ابن رشيق القيرواني حياة متقلبة لأديب استثنائي

*حسونة المصباحي

مؤخرا أصدر الأكاديمي والباحث التونسي أحمد الطويلي تحقيقا لكتاب كان قد ألفه الناقد والقاص التونسي زين العابدين السنوسي (1901-1965) عن الناقد المرموق الحسن بن رشيق القيرواني (1000-1071) صاحب كتاب “العمدة” الذي لا يزال يعتبر من أعظم وأشهر المراجع في نقد الشعر العربي والتعريف بخصوصياته وأغراضه ومضامينه.

النشأة الأولى

في مقدمة كتابه “الحسن بن رشيق حياته وديوانه” كتب أحمد الطويلي يقول “هذه دراسة عن الحسن بن رشيق قام بها زين العابدين السنوسي، وبقيت في مسوداته، وحرصت على إخراجها لما فيها من طرافة ومسحة مميزة ومعلومات انفردت بها دون غيرها من المراجع والأبحاث، ولتعمق السنوسي، ومعايشته المديدة للأدباء والمفكرين التونسيين”.

وأول ما يثير انتباهنا في كتاب زين العابدين السنوسي هو أن الحسن بن رشيق لم يكن قيروانيا (نسبة إلى مدينة القيروان)، وإنما هو ابن نصراني أعتق من الأسر، ليصبح مسلما وصائغا في مدينة مسيلة الواقعة في ما كان يسمى بـ”المغرب الأوسط” (الجزائر اليوم).

ويشير زين العابدين السنوسي أيضا إلى أن الاسم “ابن رشيق” كان شائعا في تلك الأزمان. كان يلقب به المماليك وأبناؤهم الذين تمكن البعض ممن تميزوا بينهم بالذكاء والفطنة والكد والجد من بلوغ مراتب سامية، وتقلد مناصب رفيعة.

وكانت مدينة مسيلة التي شهدت مولد الحسن بن رشيق من المدن البربرية. وهي تقع “في قلب البطاح المترامية بين سلسلتي جبال الأطلس في المغرب الأوسط”. وهي قريبة من مدينة قسنطينة. وفي الفترة التي ولد فيها الحسن بن رشيق، كانت منطقة المغرب الأوسط تحت سيطرة الحكام الصنهاجيين الذين كانوا يقيمون في القيروان شهرا واحدا في السنة، أما ما تبقى منها فيمكثون في بلدة “أشير” القريبة من مسيلة. متخذين منها قلعة حصينة للتصدي للثورات والانتفاضات الكثيرة التي كانت تهدد سلطتهم ونفوذهم.

وفي سن السابعة عشرة من عمره، تمكّن الحسن بن رشيق الذي كان قد أظهر نبوغا مبكرا من التقرب من الأمير الصنهاجي باديس مادحا إياه بقصيدة يشير فيها إلى أنه أصبح كاتبه الخاص. وفي ربيع عام 1016، شاع خبر يقول إن الأمير باديس توفي بلسعة عقرب فعاد الجيش الصنهاجي إلى القيروان، واعتلى العرش المعز بن باديس الذي كان آنذاك في الثامنة من عمره.

يقول زين العابدين السنوسي إن مدينة القيروان “بهرت بصر ابن رشيق الشاب”. وهذا ما نتبينه من خلال أثره الذي حمل عنوان “أنموذج الزمان”. وفي البداية واجه ابن رشيق مصاعب كثيرة. فقد جرّد من منصبه ككاتب للأمير. وكان عليه أن يمتهن مهنا مختلفة لكسب قوته. ولعله امتهن بيع الأشياء القديمة في أسواق القيروان.

إلا أن الحظ سرعان ما ابتسم له. فقد تمكن ذات مرة من الوقوف أمام الأمير الجديد لينشد قصيدة في مدحه وتمجيده. وقد فتحت تلك القصيدة أمامه أبواب الترف والنعمة، إذ أصبح بين عشية وضحاها مقرّبا من الأمير الذي أحاط نفسه بالشعراء لـ”يقتبس منهم”، وبالعلماء لـ” يتعلم عنهم”.

القيروان وتقلباتها

كان ابن رشيق يتفوق على بقية شعراء البلاط بـ”ابتكاراته وتجديده وحسن بداهته” ليصبح في فترة وجيزة علما من أعلام القيروان، إليه يلجأ الأمير الشاب كلما واجهته مصاعب في إدارة شؤون دولته. كما أنه أصبح يرتاد مجالس أعيان المدينة. ولم يكن يتردّد في “مشاكسة الشيوخ” الذين يكونون قد انتقدوا نزواته الشبابية، وميله للملذات، وحبه لمجالس الخمر والغواني الحسان. وهذا ما نستنتجه من خلال ديوانه الذي حفل بقصائد يتغنى فيها بالبعض من عشيقاته.

وقد ظل ابن رشيق يعيش هذه الحياة الباذخة والخالية من المنغصات لفترة تجاوزت الأربعين سنة. ثم فجأة حلت الكارثة التي أفضت إلى خراب القيروان. فقد زحف على البلاد التونسية أعراب بني هلال ليعيثوا فسادا ونهبا وقتلا في كل قرية أو مدينة يحلون بها. وفي القيروان أحرقوا البساتين والمكتبات، وشنقوا الأعيان والعلماء، واغتصبوا النساء أمام أزواجهن، والعذارى أمام آبائهن، وارتكبوا مجازر وشنائع أجبرت الكثير من أبناء المدينة على الفرار. وفي البداية فرّ ابن رشيق إلى مدينة المهدية التي كان قد استقرّ بها الأمير المعز بن باديس بعد خراب القيروان. وقد وصف هروبه من القيروان في قصيدة جاء فيها:

خرجت من الأوهام سبقا/ وقل له عن الوهم الخروج/ إلى الملك المعز أبي تميم/ أمر على سواه فلا أعوج.

وفي مدينة المهدية، أنهى ابن رشيق كتاب “العمدة”. لكن الخلافات سرعان ما اشتعلت بينه وبين الأمير الذي لم يعد يصغي إلى قصائده بنفس الرضى مثلما كان الحال في القيروان.

وذات مرة، غضب منه، وأحرق قصيدة من قصائده. فخرج ابن رشيق من عنده ليركب البحر مهاجرا إلى جزيرة صقلية، ويستقر في مدينة “مازرة” التي كانت تحت سلطة ابن مصكود.

وعلى هذا الأمير قرأ كتابه “العمدة”، وأهداه نسخة منه. وقد زعم ابن رشيق أن اسم جزيرة صقلية ورد في القرآن بحسب الآية التي تقول “والتين والزيتون وهذا البلد الأمين”. ولما وافاه خبر موت الأمير معز بن باديس رثاه بقصيدة.

ويشير زين العابدين السنوسي إلى أن ابن رشيق قد يكون ألف آثارا في صقلية إلا أنها فقدت جميعها. وقد تكون الحروب الصليبية سببا في ذلك. وبعد وفاته في مدينة “مازرة”، مدحه كبار الأدباء. فقد قال عنه ياقوت الحموي إنه “كثير التصنيف حسن التأليف”. ووصفه ابن خلكان في “وفيات الأعيان” بـ”أحد الفضلاء البلغاء”.

وفي “الذخيرة” قال عنه ابن بسام “كان -يقصد ابن رشيق- ربوة لا يبلغها الماء، وغاية لا تنالها الوجناء. إن نقد سقى الطبع الصقيل وحفده، أو كتب سجد القلم الضئيل واقترب شعاع القمر، وحديث السمر، ومعجزة الخبر والخبر”.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *