القدس.. هوس المستعمرين

*محمد الأسعد

مع مطلع سبعينيات القرن العشرين بدأت تتكشف علمياً، اعتماداً على أبحاث أثرية ولغوية وتاريخية، حقيقة زيف الروايات «الإسرائيلية» عن فلسطين وتاريخها، وخاصة العلاقة المزعومة بأرضها وعاصمتها «القدس»، ولم يعد أي عالم، سواء كان شرقياً أو غربياً، يحترم عقله، ينظر إلى قصص التوراة اللاهوتية نظرته إلى مصدر تاريخي، ومع ذلك ظلت ما تسمى «ظاهرة لوثة أورشليم المرضية» حسب اصطلاح حتى باحث «إسرائيلي» يدعى «يوفال غورين»، تدفع محتالين إلى تلفيق آثار ولقى ونقوش بهدف إقامة صلة بين «أورشليمهم» والقدس، كما تبين من تحقيقات جرت مع مطلع القرن الحادي والعشرين، وكشفت عن وجود شبكة من هؤلاء واسعة يعمل فيها ملفقو قطع أثرية ونصوص وناشرون صحفيون و«خبراء» لغات و «علماء» تاريخ.
الهوس بالقدس في المخيلة الاستعمارية أصاب سلسلة طويلة من الساسة والجنرالات الغربيين، فتحدثوا عن القدس العربية الفلسطينية بوصفها «أورشليم» التوراتية، وآخر هؤلاء الرئيس الأمريكي «ترامب» الذي أعلن أن القدس التي لم يقم فيها أثر يهودي واحد طوال تاريخها، عاصمة عمرها ثلاثة آلاف عام للمستعمرة التي أقامها الغرب على أرض فلسطين في العام 1948 وأطلق عليها تسمية ««إسرائيل»» المختلقة، حسب الباحث الاسكتلندي «كيث وايتلام»، اختلاقاً ومحاكاة لمدن أوروبا القومية الحديثة.
إذا وضعنا جانباً من يسمون «علماء الآثار التوراتيين» الأشهر في التلفيق واختراع صلات نسب بين آثار فلسطين و«إسرائيلهم» المختلقة هذه منذ أن بدؤوا التنقيب في الأرض الفلسطينية بهدف واحد هو العثور على ما يتخيلون لا على ما يجدون فعلا، لا يمكن أن نأخذ مأخذاً جاداً دعاوى ساسة وجنرالات الغرب وشركات أسلحتهم «الدينية»، فهم ليسوا بوارد خدمة أي ديانة سوى ديانة رأس المال المتوحش الباحث عن الثروات والأرباح. ولنا مثال في الانخراط الانجليزي الجديد في قضية القدس، وفلسطين بشكل عام، بدءاً من العام 1799 مع صد قوات نابليون عن أسوار عكا بفرقاطة بحرية ملكية، ثم تصاعد الاهتمام بفلسطين حرصاً على حماية طريق بريطانيا إلى الهند، مدفوعة بمطامع سياسية واقتصادية واستراتيجية. وكانت حكايات التوراة غطاءً تكفل بنشره ما سمي صندوق استكشاف فلسطين المؤسس في العام 1865، مع إعلان أسقف يورك في حفل افتتاح الصندوق عن نية استعمار فلسطين بالكلمات التالية: «هذا البلد فلسطين، لي ولكم، إنه لنا من حيث الجوهر».

ومن المعروف أن أهمية فلسطين تعززت مع افتتاح قناة السويس، فاحتلال مصر في العام 1882، ثم الاستيلاء عليها واستعمارها عسكرياً لإقامة مستعمرة على طريق الهند، وليس لأن الجنرال اللنبي الذي قاد جيش الاحتلال كان مفتوناً بأورشليم توراتية أو أي نوع من الأورشليمات، إذا استثنينا شاعرهم المدعو «وليم بليك» الذي أصابته اللوثة، ولكنه حلم بإقامة «أورشليم» على الأرض البريطانية.
الرئيس الأمريكي «ترامب» ليس خارج هذا الموروث الاستعماري الذي استخدمه المستعمرون الغربيون حتى ضد أبناء قارتهم، فشنوا حروبهم المزعوم أنها «بدوافع دينية توراتية» ضد فلاحيهم المتمردين، وغزا الإنجليز اسكتلندا تحت ذرائع «دينية توراتية»، مثلما غزوا إيرلندا بالذريعة نفسها.
ومنذ أن توافد من يسمون «البيوريتان» على أمريكا، أقام هؤلاء صلة مفاهيمية بين أمريكا «كأرض موعودة» وفلسطين التوراتية في مخيلتهم، فعملوا على إبادة سكان أمريكا الأصليين بوحشية بالغة، والحجة أن هؤلاء الذين أطلقوا عليهم لقب «الهنود» هم من نسل الكنعانيين أعداء بني إسرائيل، ونسبوا إليهم صفات التوحش والبدائية ظلماً، تماماً كما نسب الصهاينة وغربهم هذه الصفات للشعب الفلسطيني تبريراً لإبادته وتشريده والاستيلاء على وطنه.
يقول الباحث الأمريكي «لورنس ديفدسن» إن أمريكا البروتستنتية «رعت عدداً من الإرساليات إلى الأرض المقدسة ونظرت إلى إعادة استيلاء المسيحية (كما كيفتها مطامع الفرنجة قبل ذلك وحولتها إلى أداة حشد واستنفار فلاحي أوروبا وفرسانها القروسطيين لغزو شرقنا العربي، شرق العطور والتوابل والذهب والحرير) على فلسطين خطوة تقود إلى تحرير الأرض. ولهذا كان فرض الاستعمار الغربي على فلسطين (واستعادة القدس) متصوراً على أنه نعمة ربانية إيجابية تؤكد عظمة المجتمع الغربي».
القدس بالنسبة لهؤلاء، ساسة وعسكريين ومنقبين، حسب مزاعمهم تضم تحت ترابها غائباً هو «أورشليم»، ويقوم عملهم على «استعادة» هذه الأخيرة (حسب عنوان تقارير ولسون ووارين، 1871)، وهذه «الأورشليم موجودة ولكن تحت سطح الأرض» (حسب عنوان تقارير وارين وفنسنت 1914)، وهي «أورشليم باطنية» (حسب تقرير جودرتش فرير 1904). كل هذا يعني ضمناً أن القدس العربية الفلسطينية المعاصرة اليوم، ذات أماكن العيش والعمل والعبادة والأسواق، ليست سوى وهم، وأن أورشليم المتخيلة ضاعت بطريقة ما، وطُمرت أو أخفيت قبل وصول المستعمرين الغربيين.
في القدس لا أثر لكل هذه المزاعم، فطيلة ما يقارب أكثر من قرن ونصف القرن من التنقيب لم تكشف إزالة الحجر الفلسطيني إلا عن حجر فلسطيني، ومع ذلك تمسك المستعمرون الصهاينة القادمون من مختلف الجنسيات والأصول، بأسطورة وجود «أورشليم» التوراتية الشبيهة بجبل قاف القائم في ألف ليلة وليلة، فأقاموا في القدس متحفاً وصفته الباحثة «نادية الحاج» وصفاً مستفيضاً، فقالت إنه متحف يخلو من العاديات مقام في قلعة مملوكية أطلق الصهاينة عليها اسم «قلعة داود»، والمقصود أنه يروي حكاية القدس عبر العصور، وكي يروي يزج فيه القائمون عليه برؤيا عصور توراتية متخيلة تحضر بوساطة الصور الهولوغرامية والتسجيلات الصوتية.
تماماً كما يمثل الآن تمثال ذلك الغازي الإفرنجي، الذي نصبته ملكاً غزوات الفرنجة المتعددي الجنسيات والمطامع لسوريا الكبرى، ممتطياً حصانه وحاملاً رمحه في ساحة من ساحات «بروكسل»، مقر الاتحاد الأوروبي، وقد كتبوا على قاعدته عبارة «جودوفروا ملك القدس».
وأذكر أنني حين وقع نظري على هذا التمثال، وقرأت اسم صاحبه، أدهشني أن الغرب الإفرنجي، الذي لم تغادر وجدانه مطامع قرونه الوسطى المعتمة كما يبدو، مصرٌ على تقديم العلف لحصان علاه الصدأ، وتحول فارسه إلى تراب ربما جبله قصّارٌ فلسطيني وسد به ثقوباً في جدار.

 ________
*الخليج الثقافي

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *