شعرية الكتابة في ديوان “محال نكون أنا؟” للزجال عز الدين الشدادي

خاص- ثقافات

*سعيد حفياني

تسعى هذه الورقة إلى مساءلة نصية للديوان الزجلي “محال نكون أنا؟” للشاعر الزجال الشاب عز الدين الشدادي، مساءلة منطلقها الأساس النظريات النقدية الحديثة القائلة بفقدان النص لمعناه في غياب تلقيه المنتج، على حد تعبير “موريس بيكهام” أحد رواد جمالية التلقي، مؤكدين على أن هذا الاشتغال لا يدعي لنفسه الممارسة النقدية المتخصصة، بقدر ما نحسبه انطباعات ذوقية لعل قراءة ثانية بمُكنتها الغوص في أعماق هذا المنجز النصي الذي يبقى مفتوحا على قراءات أخرى أكثر عمقا وتحليلا. وقد رامت مساءلتنا هاته كشف هذا المولود الجديد والاقتراب من عوالمه التي يتداخل فيها الخطاب الشعري والسردي، هذا التداخل الذي يعد ملمحا جماليا يؤكد أدبية النص. وقد عمدنا إلى مقاربة هذا المتن الزجلي في ضوء هذا التراسل الإبداعي، حيث أقر النقد الأدبي الحديث بانسلال السرد إلى كل الفنون الكتابية منها وغير الكتابية و وهيمنته عليها، على حد تعبير “رولان بارث”، كما أشار “دنيس فارسي” إلى أن موضوع الشعرية لم يعد هو  الشعر فحسب، بل تعدته لتوظف في مستويات عدة كالصورة والعنوان والإهداء إلى غيرها من المناصات وفي الزمن واللغة والسرد إلى غيرها من المكونات.

تقديم:

يحمل الديوان الموسوم بـ”محال نكون أنا؟” بين دفتيه ستة قصائد تفاوتت طولا وقصرا، وهي: “محال نكون أنا؟، فوق الجهد، متاهة، لبلاد، قلب واحد، خيتي يا خيتي”. صدر الديوان في طبعة أولى أنيقة في حجم متوسط من ثلاث وستين صفحة، من تصميم وإخراج الأستاذ توفيق البيض، وقد تصدره مُناص الإهداء إضافة إلى مقدمة كتبت بالعامية موقعة من قبل الزجال إدريس أمغار مسناوي. و كما يبدو فقد سار الزجال على نهج العديد من المبدعين حين اتخذ من عنوان إحدى قصائده عنوانا رئيسا للديوان.

 

شعرية الغلاف

تعد الصورة شكلا من أشكال التعبير الإنساني، وأداة مهمة من أدوات التواصل في عصرنا الحاضر؛ إذ أضحت عنصرا دالا منتجا للمعنى، قابلة للإدراك والتأويل، شأنها شأن اللغة وباقي الأنساق التعبيرية الأخرى. وقد وظف الزجال صورة عبارة عن لوحة تشكيلية تدخلت فيها يد الفنان فأبدعت صورة مركبة سجلت حضورها بشكل بارز على غلاف الديوان. تأثث فضاء هذه الصورة بمجموعة من الوحدات الأيقونية المشحونة بالدلالات، أبرزها شخص مبهم الملامح، منعدم الهوية الجسدية، فهو إذن، دون شك، يبحث عن هوية، جُسِّد هذا الشخص في وضعية جلوس فوق كرسي أحمر اللون، على يمينه طريق بها منعرجات، وأسفل رجليه أقيم حاجز رُسم هو الآخر باللون الأحمر، وقد فصل بينه وبين مساره الصحيح، يطل يسار رأسه شبح أسود اللون، وأمامه مباشرة تموقع عالم ميتافيزيقي وقد ظهرت منه أسنان وخرجت من فمه وردة يغلب عليها اللون الأبيض متجهة نحو الأعلى حيث الفضاء بنفسجي اللون. ولكي يتحرر هذا الشخص (الأنا) من وضعية الخمول ومن سطوة المكبوتات ورغباته الدفينه وأحلامه التي يختزنها لا عيه والتي تحيل عليها الأشباح، ولكي يثبت ذاته عليه التحرر من هذا الكرسي والنهوض لمعانقة العالم البنفسجي، عالم المستقبل الذي ينبغي أن يحقق فيه الإنسان وجوده ويبني مشروعه الذاتي، إن الزجال بهذا المُناص يؤسس ويدعو هو الآخر إلى الوجودية التي جاءت لتحرر الإنسان من الأحاسيس السلبية التي رافقته طيلة الحرب العالمية الثانية كالعدمية والموت والدمار…

كما عُززت الصورة بجملة من المشيرات اللغوية أهمها العنوان “محال نكون أنا؟” الذي بأر نفسه وسط الصورة ليتناص دلاليا مع الصورة. فعلى المستوى الغرافي كتب بلون أحمر ، وبخط بارز مخالف لباقي العناصر اللسانية المشكلة للغلاف لما له من وظائف تتجلى أهمها في تسمية النص وتعيين محتواه وإقناع المتلقي وجذبه إلى قراءته من خلال فعله الاستفزازي التشكيكي. تركب العنوان من ثلات كلمات: “محال” التشكيكية، وكلمة “نكون” المرتبطة  بالوجودية التي اعتمدت الكينونة والذات، إضافة إلى لفظة “أنا” التي تحيل على الشخص، من جهة، من حيث هو ذات عاقلة واعية بوجودها، كما تحيل على المكون النفسي ضمن الشخصية الإنسانية المنقسمة حسب التحليل الفريدي إلى (الأنا، والأنا الأعلى ثم الهو). وباعتبار العنوان خطابا مفكرا فيه، ونصا موازيا يقدم وظائف في مقدتها: تسمية النص وتعيين محتواه والإحالة عليه، فقد جاء مثقلا بالدلالات والإيحاءات الرمزية، محمولا بسخرية مبطنة؛ فالزجال تساءل من خلاله، إبداعيا، عن هوية “الأنا” وماهيته باعتباره كائنا عاقلا، ذلك الأنا الذات، الآخر، الفردي والجماعي. وتجدر الإشارة أن محاورة الذات والنبش في أعماقها وكشف أسرارها  تجسدت من خلال فعل “التمزيق” المثبت أيقونيا على غلاف الديوان، حيث يطل اسم عزالدين الشدادي.

 إن اعتماد اللوحة على اللون الأحمر لون الدم والمعاناة، لون العاطفة والطاقة وحب المغامرة، يستمد مرجعيته من  الفيلسوف نيتشه حين أعلن في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” أن أفضل ما يكتب هو الذي يكتب بدم الإنسان، وما يؤكد هذه الدلالة رؤية الزجال عزالدين الشدادي قائلا:

“هاك أحرفي كطرات من دمي

 ويلا ما كفاكش دمي

 هاكني حتى أنا”

فالزجال يتجاوز تقديم دمه قربانا للكتابة الإبداعية إلى تقديم ذاته وأناه كليهما استجابة لمقولة تولستوى “ينبغي للإنسان ألاّ يكتب إلاّ إذا تـرك بضعة من لحمه في الدّواة كلّما غمس فيها القلم”.

 

وقد دُعم العنوان بإشارة أجناسية “زجل” وطَّنت، هي الأخرى، حضورها أسفل الغلاف لتوجه القارئ وتعده لتلقي الخطاب الزجلي وما يقتضيه من آليات تفكيكية وتحليلة، كما دعم أيضا باسم المؤلف “عز الدين الشدادي” الذي كتب أعلى اللوحة. أما الصفحة الرابعة للغلاف فقد احتضت مقطعا زجليا من ديوان قادم يلخص ما تعانيه الذات الإنسانية من إكراهات، ويحرضها من جهة ثانية على إثبات أناها ووجودها، فرغم العراقيل ورغم الأقاويل فالذات في مكانها تعيش استقلاليتها، يقول:

“ولقيتني فيّ

واقف..

داخل..

ساكن..

شاد بيّ، ساكن الذات

وهُما يقولو:

راه راه

و أنا..

باقي قيّ

شايف ..

عارف..

بلّي أناي

تنفخ فيّ

وقبل ما نمشي

الروح مشات

وجدير بالذكر أن امتناع الزجال عن اختيار مقطع من الديوان وإثباته على ظهر الغلاف، كما جرت عادة العديد من الكتاب، أو إحالته على ديوانه اللاحق، يؤشر على تناص خارجي، ويشي بدلالة على مواصلة مشروعه الإبداعي الحداثي المؤسس على رؤيته الفلسفية الوجودية المستمرة وغير الثابتة.

شعرية الإهداء:

يعتبر الإهداء من المناصات، حسب تعبير جنيت، شأنه شأن العنوان والصورة، والعناوين الفرعية، والتقديم…. ذلك أن العمل الأدبي يتم إهداؤه دونما استقلال عنه، مما يدفعنا إلى البحث عن العلاقة الجامعة بينه وبين باقي المتعاليات النصية الأخرى. 

وردت بنية الإهداء نصا قصيرا على شكل رسالة مهداة من الزجال إلى أشخاص معينين، ومما جاء فيه قول الزجال: “إلى تلامذتي وأصدقائي”، فبهذه الإشارة التي تحيل على فضاء عمله وتواصله، ينبه إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الأنا والآخر، كما أن المقطع الإهدائي: “إلى زوجتي المستقبلية وأبنائي المستقبليين”، يدفعنا إلى القول إن عز الدين الشدادي لم يكتب ولا يكتب للحاضر فقط، بل للمستقبل والحاضر معا؛ فبهذه العبارة يحدد ملامح أسرته وأناها انطلاقا من مشروعه ورؤيته الوجودية، وهنا نلمح الطابع الكوني لإبداع الزجال عكس الأعمال الموغلة في التقليد. 

شكل الكتابة ومرجعيها في ديوان محال نكون أنا؟

إن اختيار الزجال عز الدين الشدادي للتداخل بين الخطاب الشعري والسردي، عن وعي أو عن غير وعي، له ما يسوغه، فالكتابة هي استجابة لرغبة ذاتية قد تنفلت في هذا الشكل الإبداعي أو ذاك، فنصبح أمام نصوص متناصة شكليا، ذلك أنه عندما لا تطاوع القصيدة التقليدية فإن الشاعر قد يستعيض عنها بقصيدة النثر مثلا، رغم وعيه التام بالبحور الشعرية والإيقاع، كما يمكنه أن يستعيض عنها بالقصة، فنكون أمام سرد تحضر فيه الشعرية والعكس صحيح. ولنا في “محال نكون أنا؟”، دليل على حضور مكونات سردية ساحرة، فالشاعر حين أراد البوح، أراد مساحة زمنية يبث فيها رؤيته، بحث عن الشكل الأنسب لها فكان زجلا. فبعد تحويل مقطع من النص الأول “محال نكون أنا؟” إلى نص سردي نحصل على ما يلي:



“البارح وقف علي راسي، تهجيت حروفو ، ما عرفتوش!، طاح لي القلب، فالركابي، طار لي اللسان، فالعقل، تحبس لي الدم، فاللاوعي، واقيل،

 غ نحماق، واش أنا راسي وما عرفتنيش!، عيط على الكناش، المكتوبة على وجهو الحالة المدنية…..عيط لبويا، سولتو عليّ، تعوذ من الشيطان أو قال: (…)قلبت لوراق، ورقة ورقة، لقيتني مكتوب، بخط عريض، لقيتني عندي يوم، وعندي شهر، وما عنديش عمر، (…) واقيل أنا بنادم (…)”. وكما يلاحظ أنه رغم انتماء النص أجناسيا لفن الزجل، فإن اللغة تأبى إلا أن تخلق لنفسها عالمها السردي عن طريق حضور مكونات السرد (الزمان، الشخصيات، الأحداث، الحوار، الوصف). وإذا ما أردنا الحديث عن مسوغ ثان لهذه الطرائق الكتابية، فإننا سنضطر إلى الحديث عن تجربة المبدع في طرق باب الكتابة السردية حيث كتب نصوصا تنتمي إلى عالم الكتابة القصصية خاصة القصة القصيرة جدا.

إن الزجال عز الدين الشدادي كتب بمرجعية يوسف القعيد حين صرح أن الإبداع تعبير عن خلل ما في الواقع، وأنه يفقد رغبته في الكتابة عندما ينتفي هذا الخلل، ولعل الخلل الذي دفع بزجالنا إلى الكتابة هو تلاشي القيم الإنسانية النبيلة، لهذا نسمعه صادحا، مناديا، متوسلا عودة المحبة والأخوة المشتركة في قصيدته “قلب واحد”:

 “خاويني ونخاويك

قد الموت الأبدي

قد هذ

القليب

خلينا نسرحوا

نبضاتو

في التاريخ

بلا حركات

لا حروب

(…)

خاويني ونخاويك

قد الموت الأبدي

 قد لحماق العاقل

 قد السما

اللي ما عندها قد

قد لوفا

 اللي ما بقى بغاه حد”

كما كتب أيضا بمرجعة تتوق إلى تحرير الفلسفة من ربقة الوصاية التي تجعلها حبيسة دفتي الكتاب دون أن تتعداه إلى العقول لتتمظهر في سلوكيات الإنسان وفي إنسانيته، إننا في هذا المولود الإبداعي نلفي تقاطعا بين الفكر الفلسفي والفكر الأدبي، تقاطع يتغيا تحقيق التنشئة الفردية منها والاجتماعية بتغيير أنماط السلوك الفردي والاجتماعي بدءا بالدعوة إلى إثبات الذات، والتأسيس لرؤية مستقبلية لإنسان يتحرر من كل الترسبات الاجتماعية.

شعرية الزمن

لقد كسر الزجال في إبداعة هذا كرونولوجية الزمن، زمن يتعالى على الزمن الواقعي، ليصبح زمنا وجوديا، زمنا للذات، يقول في نص “متاهة”:

ف بندول الزمن

ما لقيتش ستين دقيقة

لقيت سوايع

هربانة من العمر

كما تناول في النص ذاته متاهة وجود الأنا داخل الزمن، فهي لم تته بوجود هذا الأخير، لكن تاهت بما يحيط بها من مكونات وسخرت منها؛ فالإنسانية سلبت:

“في بندول الزمن

لقيت ناس

قالبة لوجه قفا

لقيت

جوج ما يتعاشروش

 الحب ولوفا”

 كما سلبت قدرة الإنسان وإرادته:

“ف بندول الزمن

توقف الزمن

تحرك البندول

طحت من الأرض

الأرض

 حليت عيني على

 حفاري

ومقابر

شلا جوع

شلا خوف”

شعرية اللغة:

تتحقق شعرية اللغة في ديوان “محال نكون أنا؟” من خلال خرقها للمتداول وانزياحها عن المألوف. يقول في نصه “فوق الجهد”: “شامة وا هي شامة

مال مهماز الغرام

 حامي

وهذ الجسد عليل

 ما يقد يهز جروح

فوق الجهد

البحر مداد

 ولمواج دواية

منها رضع

بوسيدون

(…)

فوق الحهد

بنيت الحب مجرة

كواكبها محبات

مصافة

صفوف النجوم

(…)

 مجلي من خطايا

 من عيوبي

من جيوبي

من ذنوبي

وتذكرتني صلصال فوق اللوح”

 إنها لغة تتجاوز التصوير الفوتوغرافي التقريري المباشر إلى اعتماد الكثافة الرمزية والإيحائية والصور البلاغية، لتصبح لغة تجمع بين الوظيفة البلاغية والوظيفة الإبلاغية.

هذا ما عنّ لي في قراءتي الأولية، مؤملا أن تؤاخيها دراسات أخرى تقدم لهذا الديوان معنى آخر. وفي انتظار الديوان اللاحق المتعالق نصيا بهذا المولود، كما سبقت الإشارة إليه، نتمنى للزجال الشاب عز الدين الشدادي دوام التألق والإبداع.  

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *