أجيال اللغة..

*يوسف أبولوز

تحمل اللغة العربية في بنيتها التاريخية واللغوية والجمالية أكثر من لغة عربية. إنها مجموعة لغات، أو إنها لغة مؤلفة من طبقات.. كل طبقة تنبني فوقها طبقة منذ العربي الجاهلي وحتى اليوم، الأمر الذي يؤكد ما يقال دائماً إنها لغة متجددة..مرنة.. تلبي حاجة الإنسان، وتلبي حاجة الأدب بشكل خاص، وبالأخص منه الشعر.
إن تجدد اللغة العربية لا يأتي عن طريق المعجميات أو تعريب المصطلحات أو البرامج التي تضعها المؤسسات للتطوير وتنفيذ التوصيات التي عادة ما تخرج بها مؤتمرات ومنتديات اللغة.. فقط.. بل إن تجديد العربية ثبت أنه يأتي بشكل أساسي وجوهري عن طريق الأدب -الشعر، النثر، الرواية، المسرح، والنقد الأدبي الجمالي الإبداعي لا النقد النظري المصطلحي الجاف.
بالإبداع، ومرة ثانية وأكثر من مرة ثانية، تتجدد اللغة العربية، بل بالأدب تتجدد كل لغة على وجه هذه الأرض، وبالشعر والنثر تنمو اللغة، وتتطور عبر تاريخها، وعبر أجيالها، وكما أن للبشر والجغرافيات والنباتات والحيوانات أجيالاً، هناك أيضاً أجيال للغة.

حديثنا عن اللغة العربية الأكثر من لغة عربية.. وأكثر من جيل وأكثر من طبقة لغوية.
أول جيل لغوي عربي هو جيل القرشي العربي، وقبل ذلك لغة الشعر الجاهلي، لغة امرئ القيس، وذي الرمة، لغة المعلقات، ولغة سوق عكاظ، لغة سجع الكهان، ولغة ورقة بن نوفل، ولغة تجار مكة..
هذا هو الجيل الأول في رأيي الشخصي أو في اجتهادي الشخصي، وكثيراً ما يشار أن لغة الجاهلي أو لغة الشعر الذي قالته العرب قبل الإسلام له معجمه التفسيري الخاص، واليوم نفهم لماذا وضع أكثر من شرح للمعلقات على سبيل المثال.. بينما الآن لا تجد شرحاً لقصيدة لمحمود درويش.. ذلك أن لغة جيل المعلقات أو لغة الشاعر الجاهلي تختلف كلياً عن لغة جيل درويش.
لغة الحاضرة الأموية والعباسية هي أيضاً لغة جيل آخر. أو هي جيل لغوي آخر أخذت فيه العربية تستعير مفرداتها أو توجد مفرداتها الجديدة من طبيعة الحياة «المعاصرة» آنذاك من دمشق إلى بغداد، وأكثر من ذلك دخول أو هجرة مفردات مجاورة من لغات أخرى إلى العربية.. وصار على شاعر مدني حضري مثل أبي نواس أن يبدأ في صياغة معجم لغوي جديد كأنه قطع طبيعي مع المعجم الجاهلي.. أو معجم صدر الإسلام.
لغة شعراء الأندلس، أيضاً، هي جيل لغوي آخر.. أو مستوى لغوي آخر امتلأ بروح الطبيعة والماء والخضرة والموسيقى والغناء في فضاء أندلسي مدني ولد من هوائه الموشح الأندلسي، والموشح، كما نعلم، يقوم على لغة مختلفة كلياً عن لغة الشاعر الجاهلي والأموي والعباسي.
الجيل اللغوي الآخر أو الجديد نلتقي به عبر فن الرواية، التي تعتمد في لغتها على السرد. ولغة السرد لغة قص وحكاية، إنها لغة ثقافة جديدة، ومجتمع عربي جديد أخذ يبتعد عن نثر سجع الكهان، إذ إن نثر الرواية الجديد هو نثر سردي حكائي معزز بفنيات جديدة مثل الديالوج والمونولوج على سبيل المثال، معزز أيضاً بلغة ضمير المتكلم التي تساعد على السرد.. وكل ذلك.. يمكن تلخيصه في «سلة» لغوية واحدة.
أخيراً.. نأتي على توصيف سريع للغة الشعر، وهي مستوى لغوي أو طبقة لغوية مختلفة عن لغة الرواية السردية، ولغة المسرح الحوارية، فلغة الشعر هي لغة مجازية. لغة كنايات ولغة جناس وطباق، لغة بلاغية، ولغة صور شعرية مكثفة، خاطفة، إيحائية خصوصاً في نصوص الجيل الشعري العربي الذي ظهر منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى اليوم.
«خريطة الطريق» هذه للغة العربية رسمها ووضع خطوط طولها وعرضها وعموديتها وأفقيتها ثلاثة: الشاعر، الروائي، والمسرحي.. بمعنى، مرة ثانية، أن اللغة تتطور، وتتجدد وتنمو بالإبداع الأدبي الذي هو الأساس.
______
*الخليج

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *