لماذا لم تكشف مؤلفة «النبيذة» شخصية الأستاذ؟

*ريمون شكّوري

إني أُرجّح أن يكتشف قرَّاء الروايات الثلاث الأُول للمؤلفة إنعام كجه جي، المهاجرة إلى فرنسا منذ عدة عقود، بأن قلبها لم ينفك عن الخفقان في وطنها الأُم، فقد وضعتْ على لسان أحد أبطال «الحفيدة الأميركية» قوله: «شُلتْ يميني إذا نسيتُكِ يا بغداد». «النبيذة» عنوانُ الرواية الرابعة لها والصادرة عن «دار الجديد» في بيروت هذا العام في 340 صفحة.
واسترعتْ انتباهي ــ حتى قبل قراءتي الرواية ــ تاءُ التأنيث في عنوانِها غير المألوف بالنسبة لي على الأقل. استعنتُ بـ«المنجد». لكنه لم ينجدْني. ثم استعنتُ بِمعجم «محيط المحيط» لبطرس البستاني، فتبين لي أن «النبيذة» هي التي لا تُوكَل من هزال. وظهر عند قراءتي الرواية أن منصور البادي، أحد شخوصها، هو الذي نحت الكلمة إذ يقول: أمسكُ القلم وأتردد. أكتب «نبيذ» وأتأمل المفردة. أضيف إليها تاء التأنيث «نبيذة». ثم يهرع مستنجداً بمعجم قديم لجرمانوس فرحات.
تتمحور «النبيذة» بصورة رئيسية حول الحكم في العراق المعاصر خلال حقبِه الملكية والصداميِّة والاحتلال، وإسقاطاته على الشعب ممثلاً بمعاناة امرأتين عراقيتين، هما تاج الملوك عبد الحميد البطلة الرئيسية في الرواية، ورفيقتها وديان الملاح ومعاناة منصور البادي الفلسطيني الذي فقد وطنه. ويرتبط منصور بعلاقة حبٍ مع البطلة تاج الملوك. إلا أنه حبٌ لن يتحقق.
– أسلوب السرد
تُسْرَدُ أحداث الرواية بلغة عربية راقية وسليمة (فيما عدا عبارات الأمثال الشعبية) بأسلوبٍ يشدُّ القارئ ويحفزُّه على الاستمرار في القراءة، ويُبقيه في طورٍ من تساؤلاتٍ لا يجد لها جواباً مباشراً. وهو أسلوب يعتمد التعرج في البعدين الزماني والمكاني، أو كما يُسمى عند أوساط أهل الرياضيات «لاخطي ثنائي الدرجة». وتُضفي المؤلفة حلاوة على السرد بنكهة البيئة المحلية من خزينها الوفير من الأمثلة الشعبية.
تَلتقط المؤلفة بعناية خيوطاً من محيط مجتمعها وتنسج عليها بمغازلَ خيالِها الخصبِ المتبَّلِ ببهاراتٍ من الواقع بساطاً كولاجياً متعدد الأبعاد والألوان، وتُحرِّك فوقه شخصياتِها التي «تُركِّبها» مثلما يُصَنِّعُ الكيميائي مواد جديدة. وهي شخصيات من بنات الخيال لكن القارئ يحس كأنما يعرفها، وهكذا تخلق المؤلفة جواً ساحراً يُغرِق القارئ بالمتعة.
– أبطال الرواية
وُلدتْ تاج الملوك في إيران، وجاءتْ إلى العراق وهي في الخامسة من عمرها مع والدتها وزوج والدتها العراقي. فنشأتْ في بغداد شابة جميلة ومتحررة ومتمردة على تقاليد المجتمع السائدة. استذوقتْ الآداب والشعر بفضل اختلاساتها الإنصاتية في المجالس الأدبية التي كان يعقدها أسبوعياً زوجُ أُمها في بيته. فنمتْ قابلياتُها الكتابية ونضج حسُّها الأدبي. ثم تعلمتْ أساليب وفنون الصحافة فغدتْ رئيسة لتحرير مجلة «الرحاب»، تقابل الوزراء وكبار الشخصيات السياسية في عراق العهد الملكي، منهم الوصي الأمير عبد الإله، والباشا نوري السعيد، وبهجت العطية مدير الأمن العام، ومن خارج العراق كالملك عبد الله جدّ الملك حسين ملك الأردن الراحل، والحبيب بورقيبة، ووزير الخارجية البريطاني آنتوني إيدن. وقد أغدق نوري السعيد على مجلتها مساعدات فصارت بوقاً لآرائه السياسية المؤيدة للإنجليز.
منصور البادي الفلسطيني شخصية مهمة في الرواية. نشأ في نهايات عشرينات القرن الماضي حين بدأ اليهود «يزحفون كالجراد» إلى فلسطين وبداية «الطاخ والطيخ» بينهم وبين الفلسطينيين. يجيد اللغة الإنجليزية بفضل دراسته الثانوية في لندن. ومعتادٌ على تسجيل مذكراته اليومية. وبعد احتلال اليهود أراضيَ فلسطينية جاء إلى بغداد في نهايات أربعينات القرن الماضي ووجد عملاً فيها. لكنه لم يمكثْ طويلاً وانتقل إلى كاراجي، حيث عُيِّن مذيعاً في القسم العربي من إذاعتها.
تبدأ الرواية بتعريف القارئ على تاج الملوك: أرملة مسنة، تجاوز عمرها التسعين، متغضنة الوجه ومنحنية الظهر وتعاني آلاماً في المفاصل، نزيلة مستشفى في باريس، تسير متعكزة عصاها وتتابع من على سريرها في المستشفى أخبارَ ما يُسمى الربيع العربي من خلال راديو صغير. وتُعرف باسم مدام شامبيون، لقب زوجها الذي كان ضابطاً في المخابرات الفرنسية زمن الثورة الجزائرية. ويتفجر شلالُ ذكرياتها عندما تكتشف أن المريض الراقد في شبه غيبوبة في غرفة بالقرب من غرفتها هو الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بله الذي جاوز عمره التسعين أيضاً. فتسترجع دورَها حين جنِّدتْها المخابرات الفرنسية قبل خمسين عاماً للاشتراك بمحاولة لاغتياله، في القاهرة، بإعطاء إشارة ما. وتتذكر اللحظة الحاسمة التي غيَّرتْ فيها رأيها بعدم إعطاء الإشارة المتفق عليها.
ثم تظهر الشابة وديان الملاح، الشخصية الثانية في الرواية، حين تقوم بزيارتها اليومية لتاج الملوك في المستشفى. البطلتان «صديقتان تفصل بينهما عقود من التفاوت في العمر، الأُولى ضعف عمر الثانية، تتعايشان على الحافة بين التفاهم والتنافر». الأًولى عانتْ من عراق الملكية الذي سُمِّي العهد البائد، والثانية عانت من عراق الجمهورية والحروب والحصار الاقتصادي. كانت وديان الملاح عند بداية الحرب العراقية الإيرانية تدرس الموسيقى في مدرسة الموسيقى والباليه، في ظروف دوي الصواريخ وصافرات الإنذار واللجوء إلى الملاجئ. وعايشت بعد ذلك الحصار الاقتصادي. ثم غدتْ عازفة الكمان في الفرقة السيمفونية العراقية.
تَقَدَمَ إلى خطبتها حبيبها يوسف، الذي كان قد سافر إلى أميركا للدراسة وانتظرتْه خمس سنوات إلى أن عاد حاملاً شهادة الدكتوراه وعُيِّن أستاذاً في كلية الهندسة. وكانا يأملان أن يعيشا حياة سعيدة. لكن الرياح لم تجرِ كما تشتهي السفن. إذ دُفِعَ يوسف إلى الانضمام إلى شلة «الأُستاذ» الشرير مما أدَّى به أخيراً إلى فسخ خطوبته إلى وديان. لقد رآها «الأستاذ» معه فدعاها وحدها إلى حفلة تنكرية وأخضعها إلى إحدى نزواته السادية بأن أولج شيئاً حاداً في أُذنيها مزِّق طبلتيهما. فقدت وديان الحاسة الضرورية لسماع الموسيقى وعزفها. إلا أن القدر لم يهملْها تماماً، إذ رتَّبتْ السفارة الفرنسية في بغداد بعثة لعدد من طلبة الموسيقى من بينهم وديان لإكمال دراساتهم في باريس.
أُخضعتْ وديان في فرنسا إلى عمليات جراحية لترقيع طبلتَي أُذنيها. أعادتْ لها جزئياً حاسة السمع. وقادتها المصادفات إلى لقاء تاج الملوك. امرأتان قذفتْهما الأقدار بعيداً عن العراق. ربطتهما علاقة أقوى من الصداقة وأقرب إلى الأمومة. ولكن كيف حملتْ «الرياح» تاج الملوك إلى باريس؟ كانت لها في بغداد سطوة من نفوذ في أوساط الطبقة الحاكمة، بفضل مجلتها «الرحاب» المدعومة من الباشا نوري السعيد، كما ذكرنا. ثم انقلبتْ الموازين عندما «دخل اسم بورتسموث قاموسَها» وقاموسَ جميع العراقيين. في ذلك الميناء البريطاني جرت اجتماعات انتهت بتجديد المعاهدة العراقية البريطانية بمعاهدة أكثر إجحافاً من سابقتها. «قامتْ القيامة في بغداد». إضرابات عمالية ومظاهرات طلابية جعلت العراق كله من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه ضد المعاهدة. وكان كاتب هذه السطور من بين المتظاهرين وعمره آنذاك ستة عشر عاماً. وتصدتْ الشرطة للحشود ووقع عدد كبير من الجرحى والقتلى من بينهم جعفر، شقيق الشاعر الجواهري.
في لحظة حاسمة قررتْ تاج الملوك النزول إلى الشارع والاشتراك في الاحتجاج. أحاط بها المتظاهرون ورحبوا بانضمامها إليهم. الصحافية الموالية للقصر ومدللة نوري السعيد تتظاهر ضدّه. ثم شاركت في مسيرة تشييع الشهداء وحملت لافتة جمعية الصحافيين ونشرتْ الجرائد صورَها. إذاً لم يعد لها مكان في العراق بعد ذلك. ولما جاءها عرضُ عملٍ في إذاعة كراجي العربية قبلته على الفور، وغادرتْ العراق إلى باكستان.
أغوتْ تاج الملوك رجالاً عديدين ولم يستطعْ أي منهم أن ينال قلبها سوى الفلسطيني منصور البادي. تعرَّفتْ عليه من خلال عملهما الإذاعي المشترك في كراجي. كان يصغرها بعدة سنوات إلا أن شخصيتَه الطاغية جعلته أكبر في عينها. لكن الظروف عادت وباعدتْ بينهما في قارتين مختلفتين. ورغم تباعدهما بقيا عاشقين من بُعد أي «Remote Love» يتواصلان بين حين وآخر بالمراسلة أو عبر التلفون على أمل اللقاء يوماً ما. وتزوج كل منهما بِمَنْ لا يحب. قذف القدر بمنصور بعد إنهاء عَقْدِه في إذاعة كراجي إلى كراكاس في فنزويلا حيث ارتقى مناصب عالية فيها إلى أن صار مستشاراً مقرباً من الرئيس الفنزويلي شافيز.
أمّا تاج الملوك فتوجهتْ في بداية الأمر إلى مسقط رأسها. وهناك في إيران صار لها، للمرة الأُولى في حياتها، علاقة حميمة مع أحد أمراء العائلة الملكية الأسبق. ثم تزوجتْ ضابط المخابرات الفرنسية الكومندان سيريل شامبيون الذي زج بها للعمل معه واستثمر زواجَه منها لخدمة أهدافه، ومنها محاولة اغتيال بن بلة الفاشلة. هكذا عاشت في باريس وقد غدا اسمها مدام شامبيون. وكانت قد تقدمت في السن حين تعرفت على وديان الملاح، وتَوَثقتْ العلاقات بينهما كنتيجة طبيعية للشعور النفسي بحاجة كلٍ منهما إلى الأُخرى. إذ أن وديان الشابة في حاجة إلى إنسانة مثل أُمها التي تركتْها في بغداد لتكون عوناً لها في تحمل حياتها الخاوية فوجدتْ في مدام شامبيون، أي تاج الملوك، تلك الإنسانة. وتاج الملوك بدورها تفتقر وهي في شيخوختها إلى مَن يكون مستعداً للاستماع إلى تفاخرها بقابلياتها في إغواء الرجال وفي صدِّهم، وأن يكون أيضاً مستعداً إلى مساعدتها على التواصل مع منصور الوادي الرجل الوحيد الذي نال قلبها. وقد حاولتْ وديان أن تكون وسيلة لتقارب العاشقَيْن العجوزين اللذين مضى كل منهما في طريق، لكنها أخفقتْ. وكانتا ــ على الرغم من صداقتهما ــ قطبين متضادين سايكولوجياً. حياة إحداهن مَلأى بالمغامرات العاطفية الحميمة بينما تكاد أن تخلو حياة الأخرى من أمثالها. وعالجتْ المؤلفة التضاد معالجة فرويدية وبلغة رمزية راقية، بِجَعل أحلام وديان الليلية تدور لملءِ ذلك الفراغ.
ما الذي حدا بالسيدة إنعام إلى التكتم على الاسم الصريح لـ«الأُستاذ» الذي له دورٌ مهـمٌ في سيرورة حوادث الرواية؟ أُقرّ بعدم استطاعتي إدراك ذلك السبب. صحيح، إن عراقيي اليوم يعرفون الممحي ــ كما يُقال. فلا حاجة إلى الإفصاح، لكن هل سيبقى القراء العراقيون في سنة 2030 مثلاً يعرفون مَنْ هو؟ وهل يعرفه جميع القراء العرب الحاليين؟
________
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *