفة على البحر

خاص- ثقافات

* نافلة ذهب

أخبرنا أبي قبل أن تحلّ عمتي بيننا أنها ستستقلّ الغرفة المواجهة للبحر.

صمتت أمّي. رأيت في صمتها امتعاضا . ربّما كانت تريدها لها .

 وكان أبي قد اقتنى منذ عامين بيتنا الصيفي الذي يقع في الضاحية الشّمالية للعاصمة. وتعوّدنا السّكن فيه طيلة العطلة الصيفية.

تخطّت عمتي فوزية عقدها الخامس وكانت  تكبر أبي وأمي بعدّة سنوات. لم تكن متزوّجة . سألت أمّي عن سبب ذلك فنصحتني بالابتعاد عن هذه الأسئلة التي تهمّ الكبار فقط . جلست في ركن قرب المطبخ وطفقت أستحضر صور عمتي وهي ترفل في  فستان الفرح الأبيض المحلّى بالجواهر كما سبق أن  رأيت في بعض الأعراس العائلية.

حلّت عمتي بيننا بعد أيّام . وكانت أمّي قد رتّبت غرفتها ونضّدتها بالماء والصّابون. نظّفت كذلك النافذة والستائر فبدا البحر أجمل مما كان.  وضعت إكليلا من الياسمين فوق الخزانة فانتشر عبير الزهر رائقا ولطيفا. لحظتها …عشقت  أمّي ،و شعرت أنّها أحسنت التصرّف وكنت أحبّ عمتي كثيرا.

كانت عمّتي تقصد البحر باكرا ملتفّة في فوطة بيضاء اللّون  تتخلّلها خطوط حمر تقول إنها من  منسوجات  جزيرة جربة. وعندما نستيقظ نحن الصّغار ونستعدّ  لطقس  السّباحة تكون عمّتي قد تناولت فطور الصباح وجلست في الرّكن الأيمن للفيراندا تتأمّل البحر.

كانت أمّي تصطحبنا إلى شاطئ البحر وتد رّبنا على السّباحة في سكون بالغ. كانت تتركنا نلعب بكل حرية  نرشّ بعضنا بالماء فنضحك على المصاب منّا ونتابع السّباحة واللّهو .أيّامها كنا نتبارى للحصول على بعض القناني لاصطياد السّمك الصغير المتواجد عند الشاطئ فنهرع إلى ثقبها  بحجر ونتركها تنام على حافة الماء راصدين أوّل سمكة تطؤها فنسرع  بأخذها إلى البيت  رغم نفور أمي من تصرّفنا ذاك  متظاهرين بمهارتنا في الصيد البحري.

توالت  الأيام تباعا . لعب وضحك وحنان شيّق من قبل الكبار. في الأثناء كانت عمّتي تبدو أحيانا سعيدة ومنطلقة وأحيانا أخرى تراها متوتّرة وكأن بها قلق. كانت تزفر ثم تستوي واقفة إن كانت جالسة أو تنطلق تحوم في البيت دون هوادة  وتطلق الزّفرات في يأس ظاهر.

كنا نتمتع بعطلة آخر السنة وقد تعوّد أبي شراء كتب تعيننا على حذق اللّغة الفرنسية التي بدأنا في دراستها   وذلك بفضل التمارين المتاحة عبر صفحات  تلك الكتب .كنت أجلس في الفيرندا بعد أخذ كتبي وأدواتي محاولة إعداد التمارين ليطّلع عليها أبي ويصلحها عند عودته من العمل. كانت الفيرندا ملاذّي الأجمل فهي تواجه البحر حيث لا يداعب سمعي  سوى هدير الموج الخافت ونعيق النوارس ورفرفة أجنحة الخطّاف.

في ذلك اليوم كنت أسند ظهري إلى الجدار أحاول تركيب جملة بالفرنسية تدور حول كلمة                  .amour

  فجأة انتبهت إلى وقع خطوات تذرع  سقف الفيرندا. ثم  تناهى إلى سمعي  صوت نافذة تفتح. كانت نافذة عمّتي وكنت  جالسة  تحت شرفتها أسرح بنظري حيث  الشّاطئ في شيء من الّلامبالاة حين أبصرت هناك رجلا غريبا عن معارفنا, بصدد خلع ملابسه استعدادا للسّباحة. وما أثار فضولي الطّفولي  أنّه كان يتأمّل الشرفة فوق رأسي ويبتسم نحوها. وقتها نسيت ما كنت بصدد تحريره ومكثت في مكاني أتابع بشغف ما يدور أمامي فكنت لقصر قامتي أرى ولا أرى.

اعتدل الرجل في وقفته وحيّا بيده اليمنى من تتوسّط الشرفة. ثم سمعتها تخاطبه  بصوت خافت وتقول: صباح الخير. انحنى  بعد برهة ليجلس على الفوطة البيضاء و أصبحت أشاهد ظهره ورقبته .عندما عدت إلى كرّاستي لم أستطع كتابة أيّ شيء حتى تلك  الجملة التي شرعت في صياغتها ضاعت منّي وتشبّثت بظهر الرجل والبحر وقد عمّا كل الصّور: البحر والّرّمل والرّجل وصورة عمّتي في الشّرفة وهي تتأمّل البحر وزائره….

  حلمت  ليلتها بالرجل يزورنا ويشتري لنا لعبا ويكلمنا باللّغة الفرنسية…

أذكر أنّي اتّخذت ذلك المكان ملاذا  شهيا  لإعداد تمارين الّلغةّ الفرنسية  وتعوّدت عليه إذ صبح محبّبا إلي  . أتأمّل من خلاله  ببراءة نزقة ما يحدث حولي فأنسى تركيب الجمل وأتثاقل في الانتقال إلى دروس جديدة وأتابع بشغف تخاطب الرّجل وعمّتي بالإشارة حتى وإن هاج البحر وأصمّ صوت أمواجه الأذان. كنت أحاول فكّ رموز الإشارات بينهما و استنباط جمل باللّغة الفرنسية لوصف ما أشاهد وما أشعر به  .. في تلك الأثناء لم أتوقّف عن تقفّي آثار عمّتي : كانت تطيل الانزواء في غرفتها المشرفة على البحر وتتأنّق عند النزول إلى الشاطىء أو الجلوس في أحد أركان  الفيرندا كما لاحظت تواتر خروجها إلى الشارع وعندما تطلب منها أمّي مرافقتي لها تبتسم نحوي وتمسح شعري في حنان وتهمس لي: “قولي لها إنك لا ترغبين في ذلك.”… وكنت أجيب بكل حب ” دعيني هنا يا أمّي إني بصدد إتمام تمارين الفرنسية… وكنت أستمتع بابتسامتها العريضة وهي تشير إلي مستحسنة معاضدتي لها وبالتالي إتاحة الفرصة لها لملاقاة من تشاء…

في الأثناء أصبحت كلمة حبّ باللّغة الفرنسية لا تحتاج إلى أي شرح لدي. وإذ كنت أحبّ عمّتي كثيرا فقد أصبحت أحبّ كذلك الرجل الأنيق الذي يتحادث معها بالإشارة يوميا ثم يشق الموج مثل طائر بحري  يظهر  ويغيب بين ثنايا الماء في انسجام رائق. أصبح لنا نحن الأطفال مواضيع هامة نتحادث فيها ونبدي الآراء حولها وخاصة موضوع عمّتي ومواعيدها الغامضة. كنا نتبارى حول دعوتها لمائدة الطعام إذ كانت ملتصقة بتلك الغرفة التصاقا غير مجد ترى أمّي التي لم تكن على علم بمغامرتها تلك وكنا نتستّر عن كل ما يحدث حبّا في عمّتي وفي الرّجل الذي تلتقي كلّ يوم.

تواترت الأيام وكانت تمضي على نفس الوتيرة حتى كان ذلك اليوم.

 يومها عادت عمّتي إلى البيت متأخّرة وكانت منتفخة الجفون . سلّمت على أبويّ  في برود وانتحت مكانا في الفيرندا حيث جلست. كانت تبدو منفعلة. اعتذرت عندما دعتها أمّي إلى تناول العشاء  ثم انخرطت في البكاء. أسرع أبي نحوها  يستطلع الأمر  وبقيت أمّي ترقب المشهد من بعيد  محاولة تهدءتنا ثم طلبت   منا بإلحاح شديد الالتحاق بالحديقة وأن ننتظر إشعارا من أبي. أسرعنا نلبّي ما طلبته منا وبقينا  هناك نتهامس حول  من نعرف ونؤلّف سيناريوهات متعدّدة  ونترقّب إشعارا من أبي.. لم يأت.

بعد وقت خيل إلينا  أنه طويل وممتد دعانا أبوانا لتناول العشاء . أظن أني كنت الأكثر تحفّزا لرؤية عمّتي واكتشاف ما وراء السّجف الاجتماعية  فركضت أستطلع ما يحدث.  كانت عمّتي  في مكانها أمام الطّاولة . كانت تبتسم . تخالها تتابع  حفلا  جميلا.  رحّبت بنا وجلسنا كلّنا حول الطّاولة دون أن نسأل وطفقنا ننظر إلى  بعضنا البعض ونسترق النظر إلى عمّتي.

فجأة استوى  أبي واقفا  وقال يخاطبنا : أنا سعيد بوجودكم جميعا وخاصّة بوجود أختي فوزية …ثم صمت برهة و أضاف :هل تحبّون عمتكم فوزية ؟ صحنا جميعا  ” أجل يا أبي , كثيرا” عندها تنحنح أبي وقال بصوت  تضمّخه بحّة حرجة: عمّتكم فوزية يا أولاد …ستتزوّج.ا…قال ذلك وصمت  بينما طفقت أتأمّل عمّتي التي أحب …تأمّلت عرقها رشاشا  على صدغيها وشعرها المنسدل على كتفيها  في ما ترتجف يدها اليمنى فوق الطاولة.  أحسست بحرجها في حضرتنا وسمعتها تقول وكأنّي أصحو من حلم لذيذ : سوف نتفادى الشجار بصوت عال  مثل جلّ الأزواج …ثم صمتت قليلا قبل أن تضيف: لأن خطيبي رأفت أخرس …وابتسمت.

أثارت وطأة المفاجأة حيرة كبيرة بين إخوتي كانت بادية  على وجوههم… إلا أنا  . فقد  فهمت حينها سرّ صمت  عمّي رأفت  وتحاوره مع عمّتي بالإشارة وسبب بكائها  عندما  قرّرت الزواج من رجل أبكم و إسراعها  بإعلام أبي وأمّي بقرارها.

كان الكلام يتوقّف عند شفاه عمّتي ليموت عند شفاه عمّي رأفت.

شردت بأفكاري إلى حيث  بيت جميل وصامت يخترق شرفاته صوت هبوب الرّيح وصوت الرّعد في الأعالي و صوت وقع زخّات  المطر في الشتاء وسقسقة الطيور في فصل الرّبيع في ما يتحدّث  عمّي رأفت إلى عمّتي فوزية بالإشارة فلا يستمع إلى أنغام الموسيقى أو هدير التلفزيون و رنين الخلوي الذي لا يحتاجه .

كنت أراه كما يرى النائم شخوصه المتكلّمة الصامتة في آن , فلا تتخطّى صدره  بل تبقى عالقة بأهدابه مثل الشّظايا  تعمّر ليله وتلوّن  نهاره…كان ذلك شبيها باللّغز بالنسبة إلي وكنت أفكّر في لقاءاتنا المستقبلية يدثّرها الصمت ويغلق دونها خصائص نبراته الصّوتية التي ترشدنا إلى أحاسيس شتى تنسج العلاقات بيننا وأحيانا تغيّر حياتنا .

قلت في نفسي وكنت مولعة بقراءة  القصص : تعيش عمّتي حبّا صامتا…

 ثم قمت إلى عمتي فوزية أقبّلها وأقدّم لها تهاني الحارّة.

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *