الشعر بوصفه سيرة ذاتية

*يوسف أبولوز

يفرغ الكثير من الروائيين سيرهم الذاتية في أعمالهم السردية، وإن كان هؤلاء يتجنبون الإفصاح عن حقيقة البطل الروائي، وهي في الواقع حقيقة الروائي نفسه، أي هي سيرته الذاتية، ولكنه، ولكي يبعد الأنظار عنه يعطي البطل اسماً آخر بعيداً عن اسمه.
بعض الروائيين يسهل تحديده أو تعيينه في السرد أو في العمل الروائي، وذلك من خلال معرفة حياته، وعلى سبيل المثال من المعروف أن للروائي عبدالرحمن منيف تجربة سياسية في فترة المدّ القومي العربي وبجانبه المدّ اليساري العربي، لكن روايات مثل: «الأشجار واغتيال مرزوق» أو «شرق المتوسط» أو «مدن الملح» تشي بأنها سيرة أو أجزاء من السيرة الذاتية لعبدالرحمن منيف الذي يبني رواياته على أبطال آخرين.. هم في الواقع نسخة منه.
الكثير من روايات حنّا مينة تحمل سيرته وحياته وتجاربه في العمل في أكثر من مهنة بينها «حلاق».. لكن شخصية البحار مثلاً تنطبق على صاحب «الدقل» بحيث يسهل القول إن حنّا مينة الروائي أو المؤلف هو حنّا مينة البحار أو بطل الرواية.

غسان كنفاني أيضاً موجود في رواياته، وعلى الرغم من الطابع التجريدي التجريبي أحياناً في روايات مؤنس الرزاز، فإن الرزّاز موجود في رواياته، وكذلك، نجيب محفوظ الذي سوّى معماراً روائياً هو سيرة ذاتية لحواري وأزقة القاهرة.. هو أيضاً كشخص وكسيرة ذاتية موجود في رواياته.
الآن.. نأتي إلى الشعر. هل يمكن للشعر أن يكون حاملاً للسيرة الذاتية للشاعر، كما الرواية حامل للسيرة الذاتية للروائي؟
نعم.. يمكن الكلام على الشعر بوصفه سيرة ذاتية من خلال نماذج كثيرة.. ومن بينها عبدالوهاب البياتي.
عاش «أبوعلي» حياة منفى ورحيل وتنقل بين عدد من العواصم العربية والأجنبية.. وتبدو «ثيمة» المنفى دائمة أو ماثلة في شعره.. «.. وطني المنفى.. منفاي الكلمات..» يقول في إحدى قصائده، كما أن مفردة المنفى تتردد كثيراً في مجموعته «قمر شيراز» كما تتردد في مجموعته «بستان عائشة»، والمنفى جزء من حياة عبدالوهاب البياتي وسيرته الذاتية، والقصائد التي كتبها صاحب «أباريق مهشمة» منذ خمسينات القرن العشرين، تحكي حياته، وتحكي نزعته الوجودية، وأحياناً عزلته.
شعر بدر شاكر السياب يحمل سيرته الذاتية بدءاً من الإخفاق في الحب، مروراً بالمرض، وانتهاء بغربته الفردية في مدينة الكويت، حيث مات هناك، ونقل جثمانه إلى العراق في يوم ماطر، بل، إن سيرة نهر «بويب» يحملها شعر السياب، و«بويب» جزء من ذاكرته المكانية الأولى.
الكثير من الشعراء العراقيين الذين تركوا بلدهم في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين واختاروا أوروبا وأمريكا مكاناً لهم بعيداً عن أوطانهم «فرغوا» سيرهم الذاتية في شعرهم الذي يبحث عن التفاصيل اليومية، والحنين، والأرصفة، والحب، واللحظات الإنسانية العميقة والمباغتة.
نجد هذه التمثلات في شعر سركون بولص، وخزعل الماجدي، وحسب الشيخ جعفر، كما نجد هذه التمثلات في شعر بلند الحيدري، ويوسف الصايغ الذي بقي في العراق، في حين عاش الحيدري صاحب «خفقة الطين» في بريطانيا.
شعراء المخيمات الفلسطينية: أحمد دحبور مثالاً وغيره، شعرهم يحمل سيرهم الذاتية وسير المخيمات أيضاً، والأمثلة كثيرة عربياً وعالمياً وقراءتها جيداً تشير إلى أن الشعر هو السيرة الذاتية للشاعر، ونبض وجوده، وحياته المملوءة أحياناً بالتناقضات.
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *